تحديد الأهداف

الأهداف الذكية

«إن الحواجز التي نضعها أمام أنفسنا غير موجودة، الحواجز الوحيدة الموجودة هي في رؤوسنا، نحن نخلقها، نغذيها، ونختار أن نبقيها حية، لذا بإمكاننا أن نختار أيضاً تحطيمها».[1]

تلك هي أبلغ عبارة قرأتها في كتاب «لو كان بإمكاني إخبارك شيئاً واحداً فقط» لرجل الأعمال البريطاني ريتشارد ريد الحاصل على وسام الإمبراطورية البريطانية عام 2016،[2] والذي أمضى في جمع مادته عشر سنوات يقابل كبار المشاهير، ويطلب منهم تقديم أفضل نصيحة واحدة يمكن أن تغير حياة الناس، ومرّ في أثناء تصنيف هذا الكتاب بشخصيات مثل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ورجل الأعمال ريتشارد برانسون، وغيرهم من الأشخاص الذين عانوا من المصاعب، وأولئك الذين ارتقوا إلى أعلى مستوى ممكن في الحياة.
ويتمثل التحدي الأكبر بالنسبة للمنخرطين بالشأن العام في تحديد الهدف من المشاركة في العملية السياسية برمتها، حيث يكثر الحديث لدى الفاعلين والناشطين العرب عن «الاضطرار» للقيام بمهمة لا يرغبون بها، أو عن اندفاعهم للقيام بالواجب عندما يتلكأ الآخرون، بينما يُغرق أعضاء الحركات في توصيف الهدف من إنشاء مؤسساتهم دون الاهتمام بوضع رؤية للبيئة السياسية التي يرغبون بالعمل فيها.
ونظراً للالتباس الذي يقع عند البعض بين «الرؤية» و«الرسالة»، فإن مفاهيم «الغاية» و«الوسيلة» قد تداخلت لدى الكثير من الفاعلين في الشأن السياسي، بحيث أصبحت الوسيلة، المتمثلة في الحزب أو الجماعة أو الحركة، عصبوية مستقلة بنفسها تُميز الأعضاء عن غيرهم من أبناء المجتمع، وتحولت الجماعة إلى هدف بحد ذاتها، خاصة لدى الحركات التي تعاملت مع أعضائها كموظفين ينظرون إلى مؤسستهم على أنها مصدر رزقهم الوحيد.
ولصياغة أهداف نبيلة للعملية السياسية، لا بد من الاستناد إلى مُثُلٍ وأخلاقيات تعود بالنفع على المجتمع بأسره، وليس على الحركة وأعضائها فحسب، خاصة وأن البيئة السياسية العربية قد عانت في حقبتي الاستعمار والاستبداد من ظواهر سلبية نتج عنها فقدان البعد الإنساني في العمل السياسي، وبات أمن الدولة مغايراً لأمن المجتمع، ما يدفعنا للتأكيد على ضرورة تبني «أهداف ذكية» لإصلاح الانحراف السياسي الذي طرأ في المشهد العربي، ومعالجة التشوهات التي ابتليت بها الجمهوريات العربية منذ استقلالها.
وتُعرف الأهداف الذكية (SMART) بأنها: «أهداف ذات معايير محددة» تقوم على الأحرف الخمسة الأولى من خمس كلمات باللغة الإنجليزية هي: (Specific) و(Measurable) و(Achievable) و(Relevant) و(Time ـ Bound)، وتفصيلها على النحو التالي:
 ـ  الوضوح: المتمثل في تحديد الهدف الذي يتعين تحقيقه بوضوح وبدون لبس، والبعد عن الغموض والكلمات الفضفاضة.
 ـ  القابلية للقياس: عبر تحديد العلامات والمعالم التي تساعد على متابعة التقدم، والتأكد من أن العمل يسير في الاتجاه الصحيح.
 ـ  إمكانية التحقيق: من خلال صياغة أهداف واقعية وقابلة للإدارة والتنفيذ، والاضطلاع بمهمة تطوير مهارات الفريق للقيام بالمهام المطلوبة، وتغيير العادات السلبية المتراكمة عبر السنوات.
 ـ  المواءمة: بحيث يكون نموذج العمل متناسباً مع الأهداف المرجوة ومتماشياً مع الرؤية العامة.
 ـ  محددة بزمن: إذ إن وجود موعد نهائي يساعد على تحفيز الفريق للبذل والالتزام، لضمان الإنجاز في الوقت المحدد.
ويمكن وضع تصور لرسم الأهداف الذكية من خلال الجدول التالي:

جدول (1): نموذج لرسم الأهداف الذكية.

ومن ثم وضعه ضمن إطار تنفيذي على النحو التالي:

جدول (2): نموذج خطة تنفيذية لتحقيق الأهداف

ويدفعنا ذلك لطرح سؤال جوهري يتعلق بالأهداف المنشودة من الانخراط في العمل السياسي، هو:

ما هي أهداف العملية السياسية؟

يصعب الخروج بأهداف محددة من خلال التعامل مع «الظاهرة السياسية»، وذلك نتيجة غياب التعريف الجامع للمصطلح، فقد عرّف البعض السياسة بأنها: «رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية»، ونظر إليها الاشتراكيون باعتبارها: «تقسيم الموارد في المجتمع عن الطريق السلطة»، وعرفها الواقعيون بأنها «فن الممكن»، معتبرين أنها: «كيفية توزيع القوة والنفوذ ضمن مجتمع ما أو نظام معين»، بينما نظر إليها الشيوعيون من خلال مفهوم «صراع الطبقات»، واعتبرها البعض: «النظام الحاكم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكل ما يتعلق بشؤون الدولة في المجتمعات الإنسانية وبظاهرة السلطة».
ويدل تباين التعريفات على أن مفهوم السياسة واسع، ويتضمن مجالات عدة أبرزها: العلاقات الدولية، والدبلوماسية، ونظم الإدارة والحكم، والتنمية السياسية، وإدارة الصراعات والأزمات، والفكر السياسي، والسياسات المقارنة، والنظريات والإيديولوجيات، وحقوق الإنسان، والحركات والأحزاب السياسية.
وكان مصطلح «السياسة» قد ارتبط في صورته الكلاسيكية بتحقيق الخير ورفاهية المجتمعات، وإرساء السلام والمساواة بين البشر، وحلّ النزاعات والمشاكل الاجتماعية بالطرق السلمية، وذلك في انعكاس لمدارس «اليوطوبيا» التي انتشرت في المراحل المبكرة من نشوء الفكر السياسي، ونزعت إلى تبني طرح مثالي ينبذ التسلّط الفردي المطلق والأنانية الضيّقة، ومن أبرز رموزه أفلاطون الذي مزج نظريته السياسية بالأخلاق، وأرسطو الذي جعل مبحث «الأخلاق» جزءاً من مبحث السياسة، وسار على شاكلتهم العديد من علماء المسلمين، حيث قسم ابن رشد (ت:595هـ ـ 1199م) السياسة إلى قسمين: علمي يقف على الأخلاق، وعملي يشرف على تدابير المدينة، معتبراً أن السياسة هي الجانب الاجتماعي للأخلاق.
إلا أن هيمنة مدرسة «الواقعية السياسية» على العديد من النظم الغربية في الحقبة الحديثة، أضعف الجانب الأخلاقي في الممارسة السياسية، حيث رأى أقطاب تلك المدرسة أنه إذا كان على السياسيين أن يكونوا فعالين في العالم الحقيقي فيجب عليهم أن لا يلتزموا بالقواعد الأخلاقية والمُثُل البشرية، بل يتعين عليهم تحقيق المصلحة الوطنية بدلاً من الجري خلف وهم «العدالة المثالية» في العالم، والتي أثبت تاريخ البشرية أن تحقيقها أمر متعذر، إذ تتضارب المصالح وتتفاوت مستويات الرفاهية، معتبرين أنه: «من المتوجب استخدام العنف لمنع المزيد من العنف».
وإلى ذلك ذهبت المدرسة المكيافيلية، والتي غلّبت المصالح السياسية على الأخلاق، معتبرةً أنه إذا كان الهدف جيداً، فلا مانع من سلوك الطرق التي لا تراعي الأخلاق، ورأت كذلك إمكانية البحث عن الطريق الأقصر والأقل كلفة، دون مراعاة الخسائر المترتبة.
وعلى الرغم من طرح البعض للديمقراطية كحل نموذجي من شأنه استعادة الأخلاقيات السياسية عبر: مناهضة الاستبداد، وتعزيز الحريات العامة، وإشراك الشعوب في اتخاذ القرارات المتعلقة بالصالح العام، إلا أن واقع النظم الغربية مغاير لذلك تماماً، حيث تورطت الديمقراطيات المعاصرة في ممارسات أفضت إلى انتهاك الكرامة الإنسانية أكثر من أية حقبة مضت، وخاضت حروباً لم تعرف البشرية لها مثيلاً في التدمير، ودعمت نظم الاستبداد وتحالفت معها في سبيل تحقيق مصالحها القومية، دون مراعاة للأخلاقيات السياسية، وذلك بالتزامن مع تلاشي مفاهيم «الفضيلة السياسية» وغياب نظام عالمي ينتصر لقيم الخير والحق، ويصون الحقوق ويحقق الأمن والمساواة بين الشعوب.

شكل (8): الأهداف الرئيسية لإعادة الإعمار السياسي.

ويمكن تفصيل أهم الأهداف المنشودة من العملية السياسية فيما يلي:

أولاً: معالجة «الانحراف السياسي»

كشف العجز الأممي والتخاذل الدولي إزاء الانتهاكات التي وقعت ضد شعوب «الربيع العربي» عن انتهاج الديمقراطيات الغربية مذهب «الواقعية السياسية» التي تمنح مواطنيها الحريات العامة وحقوق المواطنة، لكنها تتعامل مع الأمم الأخرى بمنظور مصالحها القومية دون مراعاة للقيم والأخلاقيات والمُثُل.
وعلى الرغم من انتشار «الليبرالية ـ الديمقراطية» كنموذج للحكم الرشيد، إلا أن أحداث الفترة 2011 ـ 2020 أفضت إلى تراجع ملحوظ في الأخلاقيات السياسية، وعادت بالجمهوريات العربية إلى حقبة ما دون الدولة، حيث هيمنت العصبويات الإثنية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وتفشت مظاهر الاحتقان المجتمعي، وانتشرت الميلشيات العابرة للحدود، وتعالت الأصوات المطالبة بالانفصال والتقسيم، وتفشت ظاهرة «الانحراف السياسي» المتزامنة مع العنف والفوضى.
وفي ظل تراخي المواقف الأممية، وتغاضي النظم «الليبرالية ـ الديمقراطية» عن انتهاكات النظم الاستبدادية مقابل صيانة مصالحها، بات من الضروري القيام بعملية إعادة بناء سياسي شامل لمعالجة الشروخ البنيوية التي عانت منها المنطقة العربية لأكثر من قرن من الزمان، حيث انحصرت تجارب الحكم بين النظم الاستعمارية ـ الانتدابية التي هيمنت في النصف الأول من القرن العشرين، وبين النظم الاستبدادية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن نفسه.
ولا يتحقق ذلك إلا من خلال عملية إعادة إعمار سياسي شامل للجمهوريات المنعتقة من الاستبداد، وذلك من خلال الجمع بين الممارسة السياسية والأخلاق، عبر التأسيس لمنظومة قيمية تتضمن: صيانة الكرامة البشرية، وحماية الحريات، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في الصالح العام، وذلك من خلال عملية إصلاحية تشمل ثلاثة مجالات رئيسة هي:
1 ـ  المفاهيم المصطلحية.
2 ـ  المعايير الحاكمة.
3 ـ  نظم الإدارة والحكم.
فعلى صعيد المفاهيم، يتعين إقرار تعريف وطني جامع للعملية السياسية فيما يعالج القضايا الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وما يرتبط بها من معتقدات وتقاليد ومبادئ ومُثُل عليا.
ويتحقق الإصلاح المعياري من خلال التوافق على منظومة قيمية تشمل: التداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والتوافق على عقد اجتماعي ينبثق من تاريخ المجتمع وثقافته، وترسيخ الشفافية في السياسات الاقتصادية الحاكمة للشؤون الضريبية والنقدية والمصرفية، والاستيراد والتصدير، والجمارك والاستهلاك والتموين والادخار، وتنظيم السوق وضبط الأسعار، وتحديد الأجور وتوفير فرص العمل، وضمان الرقابة على مؤسسات الدولة.
أما على الصعيد النُظمي، فيتوجب استحداث نظام يضمن المواءمة بين الأخلاقيات والتطبيقات، وصياغة نظام حكم ومؤسسات إدارة تنظم الحياة الاجتماعية بشتى مجالاتها، ولا يشترط أن تكون المؤسسات قائمة على إيديولوجية معينة أو تفسير محدد دون غيره، بل تأتي النظم في الغالب نتيجة خبرة تراكمية تنتظم في إطار مؤسسي خارج نطاق التدافع السياسي والتنافس الحزبي.
ويشير مصطلح «الانحراف السياسي» إلى خروج العملية السياسية والعاملين فيها عن المبادئ والمُثُل المتعارف عليها، والتورط في ممارسات استبدادية وارتكاب انتهاكات بحق الإنسانية تُفقد نظام الحكم شرعيته.
ولا شك في أن نظم الحكم العربية قد وقعت في انحرافات مفاهيمية ومعيارية ونظمية على حد سواء، حيث أحجمت الدولة عن تحقيق الرفاهية والأمن، وأصبح أمن الدولة مناقضاً لأمن المجتمع، ما أدى إلى ارتكاب الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة مجازر وانتهاكات جماعية بحق المواطنين، ووقفت هذه النظم ضد أي مشروع إصلاحي يهدف إلى معالجة الانحراف السياسي الذي عانت منه الساحة العربية خلال العقود الماضية، وأمعنت في تقييد الحريات العامة، وممارسة التضييق والكبت، والاستحواذ على الثروات، الأمر الذي يفرض وضع إستراتيجيات شاملة لكبح جماح سلطات «العهد القديم» وإعادة العملية السياسية إلى مسارها الصحيح، خاصة وأن الذين تصدروا للعمل السياسي خلال العقود الماضية لم يكونوا يملكون الخلفية التي تؤهلهم للممارسة السياسة، بل تولوا الحكم عبر انقلابات عسكرية، دفعتهم للتشبث بالحكم، ورفض مفهوم التداول السلمي، ومنع أي مجال للمنافسة عبر احتكار القوة والموارد الثروات.

ثانياً: الإدارة الاحترافية

يتزايد الوعي منذ ثمانينيات القرن الماضي بضرورة تحويل الشق التنفيذي للدولة من ساحة صراع حزبي ـ عسكري، وانتقالها إلى بنية «إدارية» أكثر من كونها «عملية سياسية»، وذلك من خلال التعامل مع مؤسسات الدولة كفاعل جماعي (corporate actor)، وليس كمنصة تتصارع فيها القوى والمصالح الاجتماعية المختلفة.
ولتحقيق ذلك، فإنه يتوجب ترسيخ قاعدة المباريات الوطنية المفتوحة لتنسيب الموظفين الحكوميين، وأن يحظى هؤلاء بعد تنسيبهم بخاصيّتين إضافيّتين:
أولهما: التمتع بأمان وظيفي لتكريس ممارستهم للمهنة وليس للجماعة أو الحزب.
وثانيهما: منحهم حق الترقّي الوظيفي لبلوغ أعلى المستويات الوظيفية داخل الإدارة.
ومن شأن العمل بهذه القواعد، تحرير الإدارة الحكومية من الفساد والمحسوبية، وتحويل البيئة السياسية إلى بيئة إدارية يمكن من خلالها تطوير قطاع الخدمات في المؤسسات الحكومية، وحمايتها من محاولات شراء أفرادها أو جعلهم يقدّمون عنصر الانتفاع الشخصي في تعاطيهم مع القطاع الخاص، إضافة إلى تعزيز دور أجهزة الإدارة العامّة في قياس أداء المؤسسات والتّكاليف الخاصّة بها، وتحديد مقاييس الكفاءة، ومسؤوليات أعضاء الدوائر الحكوميّة أمام الجهة التشريعيّة العُليا، وتمكينها من القيام بمهام التخطيط المتمثلة في تحديد الأهداف المستقبلية، واختيار المسارات المناسبة لها من أجل تحقيق تلك الأهداف بفاعلية، بما في ذلك تحديد الموارد والأنشطة والهياكل التنظيمية والرقابة على المخرجات.
وقد قطعت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها من الدول الآسيوية شوطاً كبيراً في هذا المجال، حيث تم تطوير شبكات داخل الإدارات للربط بين الموظفين الحكوميين وجعل الإدارة أكثر تماسكاً وأكثر فاعلية في مجال «العمل غير البيروقراطي لمؤسسات الدولة»، وذلك من خلال تعزيز المشاريع المشتركة بين الدولة والنخب الاستثمارية.
وتشير الدراسات المعاصرة إلى أن محور نجاح الدولة التنموية في القرن الحادي والعشرين سيرتكز على بناء المؤهلات البشرية كمصدر رئيس للتنمية وتمكين الكوادر الوطنية من خلال التعليم والتدريب، وإنتاج الأفكار الإبداعية، التي يمكن أن تتحوّل إلى خدمات أو سلع جديدة، بحيث تتحول الدولة إلى مؤسسة تنموية لا تنحصر علاقاتها بنخب سياسية محدودة كما كان الأمر في القرن العشرين، حيث ساد اعتقاد خاطئ أن السياسة تقتصر على تحليل الظواهر السياسية وآليات التعامل معها، دون النظر إلى تقاطعاتها مع تخصصات متعددة مثل: القانون، والاجتماع، والإدارة، وعلم النفس، وارتباطها بشتى مناحي الحياة، حيث تتدخل الدولة في تقنين الشؤون الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمهنية، والرياضية، وغيرها من مجالات الحياة المدنية.
وتتطلب عملية تقنين الخدمات وتنظيم الحياة العامة، تبني إجراءات تشريعية تختلف باعتبار الظرف والزمان والمكان، حيث ترتبط الظاهرة السياسية بالواقع أكثر من ارتهانها بالإيديولوجيا، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين القوى المحلية وبين الجهات الخارجية، والتي تقوم على أساس التفاوض وترجيح المصالح من جهة، وتحقيق القدر الأكبر من المكاسب أو درء القدر الأكبر من الخسائر من جهة ثانية.

ثالثاً: الإدارة الإستراتيجية الوطنية

بعيداً عن دوائر التنافس الحزبي والصراعات الإيديولوجية بين مختلف التيارات، يضع محمد أبو صالح في كتابه «التخطيط الإستراتيجي للدولة» تصوراً شاملاً للإدارة الإستراتيجية على الصعيد الوطني، باعتبار أنها: «الإطار المتكامل الذي يتم من خلاله تحديد وتحقيق وتأمين المصالح والغايات الوطنية الاستراتيجية»،[3] وهي بهذا المفهوم تتضمن العمليات التالية:
1 ـ التخطيط الإستراتيجي، ويشمل:
 ـ  التحليل الإستراتيجي للبيئة المحلية والعالمية.
 ـ  اختيار التوجه الإستراتيجي وتحديد المصالح والغايات الوطنية، بناء على تحديد خلفية الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتقنية والإعلامية والعسكرية والأمنية.
2 ـ  صياغة الإستراتيجية وتشمل:
 ـ  الرؤيا القومية والقطاعية والفرعية.
 ـ  تحديد الرسالة على المستوى القومي والقطاعي والفرعي.
 ـ  تحديد الغايات الوطنية.
 ـ  تحديد الأهداف الإستراتيجية.
 ـ  تحديد السياسات الإستراتيجية.
3 ـ  تنفيذ الإستراتيجية من خلال:
 ـ  إعداد وتأهيل القيادات الإستراتيجية في الحكم والمعارضة والمجتمع.
 ـ  توفير مظلة وطنية من الوعي الإستراتيجي والسلوك الوطني.
 ـ  تحقيق التكامل والتناسق للنشاط الوطني وأهم ما يشمله:
1) إعادة صياغة التشريعات، عبر إلغاء أو تعديل بعض التشريعات، وإصدار تشريعات أخرى جديدة بما يجعل البنية التشريعية تتناسب والغايات الوطنية وتوفر الأوضاع المطلوبة لتحقيقها.
2) إعادة صياغة السياسات، عبر إلغاء أو تعديل بعض السياسات، وإصدار سياسات أخرى جديدة بما يجعل حزمة السياسات تتناسب والغايات الوطنية وتوفر الأوضاع المطلوبة لتحقيقها.
3) إعادة الهيكلة الإدارية للدولة، بغرض توفير جهاز إداري يستطيع تنفيذ الإستراتيجية بكفاءة.
4) ترتيب الشراكات الوطنية الداخلية وتقاسم الأدوار بين الحكومة من جهة ومنظمات المجتمع ومنظمات الأعمال من جهة أخرى.
 ـ  تطوير واستخدام المنهج الوطني للإدارة، عبر اســتخدام الوســائل والســبل الإدارية الحـديثــة مثل إعادة الهــندســة (Re Engineering) ونظام فرق العمل (Team Work) أو الهيكل الإداري الشبكي.
 ـ  استخدام التقنيات الحديثة وأنظمة المعلومات، وهو ما يعرف بالحكومة الإلكترونية والإدارة الإلكترونية، باعتبارها إحدى أهم وسائل السيطرة وتحقيق الجودة بل وتقليل الفساد الإداري والمالي.
 ـ  إنجاز التغيير الإستراتيجي المطلوب لتهيئة الأوضاع المناسبة لتحقيق المصالح الإستراتيجية.
 ـ  المتابعة والتقييم والتقويم.
ووفقاً للكاتب، فإن عملية التخطيط الإستراتيجي للدولة تبدأ من خلال عملية تحليل شاملة تتضمن إنتاج المعرفة الإستراتيجية ضمن دوائر:
 ـ  النفس البشرية باعتبار أن الوصول لحلم وطني يستدعي التعرف على حاجات ورغبات المواطنين.
 ـ  الدائـرة الوطنيـة التي تشــمل الأوضاع الداخلية في قـوى الدولـة الشاملـة (السياسية، والاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية، والأمنية، والعلوم، والإعلام والمعلومات).
 ـ  الدائرة الخارجية التي تشمل الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية، والأمنية، والعلوم، والإعلام والمعلومات في الساحة الدولية.
 ـ  الدائرة المستقبلية المتمثلة في استشراف الأوضاع المستقبلية فيما يساعد على وضع إستراتيجيات تحافظ على مصالح الأجيال القادمة وعلى أمن المستقبل.
 ـ  إيجاد العلاقات بين النشاطات في مجال قوى الدولة الشاملة، والربط بينها فيما يؤدي لتفسير وتشخيص الظواهر باعتبار أن تحقيق النجاح الكلي لا يتم إلا من خلال تحقيق ذلك الارتباط.
ولتحقيق ذلك فإنه من المتعين حيازة ملكات تحليل الأوضاع القومية على خلفية مفهوم القوى الإستراتيجية الشاملة للدولة بهدف التوصل لمفهوم «القوة الشاملة»، وهذا ما تفتقده القوى السياسية الفاعلة في العالم العربي اليوم، إذ إن العديد منها يسعى للوصول إلى السلطة من خلال طرح شعارات براقة وبيانات حزبية فضفاضة دون القدرة على تقديم رؤى واضحة لتحقيق التنمية المستدامة على المستوى الوطني، ودون القدرة على طرح رؤى ناضجة لتحقيق الأمن الإنساني والأمن القومي وسبل صيانة مصالح الأجيال القادمة.
ويقترح محمد أبو صالح نموذجاً لتحليل الأوضاع القومية يقوم على مفهوم (SIMPEST)، الذي يتضمن تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية والعلمية والعسكرية الأمنية وأوضاع المعلومات والإعلام، وذلك في البيئة المحلية مع استصحاب البيئة الإقليمية والدولية، على النحو التالي:

(SIMPEST) جدول (3): مفردات تحليل

ومن خلال تلك الآلية، يمكن العمل على تحقيق عناصر القوة الإستراتيجية الشاملة على النحو التالي:

شكل (9): عناصر القوة الشاملة

وبناءً على تلك المعطيات فإن عملية صياغة الأهداف السياسية على الصعيد الوطني تتطلب التقدم برؤى ناضجة لتحقيق المصالح القومية من خلال تحديد توجهات إستراتيجية للتعامل مع الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخارجية، وسبل تحقيق: الأمن الوطني، والأمن الغذائي
وبناءً على تلك المعطيات فإن عملية صياغة الأهداف السياسية على الصعيد الوطني تتطلب التقدم برؤى ناضجة لتحقيق المصالح القومية من خلال تحديد توجهات إستراتيجية للتعامل مع الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخارجية، وسبل تحقيق: الأمن الوطني، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، وصيانة الموارد المائية، وما إلى ذلك من إستراتيجيات تقدم رؤية شاملة للنهوض الوطني، وذلك من خلال التقدم برؤية قومية شاملة تُعبّر عن أهداف تحقق في مجملها «حلماً وطنياً» تشترك فيه سائر فئات المجتمع، تُحقق التطلعات الشعبية، وتشكل صورة للمستقبل المنشود، وتُحدد سبل تحقيقها على أرض الواقع.

[1]  ريتشارد ريد (2018) لو كان بإمكاني إخبارك شيئاً واحداً فقط، ترجمة إكرام صغيري، دار كلمات للنشر والتوزيع، الكويت، ص 106.

[2]  Richard Reed (2016) If I Could Tell You Just One ThingEncounters with Remarkable People and Their Most Valuable Advice, Canongate Books, London.

[3]  محمد حسين أبو صالح (2014)، التخطيط الإستراتيجي القومي، دار الزيتونة للطباعة، الخرطوم، ص.ص 84 ـ 242.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي