التحولات الكبرى في المنطقة العربية وفنون إدارة التغيير

ماسح الأحذية يقود أكبر حركة تغيير في بلاده

يعتبر الرئيس البرازيلي الخامس والثلاثون (2003-2011)، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، أحد أبرز قادة التغيير في العالم خلال العقد الأول من الألفية، حيث اختير كشخصية العام (2009) من قبل صحيفة «لوموند» الفرنسية، وصُنف حسب مجلة «تايم» الأمريكية (2010) بأنه «الزعيم الأكثر تأثيراً في العالم»، وحصل على وسام الاستحقاق البرازيلي، وعلى جائزة «فيليكس هوفوية ـ بوانيى للسلام» من اليونيسكو، وهو الشخص الوحيد في أمريكا اللاتينية الذي ورد اسمه في قائمة الخمسين الأكثر نفوذاً بين زعماء العالم.
وكان لولا دا سيلفا قد مرّ في طفولته بظروف صعبة، حيث توقف عن التحصيل الدراسي في سن العاشرة بسبب الفقر، واضطر للعمل كماسح للأحذية لفترة طويلة في شوارع ساو بولو، وكصبي في محطة وقود، ثم حرفي في ورشة، وميكانيكي لإصلاح السيارات، وبائع خضروات، وانتهى به الحال كمتخصص في التعدين.
وتعرّض في سن التاسعة عشر، لحادثة أثناء عمله في إحدى مصانع قطع الغيار للسيارات، أدت إلى فقدانه أصبعاً في يده اليسرى، وعانى الكثير ليحصل على العلاج، ما دفعه للتفكير في حقوق العمال ومدى أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع.
وفي عام 1981 حكمت علية المحكمة العسكرية بالسجن ثلاث سنوات ونصف بتهمة التحريض، إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في أول انتخابات لحكومة ساو بولو، ومن ثم المشاركة في عدة فعاليات سياسية منها، المساهمة في صياغة دستور البرازيل عام 1988، والترشح للرئاسة ثلاث مرات (1989، و1994، و1998) فشل فيها في الوصول إلى منصب الرئيس، ثم ترشح للمرة الرابعة عام 2002، وحصل على أكثر من 51 مليون صوت (بنسبة 61% من إجمالي عدد الأصوات) ليصبح أول رئيس يساري منتخب عن حزب العمال منذ إنشاء جمهورية البرازيل (1889).
وبمجرد توليه الرئاسة، بادر سيلفا إلى تبني برامج لدعم الفقراء، وتبنى برامج اجتماعية أسهمت في تحقيق نهضة اقتصادية، حيث استحدث ضريبة على صفقات الأسلحة في العالم لمكافحة الفقر، وينسب له الدور الأكبر في النهوض بالبرازيل من خلال خطة وضعها للنهوض الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية في بلد عانى سنوات طويلة من الاستبداد العسكري وارتفاع نسب التضخم والفقر والبطالة.
وتُعزى النهضة الاقتصادية للبرازيل في عهد سيلفا إلى الموازنة ما بين البرامج الاجتماعية للأسر الفقيرة مع التصنيع والتصدير بالاعتماد على الشركات العملاقة التي تنتج السيارات والطائرات والمنتجات الغذائية مثل اللحوم والدواجن، واستحداث برنامج «بولسا فاملي» بقيمة 80 مليار دولار، الذي حسن بموجبه أوضاع 8 ملايين أسرة فقيرة، مشترطاً على كل الأسر المستفيدة من هذا البرنامج أن يواظب أبناؤهم على الدراسة.
ولتحقيق إصلاحاته الاقتصادية، استعان سيلفا بخبراء اقتصاديين لتبني نظام ضريبي تدريجي نجح في توفير ما يقارب 60 مليار دولار خصصها لمساعدة الأسر الفقيرة والقضاء على ظاهرة توارث الفقر، ما أدى إلى إخراج أكثر من 20 مليون مواطناً من تحت خط الفقر، وفي غضون ثمان سنوات، سددت البرازيل كامل ديونها لصندوق النقد الدولي، بل وأصبحت من أكبر مقرضيه، وارتفع الحد الأدنى للأجور من 200 إلى 510 ريال برازيلي.
وبناء على تلك الإصلاحات ارتفعت البرازيل إلى المرتبة الثامنة كأكبر اقتصاد على مستوى العالم، وأصبحت من ضمن قائمة الدول المؤثرة في الخمس عشرة سنة المقبلة، وتشير التوقعات إلى إمكانية تخطي البرازيل اقتصاد ألمانيا واليابان معاً بحلول عام 2040، نظراً لمقوماتها الاقتصادية الضخمة في مجالات الزراعة والصناعة والاكتشافات البترولية الجديدة.
وتأتي تلك النهضة بالدرجة الأولى من إدراك الرئيس سيلفا أن البرازيل لم تكن تنقصها الأموال ولا الموارد، بل كانت المشكلة تكمن في تركيز الحكومات السابقة نحو الأثرياء، معتقدة أنهم رافعة اقتصاد البلاد الوحيدة، ما دفع بسيلفا للقيام بأكبر عملية تغيير اقتصادي تهدف إلى الاستفادة من أكبر ثروة تملكها البرازيل والمتمثلة في وجود 95 مليون عامل.

حتمية التغيير

يعتبر التغيير أحد أبرز ملامح المرحلة التي يمر بها العالم العربي اليوم، وخاصة في المجالات السياسية وفي مؤسسات الإدارة والحكم، إذ تعصف رياح التغيير بالإرث السلبي الذي تركته نُظُم الاستبداد، متمثلاً في الاستئثار بالسلطة، واحتكار الثروة، والفساد القائم على شبكات مترابطة من المصالح المحلية والخارجية، ما يجعل عملية التغيير بالغة الصعوبة والتعقيد.
ولا يمكن التخلص من ذلك الإرث الذي ساد منذ ستينيات القرن المنصرم عبر إجراءات عشوائية وردود أفعال تسودها الارتجالية وضعف الوعي، إذ إن الحراك غير المنظم سيؤدي إلى ردود فعل عكسية، ويجعل الشباب عرضة للاستغلال من قبل قوى خارجية ترغب في حرف مسار العملية السياسية في الجمهوريات العربية لصالحها.
وتأتي التدخلات الخارجية في الغالب جراء عاملين أساسيين هما:
– خوف دول المنطقة التي لم تعصف بها رياح التغيير من التأثيرات السلبية الناتجة عن العنف المصاحب للتغيير، والخشية من امتداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية إليها.
 – الخوف من المد الإسلامي الذي تعتبره الدول الغربية وبعض الدول العربية خطراً وجودياً عليها.
ومع دخول العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يبدو أن عملية التغيير ستكون أكثر مشقة وتعقيداً مما كان متوقعاً، إذ إن التدخلات الخارجية ومحاولات الاستحواذ على ثروات المنطقة قد نجحت في حرف زخم الحراك الجماهيري وتحويله باتجاه الفوضى والعنف المجتمعي، بدلاً من تركيزه على التنمية وإعادة البناء.
ويقف العالم العربي اليوم أمام حزمة من التحديات التي جلبتها رياح التغيير، وخاصة فيما يتعلق بملفات إعادة التأسيس النُظُمي، والإعمار الاقتصادي، واستعادة السلم الأهلي، وتحقيق الأمن المجتمعي، علماً بأنه من غير الممكن معالجة تلك الملفات في معزل عن المحيط الإقليمي ودعم المجتمع الدولي.
وهنا يظهر الإخفاق المروع لدى النخب التي تصدرت المشهد السياسي، والتي وقع معظمها في أتون صراعات إقليمية ومماحكات بين القوى الفاعلة، ما أدى إلى احتباس الأزمات المحلية وزادها تعقيداً.
ولا شك في أن رهن الإصلاح السياسي بالمؤثرات الخارجية قد أربك عملية التغيير وعرضها للفشل الذريع، حيث تُغلّب القوى الخارجية مصالحها على المصلحة الوطنية، وتعمل على كبت الأصوات التي تنادي باستقلال القرار الوطني، وتعمل على وأد الإرادة الشعبية لصالح أجندات خارجية لا تحقق الصالح العام، ما يؤكد على أن الركن الأساسي لعملية التغيير هو تجنيب الساحة المحلية تدخل الأطراف الخارجية التي ترهن عملية التغيير بين ثنائية الاستبداد أو الفوضى.
وتتطلب عملية الترشيد تلك توجيهاً فكرياً وحركياً ناضجاً ينتظم من خلاله الحراك المجتمعي في عملية بناء شاملة، من خلال منظومة قيمية تتفاعل بإيجابية مع محيطها الخارجي حتى لا تكون عرضة للعزلة التي تدفع الشعوب للتهميش، شريطة عدم الارتهان بالجانب الخارجي.
وتتمثل مشكلة ضعف ملكات التغيير بعجز الحركات المطالبة بالإصلاح عن إصلاح كياناتها، وفشلها في الاستجابة لمقتضيات التحول فيما يحقق القدر الأكبر من المكاسب والخروج بأقل الخسائر. ولا يمكن معالجة تلك المعضلة إلا من خلال إتقان مهارات «إدارة التغيير» وفق مفهومي:
1 ـ  إدارة التغيير لدى النخب الفاعلة، والذي يُقصد به تحول الفرد أو الفريق أو الكيان السياسي من حالة راهنة إلى حالة منشودة.
2 ـ  إدارة التغيير في المحيط العام، والذي يستفيد من التغيير الواقع لتحقيق عملية إصلاحية ونهضة شاملة على المستوى الوطني.

شكل: دوافع التغيير

ويمكن تفصيل ملكات التغيير بمستوياتها الثلاثة فيما يلي:
أولاً: التغيير على مستوى الفرد
يتمثل موقف الأفراد إزاء التغيير الوطني في أربع فرضيات رئيسة، وهي:
1 ـ  افتراض اهتمام الأفراد بمصالحهم الشخصية فقط، وأن هذا الاهتمام نابع من كونهم أناساً عقلانيين.
2 ـ  اعتبار الأفراد كائنات اجتماعية إيجابية تميل نحو الالتزام بالأعراف الثقافية والقيم الاجتماعية. 
3 ـ  افتراض تجاوب الأفراد مع عملية التغيير نتيجة ميلهم نحو التعاون والقيام بما يطلب منهم.
4 ـ  اعتبار قدرة الأفراد على التأقلم والتكيف مع أية ظروف جديدة يفرضها التغيير.
والحقيقة هي أنه من المتعذر تحقيق أي تغيير إيجابي في المجتمع إذا لم يكن أفراده معتقدون بالحاجة إلى التغيير، ومؤمنون بقدرتهم على تحقيق ذلك، وقد أثبتت الأحداث الراهنة أن الشعوب العربية تمتلك القناعة والثقة بقدرتها على إحداث ذلك التغيير، إلا أن وضع العملية في مسارها الإيجابي لا يزال يشكل التحدي الأبرز، حيث تنطوي عملية التغيير على مستويين رئيسين هما:
– تبني سلسلة من المبادئ والإجراءات المتوافق عليها على الصعيد الوطني.
– التخلي عن العادات والموروثات السلبية، وهي عملية تدريجية مرت بها العديد من الأمم التي خرجت من صراعات مجتمعية، وبدأت في التعافي من خلال تغيير منظومات التفكير والسلوك والقيم على مستوى الأفراد.
ويتطلب ذلك التغيير الإيجابي، تمكين الأجيال الشابة من ممارسة أدوار إيجابية على الصعد الوظيفية والسلوكية والثقافية والمعرفية، والتغلب في الوقت نفسه على العوائق السيكولوجية والنفسية، وتجنب معوقات التغيير المتمثلة في:
1 ـ  الخوف من الخسارة المادية: حيث يسود الاعتقاد بأن أعباء عملية التغيير ستكون مكلفة، الأمر الذي يدفع بالأفراد لرفضها ومقاومتها.
2 ـ  عدم الشعور بالأمان، والمتمثل في انعدام الثقة بإمكانية تحقيق الأمن المطلوب من خلال التغيير الواقع، وإمكانية خسارة المكتسبات رغم ضآلتها.
3 ـ  ضعف ثقة الأفراد بالنخب وعدم الإيمان بقدرتها على تحقيق تغيير ملموس ينعكس إيجابياً على حياتهم اليومية.
4 ـ  ثقافة الهزيمة التي تجعل الفرد يشعر بعقدة نقص أمام الشعوب الأخرى، وعدم الإيمان بقدرته على المشاركة الوطنية الفاعلة أو القدرة على إحداث تغيير فعلي، وذلك نتيجة تراكم الإرث الاستبدادي وانسداد آفاق المشاركة الإيجابية في الصالح العام.
5 ـ  الاستهداف الممنهج للعمل الجماعي من قبل نظم الاستبداد التي تعمل على تحييد الشباب، ومنعهم من الانخراط في العمل الجماعي المنظم، وسوقهم نحو الاعتمادية المفرطة على الدولة، وتجريم أي عمل خارج الإطار الرسمي.
ولا شك في أن الحملات الممنهجة لتهميش المجتمعات العربية قد أحدثت تشوهات في شخصية الفرد العربي، ومنعته من توظيف المهارات والخبرات الفردية في إطار مؤسسي، وحدّت من فرص التنمية البشرية وتنمية خبرات ومهارات الفاعلين ضمن أطر مؤسسية تضاعف من تأثيرها.
وتتناقض هذه الصورة مع مفهوم المجتمع المدني، الذي يتعامل مع الجماعة باعتبارها وحدة مستقلة ذاتياً، فكلما كانت مهارات أفراد الجماعة رفيعة، زادت قدرة الجماعة على التحكم الذاتي في أعمالها، وكان من السهل تفويضها مسؤوليات على المستوى الوطني.
ولمواجهة تلك المعضلات، يتعين على الشباب الانخراط بصورة إيجابية في العمل المنظم وعدم التردد في خوض غماره، وذلك من خلال تطوير مهارات تشكيل الجماعات والمؤسسات والتنظيمات الفاعلة، ووضع أسس ومعايير محددة لسير العمل وتوزيع الأعباء والمهام والواجبات، والقبول بالتعددية وتبادل الرأي، وتنمية مهارات التواصل، فيما يضمن تبادل الأفكار والمعلومات والبرامج.
ثانياً: التغيير على المستوى المؤسسي
تُعرّف إدارة التغيير على المستوى المؤسسي بأنها: «منهج الاستفادة من البُنى والأدوات الأساسية للسيطرة والتحكم على أي جهد في التغيير التنظيمي، بهدف تحقيق أقصى قدر من المنافع للمؤسسة، والتقليل من آثار التغيير على العاملين فيها، وتجنب الانحرافات عن المسار». والمؤسسة بهذا التعريف هي الجماعة أو الحزب أو التيار أو منظمات المجتمع المدني أو أي كيان فاعل في عملية التغيير الذي تحركه العوامل التالية:
1 ـ  المنافسة الداخلية والخارجية.
2 ـ  المؤثرات الاجتماعية.
3 ـ  المؤثرات الاقتصادية.
4 ـ  التحولات الإقليمية والدولية.
5 ـ  المتغيرات في القيم الاجتماعية.
6 ـ  المتغيرات السياسية.
7 ـ  متطلبات القيادة للمرحلة الجديدة.
8 ـ  تطور ثقافة المنظمة وأدواتها.
ويمكن القول: إن جميع تلك العناصر باتت متوفرة في المجتمعات العربية في الفترة الراهنة، ما يجعل التغيير المؤسسي أمراً حتمياً، خاصة وأن معظم الحركات السياسية العربية تعاني من مشكلات التأقلم مع مقتضيات التغيير، ويتمترس الكثير منها خلف مواقف صلبة إزاء محاولات تغيير كياناتها، شأنها شأن النظم الاستبدادية التي ثارت ضدها.
ولا شك في أن عجز القوى الوطنية الفاعلة عن استيعاب مقتضيات التغيير سيودي بها إلى مصير الأنظمة الاستبدادية، خاصة وأن الكثير من الجماعات العربية قد طورت نظماً محلية شبيهة بالأنظمة التي ثارت عليها، وخاصة في العناصر التالية:
– ضيق النخب القيادية وعدم استيعاب العناصر الشبابية.
– هيمنة الفردية والنظام الأبوي الذي لا يسمح بوجود المعارضة أو تعدد الآراء.
– التحول إلى كيانات مصلحية تخدم أعضاءها وتعيش في معزل عن الحراك المجتمعي.
– قمع أصوات النقد الداخلي ورفض مطالب الإصلاح والتغيير.
– غياب الشفافية في التنظيم وفي الإدارة المالية لتلك المؤسسات.
– الخوف من التغيير ومنعه على مختلف المستويات تحت ذريعة: «التمسك بالثوابت».
ويظهر فشل تلك المؤسسات بصورة واضحة في عجزها عن إحداث التغييرات التقنية اللازمة لمواكبة ثورة المعلومات، واستحداث أدوات جديدة للتواصل مع الجماهير، وتبني أدوات جديدة في أساليب الحشد والتعبئة والتأثير.
وبالإضافة إلى غياب فضيلة «النقد الذاتي»، تكمن المشكلة الأكبر في عجز تلك الكيانات عن تطوير منطلقاتها الفكرية التي تشكلت في مراحل مبكرة من القرن العشرين، ومنعها القيام بأية مراجعات فكرية متذرعة بالحفاظ على «المبادئ»، الأمر الذي يعرضها للانجراف أمام رياح التغيير العاتية إن لم تبادر إلى اتخاذ الإجراءات التالية:
– مراجعة منطلقاتها الفكرية التي تشكلت في مراحل مبكرة من القرن العشرين.
– تغيير النمط التنظيمي والهياكل الداخلية فيما يتواءم مع ثورة الاتصالات.
– تغيير الخطط والإستراتيجيات وآليات العمل للتعامل مع جيل الألفية الثالثة.
– تبني التقنيات الحديثة في الدعاية والترويج.
– إعادة بناء سلم العلاقات والتحالفات والمواقف في ظل التحولات المحلية والخارجية.
ولتحقيق تلك التحولات المهمة، ينبغي تحييد فئة المستفيدين من الوضع القائم والذين سيخسرون مواردهم ومكانتهم ونفوذهم في حال تبني إصلاحات جذرية تغير من بنية تلك الكيانات.
وإذا سلمنا بحتمية التغيير الناتج عن التحولات الكبرى في المرحلة المعاصرة، فإن من المهم كذلك استيعاب المخاطر الكامنة خلف عملية التغيير، وضرورة التعامل معها بروية وحذر، إذ إن التغيير الارتجالي وغير المدروس قد يفضي إلى انهيار الكيان القائم برمته، حيث تؤكد الدراسات الحديثة أن أحد أبرز عقبات التغيير في المؤسسات الفاعلة، هو خوف القيادة من المخاطر التي قد تفوق الفوائد المتحققة، واعتبار أن عملية التغيير محكوم عليها بالفشل، ما يفرض عليها اتخاذ الإجراءات التالية:
1 ـ  دراسة تأثير التغيير على المستويات والأهداف والإستراتيجيات.
2 ـ  إنشاء آلية قياس لتقييم القدرة على التأقلم مع التحولات.
3 ـ  تحديد سلسلة الخطوات اللازمة للتغيير.
4 ـ  تنفيذ التغيير التنظيمي.
5 ـ  تطوير التعديلات اللازمة لتتواءم مع المرحلة الجديدة.
6 ـ  إقناع الأعضاء المعنيين بالخطوات التي تم اعتمادها للتغيير، وتدريبهم على المهارات المطلوبة.
7 ـ  رصد ومراقبة المخاطر والتبعات والمضار، والعوامل الثقافية التي قد تؤثر على التقدم المحرز.
8 ـ  تجديد واستخدام وسائط الاتصال الفعال لإقناع أصحاب العلاقة بأسباب التغيير، وفوائده، وتفاصيله، وتقديم النصح والمشورة.

شكل: عناصر إدارة التغيير

ولتوضيح آليات العمل من منظور تطبيقي، يمكن سوق العديد من الأمثلة الواقعية، وأبرزها نموذج التغيير الذي تبناه المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب أفريقيا، حيث جرت عملية إعادة تقييم شاملة عام 2007، وأسفرت عن تقديم الأمين العام للحزب مجموعة توصيات شملت تطوير الهياكل الوطنية كالمجلس التنفيذي، ومجلس العمل الوطني، ورابطة الشباب، ورابطة المرأة، ولجنة التثقيف والتدريب السياسي، ولجنة الإعلام والاتصالات، ولجنة العلاقات الدولية، ولجنة الشؤون الدستورية.
وتم التوصل إلى نتائج مهمة تتمثل في الوقوف على أسباب القصور التنظيمي، حيث بيّن التقرير أن الحزب يفتقر إلى الأعضاء النشطين رغم زيادة عدد الأعضاء، ودعا إلى زيادة الوحدة والتماسك الداخلي، وتجنب وقوع بعض الأعضاء في الممارسات الطائفية، ما دفع بقيادة الحزب لتبني إستراتيجية إصلاح شاملة بناء على تلك التوصيات.[1]
وفي فبراير 2011، نشر حزب العمل الأسترالي «المراجعة الوطنية الشاملة لسنة 2010»، وتضمنت عملية تحليل واسعة النطاق لتنظيمه الداخلي، كرد فعل على نتائج الحزب الضعيفة في الانتخابات، والانخفاض المستمر في عدد أعضائه، وتمت مراجعة أداء الحزب وهيكليته، وتحديث رؤية الحزب وأهدافه فيما يتواكب مع مستجدات القرن الحادي والعشرين، وتقييم سبل توسيع المشاركة في الحزب لضمان دور أكبر للأعضاء والمؤيدين والأطراف المعنية، وتعزيز الحوار والتفاعل.
وقامت اللجنة المكلفة بتنظيم ندوات حوارية في مختلف فروع الحزب، ودراسة نحو 800 مذكرة مكتوبة، وإجراء مقابلات شخصية، وإنشاء مركز دراسات على الإنترنت، وجمع نحو 3500 مقترح من الأعضاء والمؤيدين، وخرجت اللجنة بعد ذلك بواحد وثلاثين توصية، يتعلق بعضها بأساليب اجتذاب أعضاء جدد، وإشراك الأعضاء الحاليين في شؤون الحزب على نحو أكثر فعالية، وتغيير اللوائح الداخلية للحزب، بهدف منح أدوار أكبر للأعضاء في تطوير نشاطه، وتم اعتماد نحو 13 توصية في ديسمبر 2011.[2]
وتتطلب عملية التغيير توفر الاستعداد والقناعة بها، ويمكن التمهيد لذلك من خلال طرح مسائل محورية على الصعد التشغيلية والإستراتيجية، على النحو التالي:[3]

جدول: نموذج قياس الاستعداد للتغيير

ثالثاً: التغيير على المستوى الوطني
يُعرّف محمد أبو صالح التغيير الإستراتيجي الوطني بأنه: «القيام بترتيبات أساسية من شأنها توفير الأوضاع والظروف المطلوبة لتحقيق الغايات والأهداف الإستراتيجية والسعي لإحداث نقلة أساسية في القدرات التنافسية للدولة وتعزيز قدراتها تجاه تحقيق المصالح الوطنية الإستراتيجية التي يفرزها التخطيط الإستراتيجي القومي»، محدداً عدة أنماط للتغيير الإستراتيجي، أبرزها:[1]
أولاً: التغيير الثقافي الناتج عن ضرورات التعامل مع الإشكالات الثقافية، ومنها: الإشكالات السلوكية، وسلبية ذهنية بعض المواطنين المتمثلة في عدم احترام العمل والزمن، وطريقة التفكير، وضعف ثقافة التخطيط، وضعف الشراكة بين السلطة العلمية والسلطة السياسية، وسوء السلوك السياسي الذي يضر بقدرات الدولة في إدارة صراع المصالح وبلورة مسارها الاستراتيجي، والمجاملة على حساب المصلحة العامة، وعدم قبول النقد، وعدم احترام النظام والتقيد به، وعدم الثقة بالعمل ضمن الفريق، والنزعات الفردية، وسيادة الانتماءات الشخصية والحزبية والجهوية على المصالح الوطنية، وسوء السلوك الاجتماعي كالاتكالية، والنزعات العرقية، وغيرها من الإشكاليات الذهنية التي شكلت على مر السنوات أرضية هشة لا تستوعب صياغة إستراتيجية طموحة كتلك التي حققتها العديد من الدول المتقدمة، ما يجعل التغيير الثقافي أمراً أساسياً على الصعيد الوطني.
ثانياً: التغيير الإستراتيجي الإداري، والمتمثل في النهوض بالقدرات القيادية للتعامل مع ظروف العولمة كالقدرة على التنافس العالمي، والتفاعل مع البيئة الدولية، وإجراء تغييرات في الإدارة وهياكلها عبر تدريب وتعيين مديرين يملكون معرفة في الإدارة الدولية، وإصلاح الهياكل وتأهيلها على تقنيات الإدارة الإلكترونية، ومراجعة نظم الرقابة ومواصفات الأداء الإداري، وتوفير كادر يحسن إدارة الوقت ويحترم أسس التعامل مع الجماهير.
ثالثاً: التغيير السياسي، والذي يتطلب تشكيل ثقافة وسلوك وممارسات سياسية جديدة تتناسب مع التحولات المحلية والدولية، وتساعد على تحقيق أو امتلاك القدرات التنافسية وتعزيز المركز السياسي في ظل الصراع الدولي الشرس حول الموارد ومحاولات الاستحواذ عليها، ويتضمن ذلك وضع تصورات لإعادة صياغة التحالفات الدولية وتشكيل التكتلات الإقليمية فيما يعزز القدرة على التعامل مع التحديات الأمنية ومعالجة المخاطر المشتركة.
رابعاً: التغيير في نطاق الهيكلية والعمل، وذلك من خلال مراعاة الميزة النسبية العالمية، بحيث يكون أداء المشروع السياسي ومخرجاته متواكبة مع التطورات الدولية في ظل العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يتطلب ذلك من ضرورات تحقيق المواصفات العالمية، في مجالات الترويج السياسي وإدارة الحملات الانتخابية، وطرح الخطط الإستراتيجية، والالتزام بالمعايير الدولية في الممارسة السياسية، وفتح آفاق الممارسة الشعبية في المجال العام فيما يعزز الهوية الوطنية.
خامساً: التغيير المؤسسي، بحيث يسهم الكيان السياسي في تحقيق الصالح العام، ويحقق الشراكة المجتمعية والتكامل مع أجهزة الدولة في هذا المجال، ويعزز القدرة على التنسيق مع القوى السياسية والمنظمات المجتمعية، ومواكبة التحولات المحلية والدولية من خلال تعزيز العمل المشترك، وصياغة التحالفات وعمليات الاندماج التي تعزز من القدرة التنافسية وتُمكن من مواجهة الأخطار الكبرى.
سادساً: التجديد والتميز، وذلك من خلال ربط المشروع السياسي بمراكز بحث علمية متطورة تقدم الاستشارات والنصح فيما يتعلق بسبل تحقيق التميز أو المحافظة عليه من خلال تبني الأفكار الجديدة، كاستخدام التقنيات الحديثة، ومواكبة التطورات التكنولوجية، ومواكبة تحولات السلوك والأنماط في البيئة المحلية، وتبني إستراتيجيات متقدمة في مجالات التحديث والتجديد وتشجيع ورعاية التفكير الإبداعي على المستوى الشبابي.

 

جدول: مراحل عملية التغيير ومفرداته

ويُصنف التغيير الوطني من حيث طريقة تنفيذه إلى ثلاث مستويات رئيسة هي:
1 ـ  التغيير الانسيابي: عبر تبني السلطة إجراءات إصلاحية تدريجية للتغلب على المشاكل ومواجهة التحولات.
2 ـ  التغيير المتقدم: والمتمثل في قيام السلطة بعملية إصلاح داخلية، عبر سلسلة من التعيينات والعزل، واتخاذ إجراءات صارمة لمعالجة المشاكل المستحكمة كالفساد، والهدر، والتسيب، والمحسوبية، وضعف مؤسسات الحكم، وسوء استغلال السلطة.
3 ـ  التغيير القسري: والذي يتم من خلال إسقاط نظام الحكم، واستبداله بمنظومة حكم بديلة يقع على عاتقها استحداث إجراءات ونظم جديدة، عبر عمليات التعديل والإلغاء والدمج للتخلص من الإرث السابق.
وفي ظل الفوضى التي آلت إليها جمهوريات «الربيع العربي»، يبدو من الواضح أن الشعوب العربية تقف أمام مرحلة متقدمة من «التغيير القسري» الذي لا تتوفر فيه متطلبات الإصلاح التدريجي، ما يفرض عليها المسارعة إلى اتباع الخطوات التالية لإصلاح مكامن الخلل:
1 ـ  تشخيــص المشاكل الوطنية التي أفضت إلى سقوط الأنظمة وتحليــل مسبباتها.
2 ـ  تحديد أهداف النهوض الوطني والتعافي من الأزمات المصاحبة للتغيير.
3 ـ  وضع خطـط تفصيلية لتنظيم عملية الانتقال من الوضع القديم إلى الحالة المرغوب فيها بشكل تدريجي.
4 ـ  إنشاء فرق عمل من التكنوقراط الذين يعملون خارج إطار التنافس الحزبي لتحقيق الأهداف المنشودة.
5 ـ  الحصول على الدعم والمساندة لتمويل عملية إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
6 ـ  إنشاء آليات للمراقبة والقياس والتقويم وضمان الشفافية في متابعة تحقق النتائج.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، فإن مقاومة النظم الاستبدادية للتغيير قد تسبب بخسائر بقيمة ترليون مليار دولار، تتضمن: انهيار البنى التحتية، وتدهور الناتج المحلي، وتكاليف إيواء اللاجئين، فضلاً عن فقدان العديد من تلك الدول سيادتها واستقلالها، نتيجة انهيار المؤسسات العسكرية والأمنية وهيمنة الميلشيات المسلحة، وتنامي النزعات الانفصالية، وتغوّل عصبويات ما دون الدولة، واختطاف الزخم الشعبي من قبل جماعات متطرفة تسببت في حروب طاحنة واستجلبت التدخل العسكري الدولي.
ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة، إلا من خلال استعادة زمام المبادرة الوطنية، وتبني إستراتيجيات وطنية للتخارج الانسيابي من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة إعادة الإعمار السياسي والنظمي والاقتصادي والمجتمعي، وبناء منظومة تضع تحقيق الرفاهية والأمن للشعوب على رأس أولوياتها.
وتمثل ظاهرة العنف أحد أسوأ نتائج التغيير غير المدروس، حيث تشتبك مختلف أطراف المجتمع في صراعات بينية، يمكن احتواؤها من خلال فتح قنوات المشاركة الشبابية في عملية إعادة الإعمار على أوسع نطاق، وتعزيز آليات التواصل المجتمعي، وإشراك مختلف الفئات المجتمعية في العملية الإصلاحية وضمان فاعليتهم وشراكتهم في مختلف مستويات العملية الإصلاحية.
[1]  كاسبار فان دن بيرغ وآخرون (2016) التخطيط الإستراتيجي للأحزاب السياسية، أداة عملية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات بالاشتراك مع المعهد الهولندي للديمقراطية متعددة الأحزاب، ص 38.
[1]  كاسبار فان دن بيرغ وآخرون (2016) التخطيط الإستراتيجي للأحزاب السياسية، أداة عملية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات بالاشتراك مع المعهد الهولندي للديمقراطية متعددة الأحزاب، ص 42.
[1]  المرجع نفسه، ص 71.
[1]  محمد حسين أبو صالح، التخطيط الإستراتيجي القومي، مرجع سابق، ص. ص 84 ـ 242

 

 

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021