تُعرّف القوة بأنها، «القدرة على التأثير في الغير، وحمل الآخرين على التصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة».
وعرفها آخرون بأنها: «المشاركة الفعالة في صنع القرارات المهمة في المجتمع».
وترتبط بعدة مفاهيم أخرى مثل، «السلطة»، و«النفوذ»، و«القهر»، و«التأثير»، و«الإرغام»، وغيرها من المصطلحات التي تستخدم في الثقافة المعاصرة كمترادفات أو كعناصر لتحليل القوة.
وبناء على هذا التعريف فإن القوة تتمثل في تسعة عناصر رئيسة هي.
وقسمها آخرون إلى خمسة أصناف:
1 ـ قوة سياسية.
2 ـ قوة دبلوماسية.
3 ـ قوة اقتصادية.
4 ـ قوة عسكرية.
5 ـ قوة معنوية.
وظهر في مطلع التسعينيات تصنيف آخر يضع القوة ضمن دائرتين رئيستين هما: «القوة الناعمة» التي تقوم على أسس اعتبارية ومعنوية، و«القوة الخشنة» ذات الطابع المادي الملموس الذي يُمكّنها من ممارسة الإجبار.
يتفق المحللون على أن القوة ديناميكية وليست جامدة، ولها مكونات وتفاعلات ومردودات، وتمر في حالة تغير مستمر، بحيث يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل رئيسة:
1 ـ مرحلة القوة الكامنة: وتتمثل في وجود العديد من عناصر القوة التي لا يتم توظيفها، وتتزامن مع حالة من الجمود في المشهد السياسي، حيث تدرك القوى الفاعلة وجود مكامن مهمة للتأثير لكنها لا تمتلك الرغبة أو القدرة على الاستفادة منها أو تطويرها.
2 ـ المرحلة الانتقالية: والتي تتزامن مع تطورات مهمة على الصعيد المجتمعي، بما في ذلك الزيادة السكانية الكبيرة، أو زيادة مستوى الوعي والثقافة، أو تنامي مفهوم المشاركة الشعبية لدى أبناء المجتمع، أو توفر الموارد على مستوى وطني أو محلي، بما يسهم في زيادة الدخل وقدرة المجتمعات على التحرك والفاعلية في الشأن العام، فضلاً عن نمو المشاركة القومية على الصعيد الوطني، والتي تدفع بالجموع للتحرك رغبة في تحقيق مصالح مشتركة أو للقضاء على مظاهر التسلط والاستبداد.
3 ـ مرحلة نضج القوة: وتتحقق هذه المرحلة عندما ترقى الشعوب إلى مستوى الحدث، بحيث تتمكن مختلف القوى الفاعلة من تحقيق التواصل فيما بينها، وتمتلك القدرة على اتخاذ المبادرات وإسماع صوتها على الصعد الوطنية والدولية.
وتوصف السلطة في مرحلة الهيمنة بأنها «قوية وقانعة» إذ إنها لا ترغب في تغيير الأوضاع، بل تعمل على المحافظة على الوضع القائم لحماية مصالحها، وتستطيع المحافظة على ذلك الوضع ما دامت قادرة على توزيع المنافع بصورة تضمن بقاءها.
ومع تآكل السلطة الاستبدادية واندلاع الصراع بين أقطابها، تعمل القوى المجتمعية الفاعلة على امتلاك المزيد من عناصر القوة بحيث تتحول تدريجياً من قوى «غير قوية وغير قانعة»، إلى قوى «قوية وغير قانعة»، وذلك بالقدر الذي يُمكّنها من تغيير الأوضاع لصالحها، وينشأ الصراع آنذاك بين القوى القانعة التي لا ترغب في التغيير وبين القوى غير القانعة التي ترغب في التغيير.
ومن المثير للسخرية في مشهد الصراع اليوم هو ارتكاز القوى المهيمنة على تحالفات مع فئات مجتمعية تصنف بأنها «ضعيفة وقانعة» بحيث يتم تسليطها على الفئات غير القانعة في المجتمع، وتتقوى السلطة بهذا الصراع الذي تذكيه بين أطراف المجتمع، متذرعة بضرورة بقائها للفصل بين المتصارعين، ودورها في الحفاظ على المكتسبات ومنع الفوضى والعنف.
إلا إن المحافظة على حالة الاستحواذ هو أمر متعذر في «الظاهرة السياسية»، إذ تنزع السلطة إلى ممارسة العنف الرسمي وفرض المزيد من الاستحواذ والاحتكار، ما يؤدي إلى ضيق تلك المجموعة، واتساع رقعة معارضتها في الدوائر الشعبية وكذلك في دوائر النخب، بحيث تظهر طبقة غير قانعة، تعمل على انتزاع مصادر القوة من السلطة.
وبخلاف الحجج الواهية التي تسوقها السلطة الاستبدادية لاحتكار القوة كتحقيق السلم الأهلي، يرتبط السلم في حقيقته بمفهوم القناعة وليس بمفهوم الاحتكار، إذ إن القوة الحقيقية تكمن في شعور الجماهير بالرضا عن أداء الدولة في المحافظة على مصالحها وتطوير مواردها فيما يحقق الصالح العام، وليس من خلال الكبت والاضطهاد الذي قد تستجيب له الشعوب لفترة ما، لكنها تبقى متربصة ريثما تتغير الموازين وتمتلك «القدرة» أو «الاستطاعة» على تغيير السلطة الاستبدادية.
بعيداً عن نظريات القوة وتطبيقاتها في مجالات التسلح والتوازن والردع، يتعين على العاملين في أي مشروع سياسي العمل على حيازة أكبر قدر من مصادر القوة المحلية، إذ إن الهدف الأسمى للعمل السياسي هو تحقيق الممارسة السلمية والقبول المجتمعي عبر وسائل الإقناع وليس من خلال أدوات الإكراه.
ويمكن تلخيص أبرز مصادر القوة على الصعيد الوطني فيما يلي:
– قوة الخطاب (الإعلام): امتلاك الأدوات التي تساعد على رسم صورة إيجابية للعمل بين المجتمعات، ويتطلب ذلك عدة إجراءات منها: حيازة تقنيات الخطاب العام، وإقامة علاقات تعاون مع المؤسسات الإعلامية، وتمكين الشباب من المساهمة الإعلامية وتوفير التدريب اللازم لهم للقيام بذلك.
– القوة الاقتصادية (تنمية الموارد المالية): من خلال تأطير وتنظيم قطاعات الإنتاج المحلي والمساعدات والهبات غير المشروطة، والتحالف مع المؤسسات الاقتصادية التي يمكن أن تسهم في تعزيز البرنامج السياسي.
– القوة الشعبية (الامتداد الشعبي): عبر صياغة إستراتيجية لتعزيز العلاقات المجتمعية، وصياغة أنماط مختلفة من الخطاب للفئات المؤيدة والمعارضة والمحايدة، والوصول إلى مختلف المناطق، وتخفيف حالة الريبة والعداء من قبل الأطراف غير المنسجمة مع البرنامج السياسي أو تلك المختلفة من حيث الانتماء المجتمعي.
– القوة السياسية (التحالفات الإستراتيجية والتحالفات المرحلية): لا تستطيع القوى الفاعلة تحقيق أهدافها في معزل عن محيطها، وبالتالي فإنه لا بد من صياغة نسق شامل للتحالف أو التعاون أو التكامل مع مختلف القوى السياسية الفاعلة، ومؤسسات المجتمع المدني، والفعاليات والقوى المجتمعية للتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
– القوة البنيوية (تعزيز البنية التنظيمية): يفرض تسارع الأحداث وعمق التحولات على سائر القوى الفاعلة في المشهد السياسي مراجعة نُظُمها الهيكلية والإدارية، وتطويرها وتحديثها، وضخ الدماء الجديدة فيها لضمان استمراريتها.
– القوة الفكرية (مراجعة المنطلقات الفكرية وتحديثها وفق المستجدات): شهدت مرحلة «الربيع العربي» حراكاً جماهيرياً ضخماً أفضى إلى الكثير من الدمار والفوضى نتيجة غياب الترشيد، ما يؤكد ضرورة قيام الحركات السياسية والنخب المؤثرة بمراجعة منطلقاتها الفكرية، وتسويق رؤاها بصورة مبسطة تضمن القبول والانتشار.
– القوة البشرية (تنمية المهارات): وذلك من خلال تنفيذ برامج تطوير القدرات، وتأهيل الأجيال الشبابية، وتعزيز قدراتهم عبر عقد الدورات التدريبية في: العمل السياسي، والإستراتيجيات الدولية، والنظم الانتخابية، والعمل الدبلوماسي، والمهارات الشخصية.
– القوة المعلوماتية: الاستفادة من ثورة الاتصالات والمعلومات وتطور أدواتها في قراءة الواقع وتقييم المرحلة، والتعامل مع المستجدات بمهنية واحتراف، وتأسيس مراكز بحثية وفكرية، وأجهزة للرصد المعلوماتي والبحث العلمي.
على الرغم من أهمية نظريات القوة وضرورة دراستها من قبل جميع القوى الفاعلة في المشهد السياسي، إلا أن هنالك مفاهيم خاطئة لا بد من تصحيحها فيما يتعلق بالعلاقة بين السلطة والمجتمع، أبرزها:
1 ـ ربط مفهوم «المصلحة» بمفهوم «القوة»: وهما أمران غير متلازمان بالضرورة، فقد تستخدم بعض الجهات الفاعلة القوة وفق مفاهيم خاطئة، أو لدوافع اعتقادية أو نخبوية (لتأمين هيمنة عرقية أو إثنية أو طائفية) فيما يتعارض مع المصلحة الوطنية، ولذلك فإنه لا بد أن تسبق تطبيقات القوة دراسات متأنية لتشخيص «المصلحة الوطنية» التي يربطها البعض بالهيمنة والاستحواذ وليس بالتكافؤ والتوازن والعدالة المجتمعية.
2 ـ اعتبار تحقيق «الهيمنة على مصادر القوة» بأنه أفضل وسيلة لتحقيق السلم المجتمعي: حيث أثبتت أحداث القرن الماضي، أنه من المتعذر على أية جهة أن تحقق الاحتكار الكامل للقوة، وبدلاً من محاولة الهيمنة والاستحواذ، يتعين تأسيس نظم حكم وإدارة تضمن التوزيع العادل ليس للثروة فحسب، بل كذلك للقوة المتمثلة في الصلاحيات والتأثير والنفوذ، والتي تستبدل حكم الفرد بحكم المؤسسات، وتنشئ النظم الرقابية والقضائية لكبح جماح الشق التنفيذي ومنعه من توسيع دائرة نفوذه على حساب المجتمع.
3 ـ تعدد تطبيقات القوة وممارساتها: ليس بالضرورة أن تندرج صراعات القوة داخل إطار السلطة، إذ شهدت العديد من الدول العربية محاولة بعض الفئات الاستحواذ على مصادر القوة وتوظيفها لتدمير كيان الدولة أو لتحقيق مصالح فئوية تتعارض مع مصالح الأغلبية، فضلاً عن خضوع بعض الحركات السياسية لسلطة خارجية، واستدراجها لخدمة أجندات غير وطنية لصالح دولة أخرى، ويأتي ذلك في الغالب على صورة محاولة طائفة أو مجموعة إثنية فرض سيطرتها على المجموعات الأخرى في المجتمع.
4 ـ سباق التسلح: المتمثل في التنافس بين الدول الكبرى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وخاصة منها الأسلحة النووية التي تشكل خطراً كبيراً على مستقبل البشرية بأسرها، إذ لا تنحصر مخاطر استخدامها على المنطقة المستهدفة، بل يمتد ضررها لمناطق شاسعة. وكان أول ظهور حديث لهذه الأسلحة عام 1937، ثم استخدمتها الولايات المتحدة ضد اليابان، وقتلت ما يصل إلى 140.000 شخص في هيروشيما، و80.000 في ناغازاكي عام 1945، واستمرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في تطوير تلك الأسلحة طوال فترة الحرب الباردة تبعتها بريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، وتشير تقديرات رسمية إلى امتلاك الدول النووية نحو أربعة آلاف قنبلة في حالة تشغيلية، وتستحوذ أمريكا وروسيا على نحو 90 بالمئة من المخزون العالمي.
وبالإضافة إلى السلاح النووي تنتشر أنماط أخرى من أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة الكيميائية والإشعاعية، بالإضافة إلى الأسلحة البيولوجية التي تنشر الكائنات المُسببة للأمراض، وكذلك المُنتجة للسموم وذلك بهدف قتل البشر، والحيوانات، والنباتات.
وشهدت الحرب العالمية الأولى الاستخدام المفرط لتلك الأسلحة، حيث استخدم الألمان ضد أعدائهم الجمرة الخبيثة، و«الرعام»، و«الكوليرا»، في حين أقامت القوات اليابانية في الحرب العالمية الثانية مُنشأة بحثية سرية للأسلحة البيولوجية ونفذت أبحاثاً وتجارب على السُجناء، وعَرّضت أكثر من ثلاثة آلاف ضحية للطاعون، والجمرة الخبيثة.
وفي الفترة المعاصرة لجأت بعض الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام السوري، إلى استخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية لقتل أعداد كبيرة من المدنيين، وعلى الرغم من إدانتهم بارتكاب جرائم حرب، لم يتخذ المجتمع الدولي أية إجراءات جادة لوقف تلك الانتهاكات المروعة التي راح ضحيتها آلاف الأبرياء.
وتدفع الانتهاكات المروعة التي مارستها مختلف الأطراف الفاعلة بصورة ممنهجة في مرحلة «الربيع العربي» إلى التذكير بضرورة استعادة البعد الأخلاقي للظاهرة السياسية والعمل على إعادة تصحيح مسار العملية السياسية، وسن القوانين والتشريعات التي تحمي المواطنين من الانتهاكات الرسمية والقمع الممنهج، وتجعل تحقيق الأمن البشري وأمن المجتمع على رأس أولوياتها