من الجماعة إلى الشبكة… ولوج عالم الشبكات

الشبكات كانت دائماً معنا

في كتابه «الساحة والبرج» سلط الكاتب نيال فيرغسون الضوء على صراع السلطة بين الشبكات والأنظمة الهرميَّة الدائر في العالم اليوم،[1] حيث عقد مقارنة بين «التاريخ الهرمي» القائم على: الأباطرة، والرؤساء، ورؤساء الوزارات، وجنرالات الميدان، وأثر الأوامر القادمة من قمة الهرم على المؤسسات والجيوش والدول والشعوب، وبين الشبكات الاجتماعية غير الرسمية التي لم يتم توثيقها بصورة متكافئة، والتي اعتبرها مصدر السلطة الحقيقة ومحرك التغيير.
وعلى الرغم من وصف القرن العشرين بأنه «عصر الشبكات»، إلا أن فيرغسون اعتبر أن الشبكات كانت معنا دائماً، فبينما ادعت الأنظمة الهرمية الساكنة في الأبراج العالية حكم الشعوب، كانت السلطة الفعلية تكمن في مكان ما في «الساحة» وليس في قمة «البرج»، ومثلت المحرك الأكبر لأحداث التاريخ، فمن خلالها انتشرت الأفكار الثورية وغيرت مسار الأمم والشعوب.
ومن طوائف روما القديمة إلى عائلات الحُكْم في عصر النهضة، ومن الآباء المؤسِّسين إلى «فيسبوك»، يحكي فيرغسون قصة ظهور الشبكات وتطورها، مستحدثاً مفاهيم جديدة تتعلق بدور تلك الشبكات في: «التجميع» و«الانفصال» و«مستوى الروابط» و«العَدْوَى الشبكية» و«الانتقالات المرحلية»، وغيرها من الظواهر التي يمكن أن تغير فهمنا للماضي وللحاضر على حد سواء، معتبراً أن العديد من الأنظمة الهرمية ستنهار أمام موجة جديدة من هجوم الشبكات عليها.
ولا بد من الاعتراف بأن قطاعاً ضخماً من الكتابة التاريخية العربية قد وقع أسير مفهوم «الرجل الأوحد»، بحيث تم اختزال الأمة في شخص القائد الفذ الذي ينظم الجيوش ويقود الإصلاحات ويفتح الأمصار ويصوم الليل ويقوم النهار، دون العثور على مادة كافية حول تفاعل الشعوب مع قائدها.
وأثر ذلك بدوره على نمط التفاعل السياسي الحديث، حيث هيمن القادة الانقلابيون على المشهد السياسي العربي خلال الفترة الممتدة ما بين خمسينيات وتسعينيات القرن المنصرم، وتقلصت أدوار الشعوب العربية التي تم تهميشها إلى حد كبير، ما يدفعنا لإلقاء الضوء على ظاهرتين رئيستين هما:
1 ـ  دور الشعوب في تحقيق النهضة والتفاعل مع أدواتها.
2 ـ  تأثير الزيادة السكانية والثورة الرقمية وتطور وسائل التواصل في استعادة الإرث الشبكي وإضعاف الحكم المركزي في البلدان العربية.
النهضة وأدواتها
يُستخدم مصطلح «النهضة الأوروبية» للإشارة إلى حركة التجديد الشاملة التي غيرت مظاهر الحياة الأوروبية، وما صاحبها من ظهور المذاهب والإيديولوجيات خلال الفترة التي انهار بها نظام الإقطاع، وبروز المجتمع البرجوازي في الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي.
وتنوعت المذاهب آنذاك ما بين اجتماعية وأخرى فلسفية، حيث شهدت تلك الفترة إحياء التراث الفلسفي والثقافة الإنسانية بالتزامن مع ظهور مناهج جديدة في التعليم والبحث، وتغير الفكر الاجتماعي والاقتصادي للأوروبيين الذين تحرروا من القيود التي كانت تقيد تفكيرهم وسبل معيشتهم في العصور الوسطى.
وبخلاف ما هو شائع عن اضمحلال دور الدين في الحياة العامة، فقد اهتم أقطاب النهضة بإحياء التراث القديم ليتلاءم مع العصر الجديد، واعتنوا بالشؤون الدينية بهدف إصلاحها، مؤكدين على التخلص من إرث «المسيحية الجبرية»، وعلى حرية الاعتقاد، ومهتمين في الوقت نفسه بتجديد أبنية الكنائس.
وأسهمت تلك التطورات في تغيير القواعد الأخلاقية التي سار عليها أفراد المجتمع، حيث ساوى مارتن لوثر بين الإيمان والفضيلة، وكان المهندس بونلسكي الغلورنسي أحد أبرز المساهمين في النهضة الفكرية، حيث برع في الفن الكلاسيكي الذي تم تطبيقه في الكنائس والكاتدرائيات، كما نشر المفكر لورنزو فاللا عدة أبحاث تاريخية أثبتت حق البابوية في السلطة الزمنية.
وبالإضافة إلى الكشوفات الجغرافية في مطلع القرن السادس عشر، ظهرت عدة اختراعات غيرت مسار أوروبا، كالورق، والبارود، والبوصلة، والدورة الدموية، ونشر إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر اكتشافاته عن الجاذبية وقوانين الحركة، وتم إنشاء مكتبة «جورجيو ماجيوري» للآداب والعلوم والفنون بمدينة البندقية، والأكاديمية الأفلاطونية بمدينة فلورنسا، فضلاً عن ظهور كتابات شكسبير وعدد من كبار الأدباء في الفترة نفسها.
ولم يكن من الممكن لتلك النهضة أن تزدهر دون توفر أدوات تساعد على نشر تلك الحركة العلمية والأدبية في مختلف المدن الأوروبية، حيث كان لاختراع الورق والمطبعة دور أساسي في نشر التراث القديم الذي عمدت النهضة إلى إحيائه، بالإضافة إلى نشر الدراسات الجديدة والكتب، الأمر الذي جعل هذه الأمور في متناول أيدي مختلف فئات المجتمع بعد أن كانت حكراً بيد الأثرياء والحكام ورجال الدين، وأسهمت الطباعة في إخراج الناس من الركود في العصور الوسطى، وفي تعلم اللغات القومية وانتشارها.
وساعد التخلص من الإرث الإقطاعي في نمو الحركة التجارية والصناعة والخدمات وفي ازدهار المدن الأوروبية التي انتشرت فيها مختلف العلوم والفنون، بحيث أصبحت كل مدينة تتنافس مع الأخرى في الإبداع الفني واقتناء الكتب وبناء الكنائس، والاهتمام بالنحت والتصوير والنقش.
وارتبطت بعملية الطباعة صناعات مهمة كصناعة الورق، والحبر، وتطوير آليات نقل الحبر إلى الورق تلقائيّاً من خلال «المطبعة»، بحيث تم تصنيع أكثر من ألف طابعة في القرن الخامس عشر، وطُبعَ أكثر من 40 ألف مؤلَّف، وقُدّر عدد النسخ المطبوعة ما بين ثمانية إلى عشر ملايين نسخة، بالإضافة إلى ازدهار حركة الترجمة، ونهوض الحركة الطبية إثر ترجمة مصنفات طبيّة لأبقراط، وجالين، وأرسطو، إلى عدّة لغات وانتشارها بين دارسي الطبّ في جميع أنحاءِ العالم.
وبفضل الأعداد الكبيرة من الكتب والنصوص المطبوعة ازداد عدد المقبلين على تعلم القراءة والكتابة، وأصبحت عملية نقل المعرفة أكثر سهولة بين مختلف الطبقات.

«الثورة الرقمية»

وإذا كانت تلك العوامل قد أسهمت في صناعة النهضة الأوروبية، فإن المنطقة العربية تقف اليوم على أعتاب تحول كبير يمكن أن يحدث نهضة بشرية لو توفرت آليات ترشيده واستثماره على صعيد التطور الحضاري، إذ تشهد البشرية منذ مطلع الألفية الثالثة نهضة غير مسبوقة في مجال الاتصالات والمعلومات، حيث قُدّر عدد مستخدمي الإنترنت بنحو 4 مليارات نسمة عام 2019، ولا يزال يدخل نحو 11 مستخدماً كل ثانية في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، ومن أبرز الأدوات التي ظهرت في بواكير حقبة «الثورة الرقمية»:
– «فيس بوك» (انطلق في يناير 2004) يستحوذ على 2,121 مليار متابع.
– تطبيق الرسائل القصيرة «واتساب» (انطلق عام 2009)، لديه أكثر من مليار ونصف المليار متابع بحلول عام 2019، وكانت إدارته قد أعلنت في يونيو 2013 أن سجلاتها اليومية وصلت إلى 27 مليار رسالة يومياً.
– برنامج «يوتيوب» الذي حظي بأكثر من 9 مليارات مشاهدة شهرياً عام 2019.
– «إنستغرام» الذي تجاوز عدد مستخدميه مليار نسمة عام 2018.
– «لينكد إن» الذي يستخدمه نحو 610 مليون متابع عبر العالم.
– تويتر (انطلق في مارس 2006) ويتجاوز عدد متابعيه 330 مليون متابع عام 2019.
– «سناب شات» الذي بلغ عدد متابعيه نحو 191 مليون مستخدم عام 2018.
وغيرها من البرامج والتطبيقات التي تحولت إلى هاجس عالمي يستحوذ على حركة مالية تتجاوز 500 مليار دولار، بحيث أصبح 6 من 8 أغنى أثرياء في عداد المهيمنين على سوق الاتصالات والمعلومات، وعلى رأسهم: جيف بيزوس المؤسس والرئيس والمدير التنفيذي ورئيس مجلس إدارة «أمازون دوت كوم»، وبيل غيتس مؤسس شركة «مايكروسوفت»، وكارلوس سليم رئيس شركات «تيلمكس» و«تيلكل»، ومارك زوكيربيرغ مؤسس موقع «فيس بوك»، ولاري إليسون المؤسس والمدير التنفيذي لشركة «أوراكل»، ومايكل بلومبيرغ مؤسس شركة «بلومبيرغ» المحدودة.

شكل: أعداد مستخدمي أبرز مواقع التواصل الاجتماعي.

وعلى الرغم من أن أبعاد هذه الطفرة العملاقة حديثة الظهور لا تزال غير معروفة، إلا أنه من الواضح أن الثورة الرقمية ستؤثر على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وخاصة في العالم العربي حيث تُعتبر نسب نمو قطاعات مستخدمي الإنترنت وانتشارها كوسائل لتلقي الأخبار والتواصل من بين الأعلى على مستوى العالم وبنسبة نمو تتجاوز 3000%، فقد ناهز عدد مستخدمي «فيس بوك» في العالم العربي عام 2018 نحو 156 مليون نسمة، وبلغ عدد مستعملي الإنترنت بمصر في العام نفسه نحو 50 مليون نسمة، وهو ما يعادل نصف سكان مصر.
وتحتل مصر المركز الأول كأكثر الدول العربية استخداماً لبرنامج «فيسبوك» الذي ناهز 34.5 مليون مستخدم عام 2017، وبلغت نسبة الشباب (أقل من 30 عاماً) نحو 65.8% من إجمالي المستخدمين.
وتأتي السعودية في المرتبة الثانية بأكثر من 30 مليون مستخدم، أي نحو 90 بالمئة من السكان البالغ عددهم 33 مليون نسمة، وحل المغرب ثالثاً بنحو 22 مليوناً، تليها الجزائر بنحو 19 مليون، والعراق بنحو 19 مليون، واستحوذت دول الخليج على المراتب الأولى في نسبة الدخول إلى الإنترنت، حيث يلج 99 بالمئة من سكان قطر والإمارات إلى الإنترنت، يليهم سكان الكويت والبحرين بنسبة 98 بالمئة.
ويحظى موقع «تويتر» باهتمام متزايد في العالم العربي، حيث ينضم نحو 590 ألف مستخدم جديد سنوياً منذ عام 2014، وبلغ مجموع متابعيه في العالم العربي عام 2017، 16.3 مليون مستخدم، في حين يبلغ عدد مستخدمي تطبيق «سناب شات» في العالم العربي حوالي سبعة ملايين مستخدم، وتتفوق عليه منصة «لينكد إن» للتواصل الاجتماعي الموجهة للمهنيين والباحثين عن عمل، حيث يتجاوز عدد مستخدميها العرب 17 مليون شخص.
وكشف تقرير نشرته اللجنة الإحصائية للأمم المتحدة (2019)، أن عدد تغريدات المصريين على «تويتر» وصل إلى 2.9 مليون تغريدة يومياً بنحو 2013 تغريدة في الدقيقة الواحدة، وبنسبة 18% من جملة التغريدات في المنطقة العربية، التي يبلغ عدد التغريدات فيها 27.4 مليون تغريدة في اليوم.
ويضاف إلى كثافة الاستخدام السياسي في المنطقة العربية، ظاهرة توفر الجمهور على مدار الساعة، حيث تشير الدراسات إلى تفقد الأجيال الشابة مواقع التواصل الاجتماعي مرة كل 31 ثانية، ويبلغ معدل دخولهم على الوسائط نحو 150 مرة في اليوم، ويقضي بعض الشباب نحو 5 ساعات على الهاتف يومياً في مختلف الأوقات والأحوال، بحيث أصبح نحو 400 مليون شخص يعانون من ظاهرة إدمان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وتنتشر في العالم العربي ظاهرة استخدام تلك الوسائل لأغراض سياسية، فعلى الرغم من تفوق الصين وأمريكا في مجالات حيازة الهواتف الجوالة واستخدامها في الإنترنت عام 2010، إلا أن مصر تفوقت عليهما باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الجوالة للتعبير عن الآراء السياسية، وتشير الدراسات إلى أن الطلب على المادة السياسية قد تضاعف عشرات المرات عما كان عليه قبل عام 2010، إذ أصبح ملايين الشباب منخرطين عملياً في الممارسة السياسية عبر الإنترنت.
وبالإضافة إلى تفشي ظاهرة الإدمان، فإن مشكلة الرقابة على المحتوى تمثل تحدياً كبيراً في ظل تنامي خطابات: الكراهية، والتمييز، والطائفية، وتأجيج الاحتقان بين المجتمعات، فضلاً عن الاستخدام المتزايد من قبل جماعات التطرف والعنف السياسي لنشر أفكارها عبر الشبكة العنكبوتية، حيث استخدم تنظيم «داعش» آلاف الحسابات لاستقطاب وتدريب أكثر من 30 ألفاً من عناصره عبر الشبكة العنكبوتية.
الانتشار الأفقي وتلاشي المركزية
لا يقتصر استخدام الإنترنت لأهداف سياسية على الجماعات الإرهابية مثل تنظيم «داعش» في الانتشار والتنظيم، بل تشمل هذه الظاهرة معظم الحركات العربية التي تعمل على مواكبة الثورة الرقمية وتوظيفها بهدف زيادة عدد أتباعها، ما دفع بالعمل السياسي للتحول من تشكيل الجماعات والحركات والأحزاب إلى نمط الانتشار الشبكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ففي الجزء الأكبر من القرن العشرين، كان مصطلح «الشبكة» يستخدم في المجالات التقنية والخدمية، مثل شبكات: الاتصالات، والكهرباء، والإنترنت، والشبكات المالية، والشبكات الصحية، وغيرها، إلا أن مفهوم الشبكة بدأ يرتبط بالظاهرة السياسية ابتداء من عام 2010، وذلك بالتزامن مع تراجع دور الحكومات والأحزاب والجماعات والنخب، وظهور الشبكات العابرة للحدود، كالشبكات الجهادية ذات الطابع الأممي، وبعض الشخصيات الدينية التي وظفت وسائل التواصل الاجتماعي لمد شبكة واسعة من التفاعل الجماهيري في المنطقة العربية.
ولا تقتصر ظاهرة نمو النشاط الشبكي على المنطقة العربية فحسب، بل يشهد العالم بأسره نمواً في نفوذ الشبكات العابرة للحدود، مثل الشبكات الاستخباراتية والشبكات الإعلامية، والشبكات المالية التي تتفوق على بعض الدول الكبرى قوة وتأثيراً.
وأسهمت الشبكات العابرة للحدود في إضعاف بنية الجمهوريات العربية القائمة على المركزية وضيق دائرة النخب التي تنامت عزلتها عن الجماهير، ولم تتمكن من مواكبة التحولات الكبرى، فلجأت إلى المزيد من تقييد الحريات والقمع، ما أدى إلى تدهور علاقاتها مع المجتمع، وتفشي الصراعات المحلية والإقليمية.
وشهدت الفترة الممتدة ما بين 2011 و2020 محاولات يائسة من بعض القوى الإقليمية لاستعادة المنظومة القديمة، وترميم البنى الجمهورية، وتعزيز قبضة المؤسسات الأمنية والعسكرية، لكن ذلك لم يكن كفيلاً بوقف التدهور الاقتصادي أو كبح الحراك الجماهيري.
وأسهم المصدر المفتوح للمعلومات في إضعاف مؤسسات الأمن، إذ أصبح بإمكان الأفراد الاطلاع على كم من المعلومات التي لا تستطيع المؤسسات الأمنية أن تسيطر عليها، الأمر الذي أفقد السلطة قدرتها على الاحتفاظ بمركزية القرار أو بمركزية السيطرة على المعلومات، خاصة وأن الإعلام الاجتماعي قد أطاح بالإعلام الرسمي الذي طالما مجّد القائد وتغنى بمنجزاته ورفعه فوق مستوى النقد.
وفي ظل اضمحلال الظاهرة المركزية، عانت الجمهوريات العربية من ضعف بنيوي شامل، مقابل إعادة الفرز الأفقي والتفاعل الجماهيري غير المنضبط على مستوى القاعدة.
وانعكست تلك الحالة بالضرورة على الجغرافيا، إذ لم يعد تمترس السلطات في العواصم والمدن الرئيسة كافياً لضمان سيطرتها على البلاد، بل نشأت حالة من السيولة غير المسبوقة انتشر بموجبها الحراك عبر الحدود، وتنامى تأثير الشبكات الهلامية التي فضلت البعد عن المركز لضمان حرية تحركها وتأثيرها، ما أدى إلى انهيار المنظومة المركزية التقليدية للجمهوريات العربية منذ ستينيات القرن الماضي.
وبالإضافة إلى الثورات الشعبية (2011 -2020)، شهدت المنطقة العربية ثورات رديفة على مستوى النخب التقليدية والمؤسسات الإعلامية التي لم تعد صالحة لمخاطبة الجماهير في العقد الثالث من الألفية، ويُتوقع أن يُسفر الإعلام الاجتماعي عن ثورات رديفة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنُظُمية، حيث تتحرك الأجيال الجديدة وفق نسق شبكي (أفقي) وليس وفق نسق هرمي أو ضمن تخطيط مركزي.
وتتحدث المصادر الاستشرافية عن إمكانية وقوع ثورة اقتصادية في ظل تنامي الفقر وتصاعد مؤشرات الفساد، حيث نشرت منظمة «أوكسفام» دراسة أشارت فيها إلى أن 1 بالمئة من سكان العالم يستحوذون على ثروات تفوق الـ99 بالمئة الآخرين، وأشارت الدراسة إلى أنه في عام 2015، استحوذ 62 شخصاً فقط على ثروة تزيد عما يمتلكه نحو 3.6 مليار شخص في العالم.[1]
وتوقعت دراسة نشرها بنك «كريدي سويس» أن يزداد فقراء العالم فقراً، حيث استحوذ نحو 50% من سكان العالم على نحو 1 بالمئة من الثروات، في حين احتكر 1 بالمئة من سكان العالم نحو 50% من ثرواته، وبالتالي فإن العولمة لم تحقق الرفاهية، وإنما عززت احتكار الدول الغربية وهيمنتها على مقدرات البشرية.[2]
وتقع المنطقة العربية في قلب الأزمة المرتقبة، حيث جاءت معظم الجمهوريات العربية في ذيل قائمة الفساد في تقرير «منظمة الشفافية» لعام 2018، وصنفت إحصائيات البنك الدولي (سبتمبر 2018) منطقة الوطن العربي بأنها أعلى منطقة جغرافية في العالم في نسب البطالة، إذ شكلت نسبة 9.81% من إجمالي سكان العالم العربي، وذلك مقارنة مع المعدل العالمي لنسبة البطالة الذي بلغ 5.38 فقط.[3]
ونتج عن حالة التردي العربي تراجع نحو 30 مليون عربي تحت خط الفقر، وتفشي الأمية التي شملت نحو 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة وفق تقديرات نشرت عام 2017، فضلاً عن عدم التحاق أكثر من 15 مليون طفل عربي بالمدارس في العامين الماضيين، وارتفاع كلفة الفساد في المنطقة العربية إلى ترليون دولار، وزيادة القيمة التقديرية لإعادة إعمار البنى التحتية عن 500 مليار دولار، وخسارة الناتج المحلي العربي بقيمة 300 مليار دولار، وسقوط ملايين القتلى والجرحى في معارك «الربيع العربي» التي لا تزال محتدمة حتى تاريخ تدوين هذه السطور.

صراع النخب والشبكات

يمثل تنامي الشبكات الظاهرة الأبرز في العالم العربي، حيث يتراجع دور الجماعات والأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية، مفسحة المجال لصراع من نوع آخر بين النخب السياسية التي تمتلك السلطة والثروة والقوة الخشنة (الجيش، والأمن، واحتكار السلاح، والسيطرة على الأرض، والتحكم بالموارد) وبين الشبكات التي تمثل القوة الناعمة بشتى مفاهيمها (الإعلام الاجتماعي، التظاهر السلمي، التحشيد الشعبي…).
ومع تداعي السلطة المركزية في الجمهوريات العربية بدأت تظهر ملامح تشكل شبكات مصالح بديلة، حيث حل الإعلام الاجتماعي محل الإعلام الرسمي في مخاطبة الجماهير، وتمكنت وسائل التواصل الاجتماعي من كسر احتكار السلطة المركزية للعلاقة الناظمة بين فئات المجتمع، واستمرت تلك الشبكات في النمو حتى تخطت حدود الدولة، وبدأت تعمل ضمن منظومات دولية، مثل:
وأدى انتشار تلك الشبكات إلى انتقال المعادلة من مرحلة الصراع بين الدولة والمجتمع، إلى الصراع بين القوى المجتمعية والجماعات العابرة للحدود والتي تعمل بصورة شبكية أكثر من كونها مركزية، وتتباين في حجمها ونفوذها ونشاطها والأدوار التي تقوم بها على المسرح الإقليمي والدولي.
وبالإضافة إلى تلك التطورات، يمكن مراقبة ثلاث تطورات مهمة في عالم الشبكات السياسية خلال الفترة 2011 -2019، هي:
1 ـ  اندلاع «حروب الشبكات»: حيث انخرطت العديد من القوى المجتمعية في تشكيلات مناطقية وإثنية وإيديولوجية وعشائرية، وأخذت تتصارع فيما بينها مستفيدة من الجماعات المتعاطفة معها على الصعيد الإقليمي والدولي، ويرى نيال فيرغسون، أن وسائل الاتصال بشتى أنواعها هي شريان حياة تلك الشبكات التي تتسم عموماً بالغموض والسرية، ما يصعب توثيق أعمالها، وكشف آلياتها في التجنيد والتأهيل والتدريب والتمويل والإدارة.[1]
2 ـ  تحول بعض الجماعات التقليدية إلى نمط البناء الشبكي بعد أن فقدت قواعدها الشعبية محلياً، ولم تعد قادرة على الاحتفاظ بأعضائها في ظل تطور وسائل التواصل، ما دفعها لتبني تكتيكات جديدة تشمل تقليل عدد الأعضاء الفاعلين، وتعزيز الكوادر والخبرات التقنية، بهدف تحقيق الانتشار والنفوذ الجماهيري بدلاً من التركيز على العضوية.
3 ـ  بروز ظاهرة «تحالف الشبكات»: حيث عمدت العديد من الشبكات المتقاربة في أهدافها إلى تشكيل تحالفات وائتلافات مصلحية في العالم العربي للعمل ضد السلطات السياسية وتوفير البديل عنها، علماً بأن هذه الحالة ليست فريدة من نوعها، إذ إن غالب المجتمعات المنعتقة من الحكم الاستبدادي تمر بمرحلة تفاعل أفقي تنتظم فيه مختلف فئات المجتمع المهمشة في حراك شبكي يفضي إلى تشكيل نخب سياسية جديدة.

شكل: تفاعلات عالم الشبكات.

أنماط التحول الشبكي

أسهم تعقيد بنية الشبكات وتوسعها وتعدد اختصاصاتها في تعزيز التنوع وفتح قنوات جديدة للمشاركة الشعبية في الشأن العام، وأدى ذلك بدوره إلى انتقال المنطقة العربية من هيمنة النخب العسكرية (hierarchy) إلى الشعبوية (grass roots) والتي تنخرط من خلالها المجتمعات العربية في حراك جماهيري في مواجهة الحكم المركزي.
ويُتوقع أن تؤثر تلك التحولات على نمط العمل الجماعي-الحركي القائم على الهياكل البنيوية ونظم العضوية، خاصة وأن مواطني الدول التي كانت تعمل على «تصدير» الديمقراطية في السابق قد آثروا تبني الانعزالية والشعبوية، مندفعين نحو عالم ما بعد الإيديولوجيا وما بعد الليبرالية-الديمقراطية.
ولمواكبة تلك التحولات غير المسبوقة، يتعين على المنخرطين في الشأن العام بالعالم العربي تبني مفاهيم جديدة في العمل السياسي تقوم على أسس شبكية ذات طابع أفقي، وأن تحدث في هياكلها تحولات جوهرية تتيح لها مجال الاستمرارية في البيئة العربية المتقلبة، وفق النموذج التالي:

جدول: مفردات التحول الشبكي.

ويُتوقع أن تسفر تلك التحولات عن استحداث أدوات مختلفة في الخطاب وفي نمط الانتشار الفكري، وغيرها من أدوات المخاطبة والتفاعل والتي تم تناولها في المبحث التالي بعنوان: «مخاطبة الأجيال المقبلة».

Niall Ferguson (2018) The Square and the Tower Networks and Power, from the Freemasons to Facebook, Penguin Press, London.

صدرت ترجمة عربية للكتاب بعنوان: «الساحة والبرج: الشبكات والسلطة من الماسونيين الأحرار إلى فيسبوك» (2019) ترجمة حسان نايل، دار التنوير.

[1] https://www.oxfam.org/en/press ـ releases/62 ـ people ـ own ـ same ـ half ـ world ـ reveals ـ oxfam ـ davos ـ report

[1]  https://www.credit ـ suisse.com/about ـ us/en/reports ـ research/global ـ wealth ـ report.html

[1]  https://data.worldbank.org/indicator/SL.UEM.TOTL.ZS?locations=EG ـ 1W

Niall Ferguson (2018) Ibid, pp. 10 ـ 14.

 

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021