كيف نخاطب جيل ما بعد الألفية؟

ظاهرة «الانتشار الفيروسي»

ليس الهدف من طرح عبارة «الانتشار الفيروسي» التذكير بالأوبئة التي ظهرت في مراحل مختلفة في التاريخ والبشري، وعلى رأسها وباء الطاعون «الموت الأسود» الذي اجتاح العالم في القرن الرابع عشر الميلادي وحصد أراوح الملايين، بل حديثنا في الصفحات المقبلة يتناول موجة غير مسبوقة من الانتشار الإلكتروني المتمثل في عدة مظاهر أبرزها: «الانتشار الحيوي» (viral traffic)، و«الفيديو الفيروسي» (viral video)، و«التسويق الفيروسي» (viral marketing.)
ومن الأمثلة التي ظهرت في العقد الثاني من الألفية «تحدي دلو الثلج» (Ice Bucket Challenge)، والمتمثل في قيام المتحدي بسكب وعاء من الماء المثلج فوق رأسه أو التبرع بمئة دولار لصالح حملة تهدف إلى نشر الوعي حول مرض التصلب العضلي الجانبي، الذي يصيب الجهاز العصبي بالضمور، ويسبب نسبة وفيات عالية بين مصابيه، وانضمت العديد من الشخصيات العامة للمبادرة التي ظهرت عام 2014، وانتشرت كالنار في الهشيم، حيث شارك فيها كبار المشاهير حول العالم أمثال: بيل غيتس، وباراك أوباما، وجورج بوش الابن، وأوبرا وينفري، ومارك زوكربيرغ، وتمكنت من جمع 220 مليون دولار، وتجاوز تحميل الفيديوهات الخاصة بالحملة 17 مليون تحميل.
وكذلك الحال بالنسبة لحملة «أنا أيضاً» (Me too)، لإدانة واستنكار التحرش الجنسي، والتي حظيت بشعبية عالمية، حيث غردت ملايين النساء حول العالم من خلال الوسم الذي وضع في 15 أكتوبر 2017، وتم استخدامه أكثر من 200000 مرة بحلول نهاية اليوم، فيما استخدم الهاشتاغ الخاص بالحملة أكثر من 4.7 مليون شخص في 12 مليون مشاركة خلال الأربعة وعشرين ساعة الأولى، وتصدّر برنامج «تويتر» في 85 بلد حول العالم، وأدى إلى إسقاط شخصيات متنفذة في مجالات السياسة والفن والرياضة.
ويمكن ذكر العديد من المفاهيم التي انتشرت بصورة مفاجئة على مستوى العالم في الفضاء الإلكتروني، وكانت لها تأثيرات كبيرة على المشهد السياسي في الكثير من البلدان، الأمر الذي دفع بالسلطات السياسية لوضع آليات تهدف إلى مكافحة مثل تلك الظواهر.
وعلى الرغم من التشديد والرقابة والإجراءات الصارمة التي اتخذتها بعض الدول العربية بحق المغردين، إلا أن مظاهر الانتشار الوبائي وضعت قواعد جديدة للخطاب الجماهيري في العقد الثاني من الألفية، ويتوقع أن يكون لها تأثير أكبر في العقد المقبل.

المجال العام «الافتراضي»

يُعرّف المجال العام (Public Sphere) بأنه: «المساحة التي يتناقش من خلالها المواطنون والفئات المجتمعية المتباينة، ويتجادلون حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة».
وكان المفكر الألماني يورغن هابرماس قد طرح نظرية «المجال العام» في ستينيات القرن الماضي كرؤية اجتماعية للخطاب السياسي، ولدور المجتمع المدني في التحرر من الإيديولوجيات النازية والفاشية، داعياً إلى تخليص العقول من قيود السلطة، واعتماد وسائل الاتصال كوسيلة رئيسة للتفاعل مع الأحداث السياسية ومناقشتها بصورة مفتوحة خارج إطار الوصاية الرسمية.[1]
ومرت عملية تفاعل الشعوب مع القضايا الاجتماعية والسياسية بعد ذلك بثلاثة أطوار، هي:
1 ـ  اجتماع عدد من الأفراد في الأماكن العامة والتداول بشأن مختلف الأحداث والتطورات.
2 ـ  الاعتماد على وسائل الإعلام التي استبدلت التفاعلات الشخصية بنموذج أُحادي الاتجاه، يعتمد على التلقي بدلاً من المشاركة، وبذلك لم يعد للجماهير فرصة حقيقية للمشاركة في التفاعل والحوار.
3 ـ  عودة الأفراد للتفاعل مع الأحداث من خلال «المجال العام الافتراضي» عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم مجال التعبير الحر عن آرائهم دون رقابة أو وساطة.
واصطلح البعض على تسمية توسع المجال العام في العالم الافتراضي باسم «الديمقراطية الإلكترونية» أو «الديمقراطية الرقمية» نظراً لدور التقنيات المعاصرة ووسائل التواصل الاجتماعي في إعادة الخطاب العام للجماهير وتمكين الجموع من التعبير عن أنفسهم بحرية تامة، بحيث أصبح المجال العام الافتراضي مفتوحاً للأفراد المستبعدين والمهمشين لتقديم خطابات مفتوحة في مجال يتم التعامل فيه مع الأفكار على اعتبار جدارتها، وليس على اعتبار مكانة الشخص أو شهرته.
وفي مقابل إضعاف القيم التقليدية، وهدم التراتبية المجتمعية، ارتكز المجال العام «الافتراضي» على مجموعة قيمية جديدة كالشفافية والحرية والفاعلية والمشاركة، بحيث أصبحت فرصة المشاركة متاحة لجميع المواطنين على قدم المساواة، ونتج عن ذلك إضعاف التباينات الاجتماعية التقليدية، وتمكين الجماهير من الانتماء لمجموعات جديدة، ما عزز مفهوم «الهويات الفرعية» وأبرز دور الجماعات المناهضة للدولة، ويسر العمل خارج إطار السلطة.
وعلى الرغم من الدور الذي تبوأه «المجال العام الإلكتروني» في تعزيز الفاعلية السياسية للجماهير، إلا إنه أثر بصورة سلبية على المجتمعات من خلال:
1 ـ  إضعاف الروابط المجتمعية، بحيث ضعفت العلاقات الأسرية وحل مفهوم التواصل الإلكتروني بدل التواصل المباشر.
2 ـ  تقوية هويات ما دون الدولة، والتي ازدهرت في الجمهوريات العربية كردة فعل لفشل الدولة وعجزها عن بسط سيطرتها على المدن والأقاليم، إذ لم يعد بمقدور السلطات المركزية السيطرة على تصرف الجماعات والهويات الفرعية في الأقاليم النائية أو الخارجة عن سيطرتها.
3 ـ  إيقاظ العصبويات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية والمناطقية ولجوئها إلى شبكات الإعلام الاجتماعي للمطالبة بالخصوصية أو التقسيم أو الانفصال، بحيث تشتت المجتمع وأصبح من غير الممكن الربط بين مكوناته المتصارعة.
وكان هابرماس قد ميّز بين «المجال الخاص» المتعلق بالأسر والمجموعات الفرعية، وبين «المجال العام» الذي يقوم على أساس نظام مجتمعي ينقسم إلى ثلاثة أنظمة فرعية هي:
– النظام السياسي.
– النظم الوظيفية كالتعليم والصحة والخدمات.
– المجتمع المدني.
معتبراً أن المجال العام يعمل على ربط وتوثيق حالة التفاعل بين هذه الأنظمة، ويتيح للجمهور مجال المشاركة الفاعلة في تنقيح الآراء المتعلقة بتطوير تلك النظم وبلورتها.
إلا أن هذه النظرة بدت قاصرة أمام التوسع المفرط للمجال العام والاستخدام المغاير لأدواته، حيث ظهرت هويات فرعية تناهض الدولة، وتعمل خارج إطارها، وتطالب بالقضاء عليها، وتعمل على استبدالها بكيانات جديدة.
كما اندفعت جماعات الكراهية والطائفية والغلو والإرهاب المنظم، وشبكات الفساد الأخلاقي، لمزاحمة الجماهير، وتمكنت ـ  بفضل التنظيم والتمويل المتوفر لها ـ  من الاستحواذ على حيز كبير من المجال العام، وعملت من خلاله على ضخ مواد ذات طابع تفتيتي سلبي، مستفيدة من ضعف الضوابط الناظمة للاستخدام.

«الاستبداد الإلكتروني»

نظراً لأن السيطرة على الخطاب الإعلامي قد مثلت أحد أهم مرتكزات الدولة الاستبدادية في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن السلطات السياسية قد بادرت في الألفية الثالثة إلى تقييد المشاركة الشعبية في وسائل التواصل الاجتماعي، وأنشأت جيوشاً إلكترونية لترهيب المواطنين، واستحدثت أنظمة متقدمة في رقابة المعارضين وملاحقتهم، ومن ثم تصفيتهم أو تغييبهم في السجون.
وأسفرت تلك التطورات عن قصور في تطبيق نظرية المجال العام، والتي افترضت وجود أخلاقيات تضبط المشاركة الشعبية، وتوفر الحرية والشفافية اللازمة لطرح المواضيع ومناقشتها والتعبير عن آرائهم دون إكراه أو تضييق، خاصة وأن الجيوش الإلكترونية الرسمية قد غزت المجال العام وضيقت مجال المشاركة الشفافة والتفاعل الشعبي، بحيث أصبح القمع في المجال العربي سمة للعديد من الجماعات التي أنشأت بدورها آليات رديفة للتضييق والملاحقة وتصفية الناشطين.
كما يواجه المجال العام الافتراضي في العالم العربي مشكلة أخرى تتمثل في بروز ظاهرة «الرأي العام الإلكتروني»، والتي لا تمثل بالضرورة حرية الأفراد في التعبير عن أنفسهم، وإنما تعكس هيمنة بعض المؤسسات الرسمية والجماعات التي تملك القدرة على ضخ كميات كبيرة من المعلومات الموجهة وفتح حسابات وهمية وإنشاء شبكات افتراضية تحاول سوق الجماهير باتجاهات محددة وتجرم أو تقلل من قيمة مخالفيها، وهي ممارسات مخادعة تنافي الحريات العامة وتعمل على كبتها، الأمر الذي ينافي معايير المجال العام الافتراضي القائم على الاستقلال، والعقلانية في تبادل الرأي، والمساواة، والمصداقية في تداول المعلومات ومناقشتها.
أما على الصعيد العالمي، فإن المخاوف تتنامى من تواطؤ مواقع كبرى مثل «غوغل» و«فيس بوك» على سرقة بيانات عملائها وتسريبها لمؤسسات استخباراتية أو اقتصادية تحاول الهيمنة على عقول الملايين من البشر في ظاهرة مقلقة يطلق عليها «الاستبداد الإلكتروني».
وتمثل هيمنة الشركات الاقتصادية على الإنترنت عبر مواقعها الإخبارية معوقاً آخر يتمثل في هيمنة تلك الشركات على الفضاء الإلكتروني، ما يحد بدوره من قدرة الأفراد على إنتاج خطاب عقلاني مستقل عن المؤثرات الخارجية، ويحول المجال العام الافتراضي من ساحة حرة مفتوحة إلى ساحة تجارية مغلقة.
كما تمثل السيطرة على محتوى الفضاء الإلكتروني من قبل الشركات الكبرى التي تتحكم في البرامج والإدارة عائقاً آخر يحول دون الحرية الشخصية في المجال العام، وخاصة في الدول العربية، حيث تتنامى ظاهرة حظر الأفراد وحظر المحتوى بطرق أقرب إلى العشوائية والتعسفية والتوجيه السياسي من قبل الجهات المقدمة للخدمة.
ويمثل الازدحام غير المسبوق في طرح الغث والسمين من الآراء الفردية والمداخلات على مدار الساعة، ودون توقف، عائقاً يحول دون تمحيص المادة والخروج بنقاش إيجابي أو بنتائج تحقق التوافق العام في المجتمع، بل تسهم في تشتيت الحوار نتيجة الكثافة في الجدل وتسطيح النقاش، فضلاً عن ارتباط الفضاء الإلكتروني بأزمة الهوية، والتأثير السلبي الذي تجلبه عملية الاتصال المفتوح على مفاهيم المواطنة والانتماء، ووقوع ملايين الأفراد في مشكلة التبعية للهويات والثقافات المتفوقة والتنصل من هوياتهم التي تعاني في المرحلة الراهنة من التفكك والصراع.

فنون التعامل مع جمهور ما بعد الألفية

وفي مقابل سلبيات الفضاء الإلكتروني، تكمن جوانب مشرقة تتمثل في: إتاحة مجال التداول الحر للأفكار والآراء، ومنع السلطة من احتكار الخطاب الإعلامي عبر المنصات الكلاسيكية كالقنوات الفضائية والصحافة الرسمية، ما أدى بدوره إلى تعزيز الحريات العامة كالتعبير والتجمع والتظاهر والاحتجاج، وكان له الأثر الأكبر في اندلاع الثورات الشعبية، التي وظفت وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال صوتها والتعبير عن نفسها، وأتاحت للملايين مجال المشاركة الفاعلة.
ولم يقتصر تأثير توسع المجال العام على الإطاحة بالنظم الاستبدادية فحسب، بل امتد أثره ليضعف من دور النخب العربية التي فقدت قدرتها على التوجيه والإرشاد، مقابل اندفاع الملايين من الشباب العربي المهمش للتفاعل والتعبير والمشاركة في الشأن العام.
وفي مقابل إضعاف نفوذ السلطات السياسية والأحزاب والجماعات التقليدية، أسهم المجال العام الافتراضي في تنشيط المجتمع المدني عبر عدة آليات أبرزها:
1 ـ  زيادة إمكانية الوصول للمعلومات السياسية وتداولها من خلال المواقع الإخبارية والمنتديات العامة.
2 ـ  تيسير عملية الحوار السياسي على مستوى الأفراد والجماعات من خلال المجموعات النقاشية.
3 ـ  كثافة التفاعل والمشاركة في مختلف مجالات الشأن العام عبر التدوين والتعليق والتقييم والنقد.
4 ـ  تعزيز حرية التعبير وإبداء الرأي والتوقيع على العرائض والانضمام للاحتجاجات الإلكترونية.
5 ـ  كسر احتكار السلطات السياسية للخطاب العام من خلال سيطرتها على الإعلام الرسمي.
6 ـ  تنمية مصادر المعرفة في المجتمعات التي عانت عقوداً طويلة من الوصاية والتجهيل.
7 ـ  تزويد الشباب العربي بمهارات الفاعلية والمشاركة والنفاذ إلى الرأي العام والتأثير فيه.
8 ـ  تمكين الجماهير من التواصل وتبادل المعلومات والمعارف على أساس الاهتمام المشترك.
9 ـ  نقل العملية التفاعلية من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع وتحويلها إلى نشاط سياسي كالدعوة إلى التصويت والتظاهر والاحتجاج والإضراب.
10 ـ  فتح مجال الممارسة والتفاعل السياسي من خلال قنوات: التطوع، والتبرع، والحشد، والتعبئة، والترويج.
11 ـ  تمكين الأفراد من المساهمة في إنتاج المادة السياسية على صورة مقالات وبحوث ودراسات وتعليقات وشعارات، ومقاطع مسجلة ومرئية.
12 ـ  تعزيز ثقافة حقوق الإنسان عبر فضح الممارسات القمعية وتوعية الجماهير العربية بحقوقها.
13 ـ  إنشاء الجماعات والأحزاب واللوبيات والمجموعات الفاعلة التي لجأت إلى الفضاء الإلكتروني لتخطي القيود القانونية والإجراءات القمعية في بلدانها.
ويتجلى الأثر الأبرز لظاهرة المجال العام الإلكتروني في قلب الهرم السياسي في العالم العربي، بحيث انتقلت الفاعلية السياسية من الدائرة الضيقة على مستوى النخب، إلى القاعدة الواسعة المتمثلة في الحراك الشعبي الذي اصطلح على تسميته (grass roots) والذي يمكن ترجمته بأنه: «التفاعل والتأثير على مستوى القاعدة الجماهيرية وليس على مستوى رأس الهرم السياسي».
ونظراً لحداثة التجربة العربية في المجال العام الافتراضي، فقد عانت معظم الأحزاب والجماعات التقليدية في العالم العربي من ضعف تجربتها وقلة كوادرها في هذا المجال، ما عرّضها للنقد العام وضمّ بعضها إلى مصافِّ السلطات الاستبدادية، خاصة وأن تلك الجماعات لم تكن قادرة على تطوير أدواتها في الحشد والتنسيب والخطاب الجماهيري، بل اقتصر نشاطها على التعامل مع فئات ضيقة من الأتباع الذين أدمنت مخاطبتهم بمفهوم الوصاية والتبعية والولاء.

شكل: دور المجال العام الافتراضي في تنشيط العمل السياسي.

وأسهمت الاحتجاجات الشعبية كذلك في كشف قصور تلك الجماعات عن مواكبة الحراك الشبابي نتيجة فشلها في تطوير منطلقاتها الفكرية، وعجزها عن الاستجابة لتحولات المرحلة وتحدياتها، ما يدعو إلى ضرورة نقل الخطاب السياسي من حيزه النخبوي إلى قاعدته الجماهيرية الأوسع، وذلك من خلال تبني إستراتيجية خطاب سياسي موجه يتعامل مع كل فئة وفق خصوصيتها، وتتمثل أبرز ملامحه فيما يلي: 

جدول: إستراتيجية صياغة خطاب سياسي متخصص.

جدول: إستراتيجية ترويج جماهيري (أفقي).

أما في حال توجيه الخطاب العام للجماهير فيتعين تبني إستراتيجية رديفة تقوم على مفهوم «الانتشار الأفقي»، وذلك وفق الخطوات التالية:

إدارة التنوع

نظراً لتوسطها بين قارات العالم القديم واستحواذها على طرق المواصلات عبر العصور، اكتسبت المجتمعات العربية صفتي التنوع والتسامح اللتين تمثلان أساس التعايش المشترك، حيث تستوعب المنطقة العربية عشرات الطوائف والمذاهب والإثنيات والأديان.
وعلى الرغم من احتدام صراع الهويات ومطالب الانفصال وخطط التقسيم التي تتبناها بعض الجماعات اليوم، إلا أن السمة التعددية (cosmopolitan) التي تستوعب مختلف الأجناس والأعراق واللغات لا تزال تمثل الطابع المجتمعي الأوضح في المدن العربية الكبرى.
ويُتوقع أن تُفضي ثورة الاتصالات إلى اضمحلال النزعات القومية، وذلك نتيجة ضعف الدولة المركزية، والانفتاح بين مختلف الفئات المجتمعية، وتغير نمط الإنتاج الاقتصادي، والذي سيؤدي بدوره إلى تداعي الحدود وتحول المنطقة العربية إلى نمط أقرب إلى الاتحاد الأوروبي من حيث السيولة السكانية والعلاقات بين الدول، وستجد الجماعات الإثنية والدينية نفسها مضطرة للانفتاح على المجتمع، بعد أن كانت تحرص على المحافظة على خصوصيتها.
ولا شك في أن محاولة حصر الجماعات السكانية المختلفة في قومية واحدة هو أمر متعذر، فقد حاول الأمير فيصل بن الحسين تأسيس نظام حكم يقوم على القومية العربية في بلاد الشام عام 1918، إلا أن مشروعه لم ينجح، وذلك نتيجة عدم استيعاب الفوارق بين المجتمعات الشرقية والغربية، فبينما كانت الأعراق والقوميات هي أساس نشوء دول أوروبا الحديثة، فإن الدول الشرقية تميزت بتعدد القوميات والأديان.
ولم تساعد فكرة إذابة الفروقات المجتمعية عبر التعامل مع جميع المواطنين على أساس اللغة والعرق، بل لقيت معارضة واسعة من قبل الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية التي عارضت قيام كيان سياسي لا يحترم خصوصياتها.
ويمكن القول بأن محاولة فيصل بن الحسين تأسيس كيان قومي لم تكن في حقيقتها سوى استبدال للدولة العالمية ذات الطابع التعددي بالدولة القومية الضيقة في حدودها وعدد محكوميها، ما أدى إلى انهيار الدولة الفيصلية وقيام الانتداب الفرنسي بتشكيل اتحاد فيدرالي من خمس كانتونات في بلاد الشام قام معظمها على أساس طائفي خلال الفترة 1920-1936.
وبعد مرور قرن على تلك الأحداث، عادت مشكلة الانقسام الإثني والطائفي إلى الظهور من جديد، وذلك نتيجة انهيار الحكم المركزي، واضمحلال الحدود التقليدية، وتنامي وسائل التواصل والتبادل الثقافي بين الشعوب العربية.
ويُتوقع أن تتغير ملامح المشهد السياسي خلال العقد الثالث من الألفية، حيث تظهر ملامح نظم ذات طابع لامركزي، وفقدان العواصم العربية سيطرتها على الأقاليم، ما يؤدي بدوره إلى حالة انسياب سكاني في مراكز جديدة للإنتاج الاقتصادي والتبادل التجاري، ويقلص قدرة الأقليات على الاحتفاظ بخصوصياتها، فضلاً عن حركات الهجرة واللجوء، والتي أثرت بصورة كبيرة على التقسيم السكاني الذي ساد في المشرق العربي خلال العقود الماضية.
وفي ظل الزيادة السكانية غير المسبوقة، فإن الساحة السياسية ستواجه احتدام صراع الهوية خلال مرحلة إعادة التشكل السياسي، ما يدعو إلى ضرورة استيعاب فنون ومهارات إدارة التنوع، والتعامل مع المكونات المجتمعية بصورة مغاير للوسائل التي اتبعتها النظم الشمولية في العقود الستة الماضية.
وتُعرّف إدارة التنوع بأنها: «الاعتراف بالفروق الفردية وتقديرها»، وتشمل قبول الفروقات الإثنية والعرقية والاعتقادية والسياسية واحترامها، وتجاوز مفهوم التسامح البسيط إلى تعزيز الثراء المجتمعي من خلال تقدير تلك الفروقات.
وتختلف «إدارة التنوع» عن مفاهيم، «المساواة» و«تكافؤ الفرص» و«الإجراءات الإيجابية لمنع التمييز»، إذ إنها تُعنى بالبحث عن مكامن القوة لدى مختلف الفئات المجتمعية وعن سبل توظيفها في تعزيز الرفاهية، وذلك من خلال الخطوات التالية:

شكل: إدارة التنوع.

وتفرض الزيادة السكانية المقرونة بثورة الاتصالات نمطاً جديداً من التعامل مع جماهير الألفية التي باتت تمتلك أدوات متقدمة ووسائل متطورة للتعبير والنقد والمشاركة في الشأن العام، بل أصبح بمقدورها إسقاط الرموز السياسية والنظم الحاكمة، وإبراز شخصيات قيادية خارج التصنيف الطبقي والنخبوي التقليدي، فبالإضافة إلى المتغيرات التي جلبتها ظواهر «الانتشار الفيروسي»، واتساع «المجال العام الافتراضي»، جلبت الثورة الرقمية مجموعة تحديات ومخاطر تتمثل في إضعاف كيان الدولة مقابل تيارات العولمة، وترجيح الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة، وتنامي مظاهر الكراهية والطائفية والغلو والإرهاب المنظم والفساد الأخلاقي، وغيرها من الظواهر التي نجحت في تطوير خطاب منظم قادر على مزاحمة الخطاب السياسي الرشيد في المجال العام.
وتتطلب هذه التحولات الكبرى تطوير آليات إدارة التنوع، والاعتراف بالتعددية كشرطين محوريين في إعادة التشكل السياسي بالمنطقة العربية، والتعامل مع مختلف الفئات المجتمعية كعناصر أساسية في عملية بناء النظم السياسية البديلة وإثرائها.
Jürgen Habermas (1989) The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a category of Bourgeois Society, translated Thomas Burger and Frederick Lawrence. Polity, Cambrige.
Henry Timmes and Jeremy Hiemans (2018) New Power How it’s changing the 21st century and why you need to know, Macmillan, London.
 

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021