قواعد اللعبة السياسية

عواقب مخالفة القواعد

رفع الزعيم سماعة الهاتف، وسأل المسؤول في المستشفى العسكري بلهجة غاضبة: «كيف حاله؟».
أصدر صوت همهمة عبر فيها عن انزعاجه، ثم صرخ: «أعطوه الكثير من الحليب، الحليب الجيد، وأطعموه لبنة، وماذا تسمونه؟ (لم يذكر الاسم)، أخبرني عن أحواله، أنا مهتم بذلك».
ثم أغلق السماعة، وقال لضيفه: «ليس جيداً للغاية وليس سيئاً للغاية»، وأردف قائلاً: «أستطيع بكل سهولة أن أثبت أنه قد توفي لأسباب طبيعية وأحضر أطباء من لبنان والعراق ومصر لأثبت ذلك بطريقة قاطعة».[1]
لم يتم اقتباس هذا الحوار من نص كوميدي ساخر كما يتوهم البعض، بل هو جزء من وثيقة رسمية تحتفظ بها وثائق الخارجية الأمريكية، وتتضمن حواراً دار بين زعيم أول انقلاب عسكري في العالم العربي حسني الزعيم وبين مساعد الملحق العسكري في المفوضية الأمريكية بدمشق الميجور ستيفن ميد في الرابع من شهر أبريل 1949، وكان الحديث عن رئيس الجمهورية المعتقل شكري القوتلي(!).
فعلى الرغم من تأكيد الإدارة الأمريكية على دعم الديمقراطيات الناشئة في العالم، وإنفاق الأموال الطائلة على برامج دعم الديمقراطية، إلا أنّ تاريخ الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة العربية حافل بالتدخل السافر لدعم الديكتاتوريات العسكرية وتعزيز النظم الانقلابية فيما يتعارض مع المثل والأخلاقيات التي تروّج لها واشنطن، حيث ألقت الاستخبارات المركزية الأمريكية بثقلها خلف أول انقلاب عسكري في سوريا (مارس 1949) لتفتح بذلك الباب على تدخل الجيش في الحكم من خلال سلسلة انقلابات وقعت في المنطقة العربية خلال فترة الخمسينيات.
وكانت المفوضية الأمريكية بدمشق قد أرسلت عدداً من التقارير بهذا الخصوص إلى وزارة الخارجية الأمريكية، ومنها تقريرها المؤرخ في 3 مارس 1949 (أي قبل وقوع الانقلاب بحوالي شهر) والذي تحدث عن لقاء سري جمع أعضاء البعثة العسكرية الأمريكية مع قائد الجيش (الزعيم) الذي تقدم بطلب معدات عسكرية وأفصح عن نواياه في فرض السيطرة على البلاد.[2]
وبعد ذلك بأربعة أيام ـ  أي في السابع من شهر مارس ـ  عقدت البعثة العسكرية اجتماعاً آخر مع الزعيم بناءً على طلبه حيث قام بتوضيح خطته لإحكام السيطرة على البلاد،[3] وتوقعت مصادر المفوضية أن يقع الانقلاب في موعد قريب من 23 مارس، حسب ما أخبرهم الزعيم[4] مؤكدة إرسال تفاصيل دقيقة عن خطة الانقلاب وذلك من خلال المحادثات الموسعة التي عقدت بين الزعيم وميد.[5]
وفي لقاء بينهما عقد في 4 أبريل، عبر الزعيم لميد عن سعادته الكبيرة بنجاح انقلابه صارخاً: «أنا السيد العظيم، أنا الملك»، وعلق المفوض الأمريكي كيلي على العلاقة بين الرجلين بقوله: «إن مساعد الملحق الثقافي الميجور ميد يتمتع بثقة الزعيم إلى درجة كبيرة».[6]
وتشير الوثائق الأمريكية إلى قيام تنسيق مباشر بين واشنطن ولندن وباريس للاعتراف بحكم الزعيم، حيث تم توجيهه لإجراء انتخابات رئاسية شكلية فاز فيها بنسبة تزيد عن 99%، وتحتفظ وثائق الخارجية الأمريكية بخطاب موجّه من وزير الخارجية الأمريكي دين آتشيسون إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتاريخ 25 أبريل 1949 (أي قبل الانتخابات بيوم واحد!)، يشير فيها الوزير إلى أنه تم الاتفاق مع كل من ممثلي بريطانيا وفرنسا على الاعتراف بنظام الزعيم فور ظهور نتائج الانتخابات.
والنتيجة التي يمكن استخلاصها من خلال وثائق الخارجية الأمريكية، هي أن الولايات المتحدة كانت تتعامل مع الدول العربية خارج القواعد الليبرالية ـ الديمقراطية، وفيما يتناقض مع جميع المُثُل التي كانت تروج لها، حيث رمت بثقلها في دعم معظم الانقلابات العسكرية في العالم العربي للقضاء الحكم المدني، ودفعهم لقمع الحريات العامة، وذلك في ازدواجية سياسية منقطعة النظير.[7]
وتمثلت نتيجة تلك المغامرة ـ  وغيرها من المغامرات الأمريكية في المنطقة لدعم الدكتاتوريات العسكرية ـ  في إعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه، وانتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية في الجمهوريات العربية الأخرى، ما أدى إلى سفك دماء الأبرياء، وتعطيل الحياة السياسية، وقمع الحريات العامة… بدعم غربي.[8]
ويمكن تقديم أمثلة عدّة على التدخل الغربي السّافر في الشأن الداخلي للدول العربية، وضلوع أجهزة الاستخبارات الغربية في قلب نظم الحكم المدني، وفرض ديكتاتوريات عسكرية لا تتوانى عن سفك الدماء وقمع الحريات وإلغاء مؤسسات الحكم المدني في سبيل تحقيق المصالح الغربية في المنطقة

الرصيد التراكمي

يدفعنا تفشي ظاهرة الانقلابات العسكرية وتقويضها للحكم المدني في الجمهوريات العربية إلى إلقاء الضوء على ضرورة وضع قواعد جديدة للممارسة السياسية في العالم العربي على أساس المشاركة الشعبية في الصالح العام. ونظراً لغياب قنوات المشاركة الشعبية في النظم العربية، فإن معظم المادة المتوفرة اليوم حول العمل السياسي تقوم على مفاهيم نظرية ومواد مترجمة عن مصادر أجنبية لا تراعي الفوارق الكبيرة بين المجتمعات العربية والغربية.
ولا يمكن الاستفادة من ذلك الرصيد المعرفي إلا من خلال ردم الهوة بين البيئة القهرية التي شابت السياسة العربية في القرن الماضي، وبين تجارب الأمم التي قطعت شوطاً في مأسسة المشاركة الشعبية، وذلك من خلال إنشاء فضاءات محايدة تضع قواعد للعمل السياسي فيما يتوافق مع البيئة العربية وخصائصها، إذ إن تجارب الشعوب العربية المعاصرة لا توفر رصيداً كافياً لاستخلاص أسس وقواعد حاكمة للمشاركة الشعبية في العمل السياسي، وذلك نتيجة للهيمنة الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين وغلبة النظم الاستبدادية في النصف الثاني منه.
وكان للحراك الشعبي العارم الذي شهدته الجمهوريات العربية (2011-2020) دور مهم في فتح أبواب المشاركة الشعبية، إلا أن تلك الممارسات اتسمت بالارتجالية وتغلبت فيها ظاهرتا العنف والفوضى المصاحبتان للتغيير، ما دفع بالجماهير للركون إلى عصبويات ما دون الدولة بحثاً عن دوائر الأمان، والفشل في صياغة قواعد ناظمة للعملية السياسية أو التوافق على قواسم مشتركة للحراك على مستوى «الأمة» أو «الوطن».
وتعاني الجمهوريات العربية اليوم من حالة فراغ ينتج عنه أربعة مظاهر سلبية هي:
1 ـ  الغلو: حيث تعمل الجماعات الأكثر تشدداً على فرض رؤاها من خلال اللجوء إلى قوة السلاح والسيطرة على مساحات جغرافية مستغلة ضعف الدول ومؤسساتها، وتعمد إلى قسر الناس على تبني نظم سياسية متطرفة، وتسوغ لنفسها قتل المخالفين وارتكاب أفظع الممارسات بحقهم.
2 ـ  الانقسامية: يدفع ضعف السلطة المركزية وغياب الإجماع الشعبي باتجاه ظهور تشكيلات بديلة على أسس إثنية وطائفية ومناطقية وعشائرية، كما تتعالى الأصوات المطالبة بالانفصال عن الوطن وإنشاء كيانات مستقلة في ظل ضعف السلطة وتهاوي الجيوش النظامية.
3 ـ  الهجرة واللجوء: في ظل الظروف القهرية وعمليات التهجير القسري، يندفع الملايين نحو الخارج بحثاً عن الأمن وفرص الحياة الكريمة، ما أدى إلى إفراغ بعض دول «الربيع العربي» من نصف سكانها، وذلك في أكبر انزياح بشري تشهده المنطقة في تاريخها.
4 ـ  التدخل الخارجي: دفعت حالة الفراغ المستحكم، ومخاطر انسياب الأزمات المحلية بالقوى الدولية للتدخل العسكري، والعمل على ترجيح كفة بعض الأطراف المحلية فيما يتوافق مع مصالحها، ما جعل المنطقة حلبة صراع دولي بين القوى الكبرى.
وبعيداً عن المحاولات الخجولة لمعالجة المعضلات العربية، عبر الاقتصار على صياغة نصوص الدساتير البديلة ووثائق العقد الاجتماعي، يتعين وضع أسس متينة للمشاركة الشعبية تقوم على مجموعة من القواعد الناظمة للعملية السياسية، أبرزها: 

 

شكل: قواعد الممارسة السياسية

أولاً: الاختيار
تمثل نظرية “الاختيار الاجتماعي” الإطار النظري الذي يمكن من خلاله الجمع بين مصالح الأفراد والجماعات، أو منافعهم أو تفضيلاتهم، بهدف الوصول إلى قرار جماعي يحقق الأمن والرفاهية المجتمعية بالصورة الأمثل، وذلك من خلال المزج بين عنصري، اقتصاديات الرفاهية وعملية التصويت.
وتتمثل أبرز أنواع الاختيار التي يجب أن تتمتع الشعوب بها فيما يلي:

شكل: أنواع الاختيار

 ومن أبرز الآليات المتاحة لتحقيق ذلك:
1 ـ  الاختيار المباشر: عن طريق منح الشعب سلطة كافية لاتخاذ القرارات بصورة مباشرة، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية عبر التصويت المباشر على القضايا المصيرية.
2 ـ  الاختيار شبه المباشر: اللجوء إلى المؤسسات الدستورية كوسيط بين السلطة والشعب وتخويلها بصياغة القرارات المصيرية، مع إتاحة المجال للجماهير للتصويت عليها.
3 ـ  الاختيار غير المباشر (عن طريق الأدوات النيابية): كأن يختار الشعب من ينوب عنه في اتخاذ القرار، تشريعاً أو تنفيذاً، وتفويض من يرونه مناسباً للحكم أو اتخاذ القرار، وتهيمن في هذه الحالة الأحزاب والجماعات السياسية.
ومع تعدد تجارب المشاركة الشعبية واختلاف تطبيقاتها، ظهرت إشكاليات تتعلق بصعوبة الجمع بين البدهيات، كالعدل من جهة، والحريات العامة من جهة أخرى، وبين المساواة من جهة، وضمان حقوق الأقليات والفئات الأضعف من جهة ثانية، فضلاً عن المشاكل المرتبطة بانتشار الفقر والبطالة في بعض المناطق دون غيرها، وما يتعلق بتضارب المصالح بين المجموعات السكانية المختلفة وآليات الفصل فيما بينها.
وبناء على تلك الاختلافات، ظهرت عدة مدارس للتعامل مع نظرية الاختيار وتطبيقاتها أبرزها: المدرسة العقلانية (rational choice)، والمدرسة الواقعية (Realism)، والمدرسة المثالية (Idealism)، والمدرسة الأخلاقية (Moral)، والمدرسة التاريخية (Historical approach)، علماً بأنه لا يمكن الاقتصار على مدرسة واحدة دون غيرها، بل يتعين الجمع فيما بينها وفقاً لما تقتضيه البيئة السياسية، وفيما يعالج مشكلة «الاختيار الاجتماعي»، وخاصة فيما يتعلق بمحاولات الجمع بين الخيار الفردي والخيار الفئوي والخيار الجماعي، وتعارض الخيارات المتاحة ومصالح الجهات المختلفة، وتباين نظرة الناس للمنفعة.
ثانياً: التداول
يمثل التداول أحد أهم أركان العملية السياسية عبر التاريخ، ولتفادي وقوع العنف والفوضى المصاحبة للتغيير تعمد المجتمعات المتحضرة إلى تقنين عملية التداول، حيث تمثل تلك التجارب رصيداً مهماً في استشراف العوامل المفضية إلى التداول، ونظمها في أطر مؤسسية تضمن الانتقال السلمي للسلطة، ومن أبرز تلك العوامل:
1 ـ  الديناميكية: تتسم الظاهرة السياسية بالديناميكية والتحول، حيث تتعرض الدوائر السياسة لعوامل التعرية، وتتغير بصورة دائمة.
2 ـ  المفاضلة: تقوم الظاهرة السياسية على أساس التحول على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، ما يدفع باتجاه اعتماد مفهوم «المفاضلة» أساساً لانتقال السلطة، وذلك من خلال معايير دقيقة لاختيار الأفضل في الحكم.
3 ـ  تعدد الاتجاهات: يعتبر مفهوم «المدافعة» لصيقاً بالظاهرة السياسية، حيث تتشكل مذاهب وتيارات متباينة في نظرتها للإدارة والحكم، ولذلك فإن من أهم أهداف الممارسة السياسية، تأسيس مرجعية ثابتة تتولى إدارة التنوع، وتجمع بين مختلف الاتجاهات ضمن نظام مرن يسمح بالتعددية ويستوعبها.
4 ـ  التنافس: تُعرّف السلطة بأنها: «القدرة على اتخاذ القرار وتحديد الاتجاه وتنفيذ ذلك على أرض الواقع»، وتنقسم في السياسة المعاصرة إلى ثلاثة أقسام: تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتقوم الظاهرة السياسية على أساس العلاقة بين من يملك السلطة ومن تُمارس السلطة عليه، ما يدفع بالتيارات المتباينة للمنافسة فيما بينها بالوسائل السلمية للوصول إلى السلطة وممارستها.
5 ـ  التخويل: (أو التفويض) هي صيغة الحكم الشرعية المنافية للاستبداد، وتمثل الفارق بين الإكراه وبين القبول، ولكي تكون السلطة فاعلة فإنها لا بد أن تتمتع بقدر من القوة التي تحصل عليها بتخويل من الشعب، وتمثل عملية التخويل الوسيلة الأنجع لحماية الشعب من تسلط أصحاب القوة والاستئثار بممارستها.
ثالثاً: النُظُم
يُعرّف النظام بأنه: «كيان اجتماعي يدير موارد المجتمع، ويضمن الأمن الداخلي والخارجي، وتحقيق أكبر قدر من المصالح العامة، ويحد من التناقضات الاجتماعية، استناداً إلى سلطة مخولة له أو قوة يستند إليها».
ويتشكل النظام من مجموعة مؤسسات تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي، وأبرزها المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي يجب أن تتمتع باستقلال ذاتي يُمكّنها من التفاعل مع النظم الفرعية الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كونها البيئة التي تتحرك فيها.
وتفرض المرحلة الحاسمة التي تمر بها المنطقة العربية المبادرة إلى تأسيس نُظُم حكم ناضجة تقوم على أساس العدل والمساواة،[1] ومن أبرز مفرداتها:
1 ـ  الترابط: بحيث يتكون النظام من مجموعة مؤسسات مترابطة، كالأحزاب السياسية، والبرلمانات (الهيئات التشريعية)، والدوائر الحكومية (الهيئات التنفيذية)، والمحاكم (الهيئات القضائية)، ويربط النظام بين مختلف اختصاصات تلك المؤسسات ويمنع التعارض بينها.
2 ـ  التفاعل: تتفاعل أجزاء النظام فيما بينها، فكل صورة من صور الجهاز التشريعي مثلاً تقابلها وترتبط بها صيغة شبيهة في الجهاز التنفيذي، وهناك ارتباط بين تركيبة الأحزاب السياسية وطريقة تشكيل الحكومة، حيث تشكل المعارضة حكومة ظل تتطابق مكوناتها مع الحكومة الفعلية.
3 ـ  الاستقلالية: يتمتع كل جزء من أجزاء النظام باستقلالية عن المكونات الأخرى، ولا يخضع لسلطة أخرى، وإنما تقوم العلاقة بين تلك المؤسسات على أساس الموازنة والتنسيق وليس على أساس الهيمنة والاحتكار.
4 ـ  الآلية: يعمل النظام السياسي وفق آليات: المدخل (Input) والمعالجة (Process) والمخرج (Output)، ويقوم بمعالجة الأنماط المتداخلة والمتعارضة في عملية صنع القرار السياسي.
 

شكل: مفردات النظام السياسي

وفي مقابل الدور السلبي الذي قامت به نُظُم الاستبداد لتهميش الشعوب ومنعها من المشاركة في الشأن العام، يتعين أن تحقق النُظُم البديلة ما يلي:
1 ـ  تحديد أهداف المجتمع والدولة التي تتركز حول الرفاهية والأمن.
2 ـ   ـ تعبئة طاقات المجتمع وضمان مشاركة أبنائه في تحقيق الصالح العام.
3 ـ   ـ دمج العناصر التي يتألف منها المجتمع، أو توحيدها، لتعزيز عناصر قوة الدولة وضمان مصالحها.
4 ـ  المطابقة بين الممارسة السياسية (التطبيق) والقواعد القانونية والدستورية (النظرية).
5 ـ  تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين.
رابعاً: المرجعية السياسية
في مقابل الديناميكية التي تفرضها العناصر السابقة (الاختيار، والتداول، والنُظُم)، ترتكز العملية السياسية على عناصر أخرى تضمن استمرار العملية السياسية واستقرارها، ومن أبرزها: المرجعية الوطنية التي تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسين هما:
1 ـ  الثبات: ففي ظل الديناميكية والتغيير لا بد من توفر عناصر مرجعية لضمان الاستقرار، ومن أبرز عناصر الثبات: الدستور، والعقد الاجتماعي، والمبادئ فوق الدستورية، والنظام السياسي، والضوابط التي تمنع التعدي (من جهة السلطة) والفوضى (من جهة الشعب).
2 ـ  السيادة: والتي تمثل اليوم نقطة إشكال كبير بين من يرى أنها للشريعة كمصدر يستند إلى الوحي الإلهي، ومن يرى أن السيادة للشعب كمصدر بشري يستند إلى الفلسفة والقانون، وتمثل مسألة التوافق على هذه المسألة أحد أكبر تحديات المرحلة المقبلة، نظراً لوجود تيار يدعو إلى العلمنة وينادي بإلغاء دور الدين في النظم السياسية، ما يدفعنا لاستقراء التجارب الفاشلة التي خاضتها بعض النظم العربية في فصل الدين عن الدولة، إذ إن السياسة العلمانية لم تحقق الرفاهية للشعوب في مرحلتي الاستعمار والاستبداد، وذلك في مقابل الازدهار الذي تمتعت به الشعوب العربية لدى ارتباط نُظُمها بالدين في المراحل الذهبية للحضارة الإسلامية. ويكمن التحدي اليوم في التوفيق بين التطور النُظُمي الذي تفرضه مقتضيات المرحلة، وبين خصوصية المجتمعات الشرقية التي يمثل الدين فيها أساساً للنهوض والتحرر.
ويتطلب ذلك كبح جماح الأصوات المغالية على طرفي النقيض، إذ إن استبدال طبقة كهنوتية من رجال الدين بنخب مؤدلجة من القوميين أو الاشتراكيين أو الشيوعيين أو الليبراليين لم يحقق الرفاهية المنشودة، بل أفضى إلى المزيد من كبت الحريات والتضييق على الشعوب، إذ إن كلا الطرفين يحتكمان إلى نصوص قابلة للتباين في التفسير والتطبيق، وقد أثبت الإيديولوجيون فشلهم في التوافق على نصوص ونظم مرجعية يمكن الاحتكام إليها بديلاً عن النص الشرعي المُحكم الذي نشأت على أساسه العديد من النظم المتطورة في الحضارة الإسلامية.
ولا يمكن تحقيق النهضة إلا من خلال المواءمة بين الإرث الثقافي والحضاري من جهة، وبين مقتضيات التحول البشري من جهة ثانية، وذلك من خلال تحقيق الإجماع الوطني على «عقد اجتماعي» يرادف مفهوم «البيعة» بصورته الكلاسيكية، ويستحدث مبدأ الفصل بين السلطات المقتبس أصله من أطروحات «التفويض» و«التنفيذ»، والمجالس التمثيلية التي وضعت أسسها ضمن مفهوم «أهل الحل والعقد»، فضلاً عن دور الشورى في تحقيق أنماط التمثيل والمشاركة عبر التصويت والانتخاب.
خامساً: المنهجية
نظراً لاختلاف تجارب الحكم وتباين نماذجها بين مختلف الدول، فإن العملية السياسية لا تعمل وفق «قوانين» ثابتة، بل ترتكز على «مناهج» و«معايير» تتوافق عليها الأمم في مراحل مختلفة من تاريخها.
ومن أبرز المدارس التي تصدت لوضع معايير للعمل السياسي:
– المدرسة التحليلية الوصفية، التي تقوم على أسس فلسفية وتستند إلى التاريخ، وتعزز مفاهيم الليبرالية في الحكم.
– المدرسة الاجتماعية، ذات الطابع النظمي الذي يعتمد على علم الاجتماع ويرتكز على دعامتي: المجتمع والاقتصاد كمنطلقين في التشكيل السياسي.
– المدرسة الراديكالية، التي تتبع منهجية نقدية مشككة ومناهضة للمؤسسات، وتتخذ من الصراع وتفاعلاته منطلقاً للتحليل السياسي.
كما يتعين الاستناد إلى المناهج المعتبرة في تحليل الممارسة السياسية وتطبيقاتها، ومن أهمها:

جدول: مناهج التحليل السياسي

سادساً: الإطار الفكري
نشأ مصطلح «الإيديولوجيا» في نهاية القرن الثامن عشر، ويقصد به علم الأفكار، وتطور مفهومه فيما بعد ليشمل: «تفسير الظواهر الذهنية باستخدام مناهج علمية محددة»، ومن أبرز الإيديولوجيات التي هيمنت على المشهد السياسي العالمي: الماركسية، والاشتراكية، والرأسمالية، والإمبريالية، والليبرالية، والفاشية، والنازية، والديمقراطية، والواقعية، والبنيوية، وغيرها من الإيديولوجيات التي تنتظم الواحدة منها في مجموعة أفكار تشكل في مجملها رؤية متماسكة، وشاملة، وتقدم منهجاً للتعامل مع المستجدات من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية للأفراد والجماعات، ومن أهم سماتها:
1 ـ  أن تكون لها سلطة على الإدراك.
2 ـ  أن تكون قادرة على توجيه عمليات التقييم والقياس.
3 ـ  أن توفر التوجيه تجاه العمل.
4 ـ  أن تكون متماسكة منطقياً.
5 ـ  أن تربط بين النظرة الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية.
6 ـ  أن تعبر عن مصالح مجموعات بشرية من خلال علاقة مركبة بين الواقع، وبين التطلعات والآمال.
7 ـ  أن تقوم بدور الوسيط بين العناصر الاجتماعية والنفسية والروحية في المجتمع، وبين المؤسسات والنظم.
8 ـ  إمكانية استخدامها كأداة تحليلية لفهم الواقع السياسي وتطوير النظام من خلال تحديد البدائل المتاحة والنظر في مآلاتها المفترضة.
سابعاً: الواقعية
تُعرّف الواقعية بأنها: «النظر إلى حقيقة الأمور وجوهرها وغض الطرف عن السطحيات والظواهر، والتوجه لتحقيق مصلحة الدولة بأقل قدر من الخسائر وأكبر قدر من المكاسب»، وتقوم على الأسس التالية:
1 ـ  الجمع بين النظرية والتطبيق.
2 ـ  الجمع بين النص والواقع.
3 ـ  التوفيق بين أطروحات المدارس الكلاسيكية التي تنطلق من منطلقات نظرية أخلاقية، والمدارس المعاصرة التي تنطلق من منطلقات واقعية عملية.
4 ـ  مقاومة نزعات النخب الفاعلة لاحتكار السلطة متذرعة بتحقيق الأمن وحماية الجماهير.
5 ـ  التعامل مع متطلبات المرحلة دون فقدان المبادئ والأخلاقيات.[1]
ثامناً: البعد الإنساني
يعتبر ابن خلدون أول من أضفى الصفة الإنسانية على الدولة عبر تشبيهها بالإنسان في مراحله الخمسة: الولادة والصبا والنضج والشيخوخة والموت، ومنذ ذلك الحين ارتبط مفهوم بناء الدولة بالإنسان، ما أدى إلى ظهور نظريات: «العقد الاجتماعي»، التي ترى أن السلطة في حقيقتها هي تفاعل بشري يقوم على أساس التعاقد بين الدولة والمجتمع، ويتضمن مفهوم «أنسنة» العمل السياسي محورين رئيسين:
1 ـ  وضع العمل السياسي في إطاره الإنساني: عبر استيعاب الأبعاد المجتمعية، وخصائص المجتمعات، والعلاقة بين مختلف المجموعات، وارتباط مؤسسات الحكم في التعامل مع النصوص، وذلك من خلال ثلاثية تقليدية هي: الأرض والدولة والأمة، وتوظيفها في بناء منظومة سياسية رشيدة.
2 ـ  استيعاب علاقة المكان بالمنظومة السياسية، حيث تتمايز نظم الحكم عن بعضها بحكم اختلاف المكان الذي تشغله الوحدة السياسية، وبنظام الإدارة الذي يرتكز بصورة أساسية على ثنائية الموقع الجغرافي ومصادر الثروة.
وتشكل هذه القواعد الثمانية الأسس التي تقوم عليها الظاهرة السياسية، بحيث إذا تم الإخلال بواحدة منها انهارت العملية السياسية برمتها، ويعتبر غياب مكونات أساسية منها هو السبب الرئيس في التدهور السياسي للمنطقة العربية خلال القرن الماضي، فعلى الرغم من مرور سبعين عاماً على قصة الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي (انقلاب حسني الزعيم عام 1949)، إلا أن الدول الليبرالية الديمقراطية لا تزال ممعنة في التخلي عن مُثُلها الإيديولوجية عبر دعم النظم الانقلابية في العالم العربي، وتمويل وتسليح الميلشيات الراديكالية العابرة للحدود، دون الاكتراث لمعاناة الشعوب ولحجم الدمار والخسائر البشرية.
ويدعونا ذلك للتأكيد على ضرورة بناء العملية السياسية على قواعد راسخة، إذ إن غياب المكونات الأساسية للنظام السياسي سيصيب مفاصل الدولة بالشلل، ويعزز البيئة القهرية والعنف الرسمي والأهلي، ومن شأنه إعادة تأهيل الدول الاستبدادية التي ترفض القبول بمفاهيم التداول والاختيار والمشاركة الشعبية، وغيرها من القواعد التي تُنظّم الحياة السياسية.
[1]  National Archives and Record Administration, Record Group 59, Confidential U.S. State Department Central Files, G. 59: 890D.001/4 ـ 549.
[1]  NARA. G. 59: 890D.00(W)/3 ـ 1348.
[1]  NARA. G. 59: 890D.00(W)/3 ـ 1349.
[1]  NARA. G. 59: 890D.00/3 ـ 1749.
[1]  NARA. G. 59: 890D.00/3 ـ 3049.
[1]  NARA. G. 59:  890D.01/4 ـ 449.
[1]  على الرغم من النهاية الدموية لحكم الزعيم وما تبعها من سلسلة انقلابات عسكرية عصفت بأمن المنطقة واستقرارها، إلا أن الوثائق الأمريكية تؤكد وقوف جهاز الاستخبارات المركزية (CIA) خلف العديد من الانقلابات العسكرية ضد الحكم المدني في المنطقة العربية، ففي 13 أغسطس 1957 أعلنت إذاعة دمشق عن اكتشاف مؤامرة تدبرها الاستخبارات الأمريكية للإطاحة بالحكم في سورية واستبداله بحكم موالٍ للغرب، وتمّ على إثرها طرد البعثة الدبلوماسية الأمريكية من دمشق. وقدمت الوثائق الأمريكية معلومات مفصلة حول دور جهاز الاستخبارات المركزية فيما أسمته آنذاك: «عملية الانتشار»، حيث كانت الولايات المتحدة وبريطانيا على قناعة تامة بضرورة الإطاحة بالحكم المدني في سورية، وقامت الحكومة البريطانية بالتنسيق مع الأخوين جون دالاس وزير الخارجية الأميركي وآلن دالاس رئيس جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية لوضع خطة تهدف إلى قلب نظام الحكم في دمشق، حيث تكفلت الاستخبارات الأمريكية بتمويل هذه العملية وأرسلت شحنة من الأسلحة التي تم شحنها عن طريق القاعدة البريطانية بالحبانية لتنفيذ الانقلاب الذي فشل بسبب اكتشاف الاستخبارات السورية المخطط قبل التنفيذ.
[1]   يمكن الرجوع إلى العديد من الكتب التي تناولت الدعم الأمريكي للانقلابات العسكرية في العالم العربي، والفشل الذي منيت به تلك المغامرات التي خاضتها الاستخبارات الغربية دون مراعاة لأية اعتبارات إنسانية أو أخلاقية، ومن أبرزها، مايلز كوبلاند (1970)، لعبة الأمم، تعريب مروان الخير، مكتبة الزيتونة، القاهرة، وكتابه الآخر (1990)، اللاعب واللعبة، دار الحمراء، بيروت، وكتاب باتريك سيل (1993) الصراع على الشرق الأوسط، لندن، بالإضافة إلى كتاب المسؤول في الاستخبارات المركزية الأمريكية إيفلاند بعنوان «حبال من رمل»:
Eveland, W.C. (1980) Ropes of Sand: America’s Failure in the Middle East. New York.
[1]  تتكون الدولة من أربعة مكونات هي: الأرض، والشعب، والسيادة، والنظام السياسي.
[1]  تم تفصيل مفهوم الواقعية في المبحث السابق بعنوان: «فقه الواقع».

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021