الموجة الشعبية الثانية والغضب السني

تعجُ الثقافة العربية اليوم بمحاولات تقييم «الربيع العربي» (2011 ـ 2020)، ففي رأي البعض هو الفوضى الخلاقة التي بشرت بها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس عام 2005، والتي بلغت تكلفتها نحو ترليون دولار من الدمار، ومن ضياع فرص النمو، و25 مليون لاجئ عربي، ونصف ترليون دولار من الخسائر في البنى التحتية، و30 مليون عاطل عن العمل، و70 مليون عربي تحت خط الفقر، و15 مليون طفل عربي غير قادر على الالتحاق بالدراسة، فضلاً عن تفشي الإرهاب والكراهية والصراع المجتمعي.
وعلى أعتاب العام التاسع من ذلك «الربيع»، تجرجر الحرية أذيال الخيبة على وقع الحروب الأهلية والتدهور المجتمعي، وتغوّل الدولة العميقة، وعودة العسكر إلى سدة الحكم، وتفشي عمليات الإرهاب الدولي الذي يقع نحو 45 بالمئة منه في العالم العربي، رغم أن سكانه لا يمثلون سوى 5 بالمئة من سكان العالم.
ويرى آخرون أن قصة «الربيع العربي» لم تنتهِ بعد، بل لا تزال في أول طريقها، حيث نجح «الربيع» في إسقاط معظم الأنظمة الاستبدادية، ونبه الشعوب العربية إلى قدرات جيل الألفية ووعيه السياسي، وبدأ في مرحلته الثانية بعملية البناء بعد الهدم، وذلك من خلال العمل على تشييد منظومات حكم بديلة تقوم على الحرية والمواطنة والمساواة.
ويرى هؤلاء أنه من المغالطة الفادحة تحميل البوعزيزي مسؤولية إحراق نفسه جراء الفقر والقهر (17 ديسمبر 2010)، وأنه من غير المقبول مطالبة الشباب العربي بالاستمرار في الصمت إزاء تصنيف المنطقة العربية في إحصائيات منظمة العمل الدولية عام 2018 كأعلى منطقة جغرافية في العالم بنسب البطالة، وتردي معظم دولها في أدنى دركات الفساد.
ولا يمكن اتهام الحراك السلمي بالمسؤولية عن وحشية قوى الأمن وارتكابها جرائم، القمع، والقصف، وإلقاء القذائف والبراميل المتفجرة، والمجازر، والاعتقالات الجماعية، والتعذيب، والتهجير القسري، وتحويل المدن إلى ركام.
وبعيداً عن أي انحياز سياسي أو فئوي، لا بد من التأكيد على أن دوامة العنف في المنطقة العربية قد بدأتها النظم الاستبدادية من خلال تصنيف جميع مخالفيها ضمن دائرة العداء، ولجوئها إلى العنف المفرط والقمع والتصفية والاغتيال كوسائل للتعامل مع معارضيها، ودفعت الإعلام الرسمي لشن حملات تشويه ضد أية جهة يمكن أن تتبنى رأياً مغايراً لها.
وعلى الرغم من الأموال السخية التي أُنفقت لوقف الحراك الشعبي وتثبيت النظم العسكرية في الحكم، إلا أن نتائج الانتخابات الرئاسية التي جاءت بالرئيس قيس بن سعيد في تونس (23 أكتوبر 2019) أنعشت الآمال بإمكانية أن يزهر «الربيع العربي» بعد سنوات عجاف ذاقت فيها الشعوب العربية ويلات الفوضى والعنف المصاحب للتغيير.
وفي خضم الجدل الدائر حول تقييم «الربيع العربي»، ومحاولات استشراف مآلاته، تغيب نقطة جوهرية في تفسيره كظاهرة شعبية تنطلق من حتمية التغيير على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعدم جدوى اللجوء إلى القمع لتفاديها، وضرورة تبني وسائل عقلانية لترشيدها وتحويلها نحو اتجاهات إيجابية.
ومن هنا جاء عنوان هذا المبحث الذي يصف فيه الشاعر أبو العلاء المعري (ت 449ه ـ 1057م) من يظن نفسه قادراً على إيقاف مسار القدر، قائلاً:

تقفون والفَلَكُ المُسخَّرُ دائرٌ وتُقدِّرون وتضحك الأقدارُ

فالتغيير في المنطقة العربية أمر حتمي لا يمكن تفاديه، والتحول سُنّة لا تحيد البشرية عنها، ومن المؤسف أن يتزامن العنف والفوضى مع أية عملية تحول تمر البشرية بها، فقد كلفت عملية الانتقال من الإمبريالية إلى الدولة القومية، ومن ثم الانتقال من الحقبة الفاشية إلى الليبرالية، أرواح ملايين البشر في حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس (قدرت خسائر الحرب العالمية الأولى بنحو 16 مليون حالة وفاة و20 مليون إصابة، بينما ارتفعت خسائر الحرب العالمية الثانية إلى أكثر من 60 مليون قتيل وعدد يصعب تحديده من الإصابات)، وكذلك الحال بالنسبة للثورات الفرنسية والبلشفية والصينية وغيرها من الثورات التي نتج عنها خسائر بشرية فادحة لكنها جلبت تحولات كبرى على المستوى العالمي.
وعلى شاكلة ما مرت به شعوب الشرق والغرب من تحولات، يشهد العالم العربي اليوم عملية تحول جذري كنتيجة حتمية للنمو سكاني الذي لا يُعرف له مثيل في تاريخ المنطقة المدون منذ أكثر من 7 آلاف عام، وذلك بالتزامن مع «الثورة الرقمية» التي جلبت معها متغيرات واسعة على صعيد كثافة المعلومات وتوفر وسائل الاتصال.
والحقيقية هي أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة لمتغيرات وقعت في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ارتفعت نسبة الخصوبة في العالم العربي إلى معدلات غير مسبوقة، وذلك بالتزامن مع ترهل المنظومة السياسية نتيجة الحروب والصراعات التي اجتاحت المنطقة العربية وأحالتها إلى حلبة صراع دولي، وأفضت إلى تدهور اقتصادي لم تتمكن الحكومات العربية من التعامل مع الأزمات الناتجة عنه أو استشراف مآلاته.
وأسفرت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 عن ظهور طبقة ـ  غير مرغوب فيها رسمياً ـ  من الشباب العربي الذي وجد نفسه غير قادر على تحصيل مصادر الرزق نتيجة الفساد، وسوء الإدارة، وفرار رأس المال، وتردي البيئة الاستثمارية، وتنامي الصراعات والحروب.
ومن خلال النظر إلى أجيال الألفية التي تمثل نحو 70 بالمئة من سكان العالم العربي، يمكن القول بأن الأحداث التي تشهدها المنطقة هي جزء من ظاهرة يُتوقع أن يتعاظم زخمها في السنوات المقبلة، حيث تتكدس طوابير البطالة، وتتنامى «الطبقة غير المرغوب بها»، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى أفواج الخريجين الذين لا يستوعبهم سوق العمل بسبب ضآلته، ولا تتمكن المنظومة الاقتصادية من توفير الحد الأدنى من الكرامة لهم بسبب محدوديتها.
وتزداد التوقعات قتامة جراء عجز مؤسسات التعليم عن تأهيل الشباب لمواءمة متطلبات السوق العالمية، وإصرار النظم الاستبدادية على تبني سياسيات التمييز، حيث يستحوذ الـ10% الأكثر غنى في الوطن العربي على 60% من الدخل القومي، الأمر الذي سيدفع بالمزيد من الشباب الغاضب للشعور بالإحباط، والتوجه نحو الخارج بحثاً عن مصادر الرزق، وتوظيف التقنيات التي لم تكن متاحة لسابقيه في مجال التغيير.
ولا شك في أن الذين يتعاملون مع هذه الظاهرة باعتبارها «خطة غربية تهدف إلى تدمير الهوية العربية»، مفرطون في التشبع بنظرية المؤامرة، وغير قادرين على رؤية جوانب مهمة من القصور الذي تعاني منه المؤسسات الرسمية ونُظُم الحكم.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يزال من غير الممكن توصيف الحراك الشعبي في العالم العربي بأنه «ربيع عربي» أو أنه «ثورة» بالمعنى الاصطلاحي، بل لا يزال في صورته الحالية محض «فورة غضب عارمة» تدفع بالشباب العربي لرفع شعارات مثل: «الشعب يريد إسقاط النظام»، دون التمكن من بناء نظام بديل عن الأنظمة التي ينادون بإسقاطها.
وبدلاً من الخوض في جدليات تصنيف «الربيع العربي»، يتعين العمل على إيجاد آليات احترافية للتعامل مع رياح التغيير التي لا تزال تعصف في المنطقة العربية والتي تؤكد الأرقام والدراسات الاستشرافية أنها لم تبلغ ذروتها بعد.

«الغضب السني»

في مقال بعنوان: «من يخمد نار الغضب السني في الشرق الأوسط» تحدث موقع (CNN) عام 2014 عن استياء السنة، الذين يشكلون الغالبية الساحقة من العرب، نتيجة تعرضهم للكثير من الخسائر السياسية في الأعوام الماضية، معتبراً أن : «غزو العراق حرم السنة في ذلك البلد من ثرواتهم وسلطتهم، وما فاقم المشكلة بالنسبة لهم قيام أمريكا بتسليم السلطة بعد ذلك إلى حكومة طائفية شيعية كانت مصممة على الانتقام منهم…أما في سوريا، فيواصل النظام الحاكم الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية قتل وذبح أعداد كبيرة من معارضيه السنة، وفي اليمن، قام فصيل شيعي آخر، هو التيار الحوثي، بالاستيلاء على العاصمة صنعاء».
وعلى الرغم من الجرائم التي ارتكبتها تلك الأقليات بحق الأغلبية إلا أن الولايات المتحدة تبدو مشغولة بمواجهة الجماعات المتشددة السنية دون غيرها: «وهذا لا يجب أن يحول دون تمكننا من رؤية أن هناك أقلية من السنة ـ  ولكن عددهم ينمو باضطراد ـ  يرون في تلك التنظيمات الخيار الأقرب المتوفر لديها للمقاومة… حتى في مصر السنيّة بالكامل، يحاول الجيش سحق جماعة الإخوان المسلمين، القلب النابض للإسلام السياسي السني».
ورأى المقال أنه ليست هنالك مؤامرة أمريكية ضد الإسلام السني، ولكن المشكلة هي أن تنظيم «داعش» مزروع في وسط طائفة ترى أن الكيل قد طفح، وتنذر موجة الغضب السنيّة بالتسبب في حراك سيكون أكثر تدميراً وقوة، خاصة وأن الإسلام السني الصاعد سيسير بسرعة كبيرة للاصطدام بنظيره الشيعي، لتفجر حرباً طائفية يمكن أن تمتد لمئة سنة قادمة.[1]
ووفقاً لإحصاءات موثقة فقد بلغت الخسائر البشرية للغزو الأمريكي للعراق (2003): 1.455.590 قتيلاً، وكلف الجانبين أكثر من ترليون و705 مليار دولار، وتسبب بنزوح أكثر من 6 ملايين عراقي معظمهم من السنة الذين لا تزال مناطقهم تعاني من الدمار مقابل استحواذ الشيعة على حكم بغداد، واستئثار الكرد بكيان مستقل لهم في الشمال.
أما في سوريا، فقد جاء تحذير وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف (2012) من وصول الإسلام السني إلى سدة الحكم، ومطالبته بحماية مسيحيي سوريا وعلوييها في مجلس الأمن، منسجماً مع حديث الملحق العسكري الروسي السابق لدى دمشق الفريق فلاديمير فيودوروف (2018)، والذي أكد فيه خضوع الحكم في سوريا لما أسماه «المجلس العلوي الأعلى» الذي يتكون من ضباط علويين ورجال دين في الطائفة، مؤكداً أن هذا المجلس هو الذي يقف خلف قرار توريث بشار الأسد الحكم عام 2000، ومشيراً إلى أن قرارات ذلك المجلس «تؤخذ بالحسبان».[2]
وترجح مصادر مطلعة أن يكون ذلك المجلس هو الذي أصدر أوامر بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بالأسلحة الكيميائية في المدن والبلدات السنية، وبتنفيذ عمليات القصف والتهجير القسري، حيث فقد السوريون خلال سنوات الثورة نحو مليون قتيل وأكثر من 13 مليون بين نازح ومهجر أغلبهم من السنة.
وفي لبنان ظهر مصطلح «غضب المارد السني» لأول مرة عام 2011، وذلك على خلفية أحداث شغب وقعت نتيجة ضعف التمثيل السني مقابل تنمر «حزب الله» على الدولة، وتنفيذ عمليات الاغتيال ضد معارضيه، بما في ذلك رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (2005)، والتي رأى البعض أنها عملية تهدف إلى منع السنّة بلبنان من إنتاج زعامات وكوادر على المستوى الذي يستحقونه.
وفي عام 2015، تحدثت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية عن: «إمكانية قيام تحالف بين الرئيس الأمريكي ـ  آنذاك ـ  باراك أوباما وبين إيران من أجل إيقاف المارد السني الذي أفاق في العراق والذي أثر بدوره على ساحة المعركة في سوريا ضد نظام بشار الأسد والشيعة»، مؤكدة أن الرئيس الأمريكي: «تعرض لضغوط من أجل التفاهم مع إيران لمعادلة الضغط الذي بات يشكله السنة في المنطقة والذي قد يؤثر على الحدود التي صنعها الغرب بين العرب».[3]
وأخذت النزعة العدائية إزاء «الإسلام السني» بعداً إستراتيجياً أكثر خطورة لدى انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، حيث كشف موقع «ديفنس ون» الدفاعي الأمريكي (ديسمبر 2016) عن مفاوضات أجراها فريق الرئيس ترامب عقب فوزه في الانتخابات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهدف: «تشكيل تحالف مع بوتين ضد الإسلام»، مؤكداً أن ترامب ومستشاريه قد عمدوا إلى وصف الإسلام بأنه قوة «عدائية» وأن المنتمين إليه يتمتعون بنزعات «جهادية» في العموم.[4]
ووفقاً للتقرير فإنه في مقابل الصراع السابق الذي قام بين الغرب «المسيحي» والاتحاد السوفيتي «الملحد» في الحرب الباردة، عبرّ فريق ترامب عن رغبته في إنشاء تحالف مسيحي، غربي ـ روسي، ضد الإسلام، وإعادة تشكيل تحالفات الولايات المتحدة فيما يُمكنّها من القضاء على التيارات الدينية الإسلامية التي يُنظر إليها على أنها تشكل تحدياً حضارياً للغرب.
ولاحظ التقرير أنه على الرغم من أن إدارة جورج بوش قد اتخذت من التطرف الديني عدواً رئيسياً، إلا أن رموز الفكر الجمهوري، وعلى رأسهم، مايكل باكمان، وهيرمان كاين، وسارة بالين، ومايك هوكابي، وبين كارسون وغيرهم من منظري الفكر الجمهوري قد اتخذوا من الدين الإسلامي خصماً مباشراً، وكان لهم تأثيرٌ مباشر على أطروحات الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، في حملته الانتخابية، حيث لم يعد الحديث مقتصراً على «الإسلام المتطرف» أو «الإرهاب الإسلامي» فحسب، بل انصب هجوم الجمهوريين بصورة مباشرة على الإسلام وعلى المعتنقين للدين الإسلامي، وكان ذلك هو السبب لتصريحات ترامب المثيرة للجدل حول منع المسلمين من دخول أمريكا.
وأشار التقرير إلى أن بوتين أصبح يمثل رمزاً لدى أنصار اليمين الأوروبي في نصرة المسيحية ضد المد الإسلامي، وأنهم يعتبرونه قائداً للعالم الحر في مواجهة «الخطر الإسلامي»، ما دفع بترامب لدعوة الرئيس الروسي إلى تشكيل تحالف بين القوى المسيحية في حرب حضارية ضد الإسلام، ومن أبرز مؤيديه في هذا الاتجاه مستشاره الأسبق للأمن القومي الجنرال مايكل فلين الذي نشر تغريدة اعتبر أن الخوف من الإسلام هو أمر مبرر، وشبه الانتشار الإسلامي بالسرطان، مشدداً على ضرورة التعاون مع بوتين في محاربة «الإسلام الراديكالي».
وعلى شاكلته، تحدث المخطط الإستراتيجي الرئيسي لترامب ستيف بانون عن: «الصراع الأزلي بين اليهودية ـ  المسيحية الغربية ضد الإسلام، والذي لا يزال ممتداً إلى يومنا هذا، مؤكداً على إمكانية الاستفادة من توجهات بوتين لاستعادة السيادة في المعركة الحضارية التي تخوضها الولايات المتحدة».
قد يكون من السهولة إساءة فهم ما تطرحه الأسطر الماضية حول استخدام مصطلح «الإسلام السني»، والحديث عن التحديات المستقبلية التي يواجهها السنة دون غيرهم، وربما يُتهم الكاتب بإثارة النعرات الطائفية واختزال الحراك الشعبي بالمسلمين السنة دون غيرهم من الأديان والمذاهب الأخرى، خاصة وأن أجواء الاحتقان والكراهية والطائفية قد بلغت ذروتها في السنوات الماضية، إلا إنه من غير الممكن التغاضي عن أحد أبرز مكامن الخطر فيما يتعلق بمستقبل صراع الهوية في العالم العربي، خاصة وأن المسؤولين في إيران باتوا يتحدثون علناً عن سيطرتهم على المضائق والطرق البحرية وعلى العديد من العواصم العربية، ويجندون الميلشيات الأجنبية من مختلف البلدان على أسس طائفية، ويتفاخرون بارتكاب الجرائم الإنسانية وعمليات التطهير الطائفي بحق السنة، ويرفعون شعارات التشفي والانتقام.
وإذا أخذنا بالاعتبار الممارسات الإجرامية التي ترتكبها بعض الجماعات الراديكالية الكردية شمال شرقي سوريا، وقيامهم بنشر صور ومقاطع الانتهاكات التي يرتكبونها بحق العرب السنة، فإنه من الضروري التذكير بأن تلك الميلشيات (الطائفية والإثنية) العابرة للحدود، والتي يتمتع بعضها بدعم وتسليح وتمويل غربي وبعضها الآخر بدعم إيراني، قد تسببت في انزياحات سكانية كبرى لم يشهد المشرق العربي لها مثيلاً في تاريخه، فضلاً عن التدمير الممنهج للحواضر السنية والعواصم الرئيسة التي بات الكثير منها يخضع لنفوذ تلك الميلشيات، وسيكون لأعمال التهجير القسري والتطهير العرقي والطائفي تبعات خطيرة على صعيد العلاقات المجتمعية إن لم تتبعها جهود جادة لنزع الفتيل الطائفي ومكافحة خطاب الكراهية.
ولا تتعلق هذه المشكلة بالصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، ولا بالصراع الطائفي بين السنة والشيعة، وإنما ترتبط بالانتهاكات واسعة النطاق وبسياسات التمييز والتصفية والقتل على الهوية وغيرها من الجرائم التي طالت نحو 13 مليون مواطن سوري، و6 ملايين عراقي، يضاف إليهم نحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني، وغيرهم من المدنيين من النساء والأطفال الذي ولدوا خلال الفترة الممتدة بين غزو العراق (2003) وبين العمليات الروسية والإيرانية في إدلب (2020)، ورأوا ويلات الحروب، وقاسوا شتى صنوف معاناتها، رغم أنهم لا يتبعون لأي تيار حزبي أو حركي، ولا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة للتخفيف من غلواء حروب الهوية التي يمكن أن يكون لها أثر مدمر على العلاقة المجتمعية.
قد لا تمثل المعضلة الإثنية والطائفية مشكلة بالنسبة للجماهير العربية في المغرب العربي، والتي لا ترى في الميلشيات الطائفية مشكلة كبيرة، إلا أنها تمثل خطراً وجودياً بالنسبة لسكان المشرق العربي وشبه الجزيرة العربية، علماً بأن الانتماء السني لم يشكل عبر التاريخ عصبوية مستقلة بذاتها، فالدين واللغة يساعدان على بناء الجسور، لكنهما لا يشكلان تجمعات سكانية تتميز عن غيرها من المجتمعات كما تفعل الطوائف والإثنيات.
وليس لدى السنة مشروع سياسي مستقل عن غيره من المجموعات السكانية الأخرى، والتي يطالب البعض منها بتعزيز خصوصيتهم وزيادة نفوذهم والانفراد بكانتونات فيدرالية أو إنشاء نظم حكم ذاتي تفصلهم عن الأغلبية السنية.
وقد شهد القرن الماضي اندلاع حروب وصراعات بين مختلف الكيانات السنية في الدول العربية دون أن يكون للمعتقد أو الانتماء المذهبي دور التخفيف من غلوائها.
إلا أن سياسات التمييز الممنهج قد تفضي إلى إيجاد مظلومية مشتركة بين قطاع كبير من أبناء السنة الذين يشكلون نحو 85% من مسلمي العالم (نحو 1.6 مليار مسلم)، في مواجهة الأقليات التي تشكل نسباً ضئيلة بالمقارنة معهم (تقدر نسبة الشيعة بنحو 15%)، وستفضي التصرفات العدائية من قبل بعض الأقليات، أو من قبل التيارات الشعبوية الغربية التي تصنفهم كعدو إستراتيجي، إلى صراع يصعب السيطرة عليه لدى الأجيال المقبلة، خاصة وأن الاستخبارات الإسرائيلية تسرب خططاً أمنية تدعو لإنشاء واقع جيوسياسي سلمي محيط بإسرائيل يقبل بإدماجها في المنطقة من خلال تفتيت المنقطة وتقسيمها، ومنح السيادة للأقليات في تشكيل الكيانات الخاصة بهم، وتقليص النفوذ السياسي للسنة ودفهم للهجرة بعيداً عن محيطها.
وفي خضم جدليات إعادة رسم الخريطة العربية، يفوت على المسؤولين الغربيين إدراك المخاطر الكامنة خلف دعم أكبر حركة تهجير قسري يشهدها تاريخ المنطقة، وما يمكن أن ينشأ لدى جيل «الشتات» من أحقاد دفينة قد تذكي صراعات ضخمة نتيجة العبث بمصائر الملايين من البشر.
ونظراً إلى الحاجة الملحة لتغليب العقلانية وتبني مفاهيم الممارسة السياسية الرشيدة، فإن هذه الدراسة تدعو جيل الألفية، وجيل ما بعد الألفية الذي نشأ في أتون الحرب، ومخيمات اللجوء، وعانى من الفقر واليتم والتمييز والتهجير القسري، إلى احترام التنوع واستيعاب التعددية، واللجوء إلى الوسائل السلمية في التعبير، وإلى نبذ العنف وتبني الممارسة السياسية الهادفة إلى بناء وطن مستقر ينعم سائر أبنائه بالرفاهية والمواطنة المتساوية دون تعدٍّ أو تمييز.
[1]  https://arabic.cnn.com/middleeast/2014/11/02/commentary ـ baer ـ isis ـ assassination
[2] ـ https://www.alarabiya.net/ar/arab ـ and ـ world/syria/2018/04/18/
[3]https://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/11729847/Chaos ـ in ـ the ـ Middle ـ East ـ means ـ its ـ time ـ for ـ an ـ alliance ـ with ـ Iran.html
[4]https://www.defenseone.com/politics/2016/12/trump ـ republicans ـ see ـ putins ـ russia ـ new ـ front ـ line ـ against ـ islam/133814/

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021