التمسك بالهوية

أثر المعتقدات الدينية في القرار السياسي

عندما عبر البحار البرتغالي فاسكو دي غاما منطقة «رأس العواصف» جنوب أفريقيا عام 1498، أرسل إلى ملك البرتغال مانويل الثاني (1495 ـ 1521) يخبره باكتشاف طريق بحري إلى الهند يُغني أوروبا عن سلوك الطريق البرية المارة بالعالم الإسلامي، فاحتفى مانويل بذلك الكشف، وأطلق على تلك البقعة اسم «رأس الرجاء الصالح» (Cape of Good Hope)، وكتب إلى البابا يوليوس الثاني يخبره بتفاصيل رجائه «الصالح» والمتمثل في: غلق مضيق باب المندب والبحر الأحمر والخليج العربي في وجه الملاحة العربية لخنق العالم الإسلامي اقتصادياً، وأكد مانويل للبابا أنه أوعز برسم الصليب على أشرعة سفن البرتغالية وملابس بحارتها ومصاحبة رجال الدين للحملات البرتغالية.

ومنذ السنوات الأولى للقرن السادس عشر، مارس البرتغاليون وحشية صليبية بلغت ذروتها في حملة أفونسو دلبوكيرك عام 1507، حيث كان يفتخر بقتل المسلمين والتنكيل بهم، مؤكداً في مذكراته أنه يهدف في حملته إلى تحقيق أمرين رئيسين: «أحدهما: تحويل مجرى النيل إلى البحر الأحمر لمنع وصول الماء إلى مصر ليجعل أرض السلطان التركي خراباً، والمشروع الثاني هو أن ينقل من مكة المكرمة عظام الكريه مافوما،[1] وذر رمادها علناً حتى يخضع أصحاب هذا المذهب الغبي البغيض».

وعندما سقط ميناء قلهات العماني (أغسطس 1507)، لم يكتفِ دلبوكيرك بحرق المدينة وهدم مسجدها الكبير، بل أمر جنوده بتعقب المسلمين الفارين: «فأعملوا السيف في رقابهم رجالاً ونساء وأطفالاً وهم في طريقهم هاربين إلى المناطق الداخلية»، ثم صعد دلبوكيرك إلى التل ووجد فيه بعض المسلمين: «فأعمل فيهم السيف جميعاً، وبقي فوق التل حتى الغروب ليرتل دعوات المساء» (!).
وفي أعقاب المجزرة التي ارتكبها جنوده بحق آلاف العرب في جزيرة قشم بالخليج العربي، دخل دلبوكيرك الساحة الرئيسة للمدينة: «ورأى كم هي كثيرة دماء المسلمين، وكم هي كثيرة جثثهم، فرفع صوته مادحاً القباطنة وكل الرجال الآخرين، مؤكداً أنه إذا استطاع سيده ملك البرتغال أن يرى قتلاهم من هذه الشرفات لكان من المؤكد أن يكافئهم … ثم أمر مجموعة من الجنود بركوب الخيل لاستكشاف المنطقة، وأن لا يرحموا أي شخص يقابلونه، فنفذوا الأمر وقتلوا مسلمين كثيرين كما قتلوا نساء وأطفالاً وجمعوا كل الماشية التي وجدوها».[3]
ويسهب حفيد أفونسو دلبوكيرك في كتابه المكون من أربعة أجزاء في وصف انبعاث الروح الصليبية بالتزامن مع التوسع المسيحي في الأندلس وطرد المسلمين منها فيما أطلق عليه مسمى: «حركة الاسترداد» والتي أسبغت الكنيسة الكاثوليكية رعايتها الروحية عليها.
ليس الهدف من سوق تلك القصص نبش مادة التاريخ لإثبات الروح الصليبية في الحملات التي شنتها القوى الغربية ضد المشرق العربي، بل الهدف منها هو التذكير بالبعد الديني كمكون أساسي لدى قادة الغرب في تعاملهم مع المنطقة العربية.
فعلى الرغم من تراجع دور الكنيسة ونزوع أوروبا إلى العلمانية فيما بعد، إلا أن المحرك الديني بقي يمثل أحد أبرز محركات الصراع العسكري حتى الحقبة المعاصرة، إلى درجة دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) لاستعارة الاسم البرتغالي الذي أطلقه مانويل الثاني قبل نحو خمس مئة عام (Cape of Good Hope) على الحملة التي شنها في الصومال (ديسمبر 1992) باسم «إعادة الأمل» (Restore Hope).
وهي المشاعر نفسها التي حملها جنرالات أوروبا مطلع القرن العشرين أثناء عملياتهم العسكرية في المشرق العربي، ففي سعي بريطانيا للسيطرة على القدس، خاطب رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج مارشال القوات البريطانية في الشرق الجنرال إدموند ألنبي عام 1917، قائلاً له: «إن القدس يجب أن تكون هدية الميلاد للأمة البريطانية».
وتحدث طبيب عيون بريطاني صاحب حملة ألنبي عن تأثر قائد القوات البريطانية بتاريخ الحملات الصليبية، حيث استعار منه كتاب «الشرق القديم» لهوغارك ومجلدات من هيرودوتوس وكتباً أخرى في تاريخ الحملات الصليبية، مؤكداً: «لقد كان مقتنعاً بأن التاريخ سوف يكرر نفسه في هذا الشرق غير المتغير، وقال منذ البداية إن المعركة الحاسمة سوف تخاض عند ممر مغيديو»، مستعيراً النبوءة التوراتية في «سفر حزقيال» (7:39) بالعهد القديم، والذي ينص على أن اليسوع: «سيقود جيشاً من الملائكة لينتصر على أعداء الله».
ووصف طبيب العيون المارشال ألنبي بأنه كان مهووساً بالتاريخ، وأنه كان يقرأ في كل ليلة كتابين، أحدهما الإنجيل، وكان ينظر إلى حملاته العسكرية بشيء من الصليبية الحديثة، مؤكداً أنه استحضر صور الماضي في خياله الإستراتيجي والعسكري، خاصة عندما دخل مدينة القدس (9 ديسمبر 1917) من بوابة حيفا ماشياً على قدميه في موكب صاحبه فيه مندوبا إيطاليا وفرنسا ولورنس العرب.[4]
وتزامن ذلك الحدث المشؤوم مع إصدار وزير الخارجية البريطانية آنذاك (آرثر بالفور) وعده بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، في حين كان الأمير فيصل بن الحسين مشغولاً بسوق المبررات لدعم القوات البريطانية في سيطرتها على بلاد الشام، منتحلاً هوية علمانية لا ترتبط بالأديان والمعتقدات.
والحقيقية هي أن معظم جنرالات أوروبا الذين انخرطوا في المشرق العربي خلال القرن العشرين، كانوا متمسكين بهويتهم الدينية وبمعتقداتهم الصليبية في حملاتهم العسكرية ضد المشرق العربي، حيث حرصت فرنسا على حصر عملية التجنيد في «جيش الشرق» بالنصارى من الأرمن والموارنة، وكانت عمليات التجنيد تتم تحت إشراف الكنيسة المارونية وبمباركتها، وتحدث العديد من المؤرخين حول ظاهرة بعث الروح الصليبية في نفوس الضباط الفرنسيين الذين كانوا ينظرون إلى دخول البريطانيين، تؤازرهم سرية فرنسية، عاصمة بني أمية عام 1918 بأنها أول عودة للسيادة المسيحية في مدينة «القديس بطرس».
ولدى احتلال القوات الفرنسية مدينة دمشق في يوليو 1920، دخل الجنرال الفرنسي هنري غورو «المدينة المقدسة» في موكب النصر، ولم يتمالك نفسه عندما وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي ليصرخ بأعلى صوته: «ها نحن صلاح الدين»، ما دفع ببعض الصحف الفرنسية العلمانية لاستنكار ذلك الحدث، ومن أبرزها صحيفة اللوموند التي انتقدت بعث غورو «الروح الصليبية في القرن العشرين».[5]
وعندما قدم الجنرال ويغان خلفاً لغورو كمفوض سامٍ عام 1923، خاطب البطريرك الماروني بقوله: «لقد بدأت مهمتي في هذه اللحظة، عندما نلت البركة من غبطتك»، ويذكر خلفه، موريس ساراي، لحظة دخوله مكتبه في بيروت (1924)، قائلاً: «عندما فتحت أدراج مكتبي وجدتها فارغة إلا من نسخة من الإنجيل». كما أكد المفوض الجنرال هنري دانتز (1940 ـ 1942) في إحدى مخاطباته لمسؤوليه: «لقد وصلنا إلى سوريا تحت يافطة ليس من الضروري أن تكون هي الأمثل، وطالما حاولنا أن نحول هذه اليافطة إلى راية، لقد جئنا كحماة للمسيحيين».
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن التغاضي عن الأسس الدينية التي شكلت مكوناً رئيساً في الهوية الغربية خلال الفترة الممتدة ما بين الكشوفات الكبرى في القرن السادس عشر واحتلال المشرق العربي في مطلع القرن العشرين؟
لا شك في أن العامل الخارجي لا يزال يشكل عنصراً مهماً لدى الشباب العربي الباحث عن إجابات تتعلق بسبل تشكيل الهوية السياسية ونماذج بناء الدولة في ظل التطور الذي شهدته الدول الغربية مقابل فشل الحكم الجمهوري العربي، في حين لا يزال العنصر الديني يمثل مكوناً أساسياً من مكونات الهوية الوطنية، مهما علت نبرة العلمانية ودعوة الحكم المدني.

عندما تتحول النزعات المتطرفة إلى تيارات سياسية

على الرغم من الشوط الكبير الذي قطعته الدول الغربية في التخلص من نير الكنيسة ومن إرثها الاستبدادي الذي فرضته في القرون الوسطى، إلا أن ذلك لا يعني تخلص أوروبا من كامل الإرث الديني، بل بقيت الهوية الدينية ملازمة للهوية السياسية لدى تيار غربي واسع ينتمي إلى مفهوم «الديمقراطية المسيحية»، والتي انبثقت عنها عدة أحزاب أوروبية مثل «الحزب المسيحي الديمقراطي» في ألمانيا، و«الحزب المسيحي الديمقراطي» في السويد، و«حزب الشعب الأوروبي» ذو التوجه الديمقراطي المسيحي الذي يستحوذ على أغلب مقاعد البرلمان الأوروبي منذ عام 2002، ويعتبر أكبر حزب في الاتحاد الأوروبي، حيث يتكون من أكثر من 70 حزب عضو من 40 دولة، وينتمي أغلب رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي إليه، وله 13 عضواً في المفوضية الأوروبية.
ويتزامن صعود المسيحية الديمقراطية الأوروبية مطلع الألفية الثالثة مع تنامي البعد الديني في مؤسسات الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية ابتداء من عام 2000، إذ شهد الحزب الجمهوري صعود نجم المسيحيين الإنجيليين كقوة سياسية، وممارستهم دوراً حاسماً في إعادة تشكيل وهيكلة السياسة الأميركية، وتشكيلهم القاعدة السياسية للحزب الجمهوري ابتداءً من بوش وحتى الرئيس ترامب.
وكان جورج بوش الابن يقود الصلوات وقراءة الإنجيل قبل انعقاد الاجتماعات الدورية، تشاركه في ذلك رئيسة الأمن القومي كونداليزا رايس (ابنة القس جون ويسلي رايس)، وجون أشكروفت ابن الواعظ الديني والعضو النشط بجماعة دينية معروفة، وأندرو كارد كبير موظفي البيت الأبيض المتزوج من سيدة دين، ووزير التجارة دون إيفانز الذي كان يصاحب بوش في حلقات دراسة الإنجيل بتكساس.
وتحدثت مصادر أمريكية عديدة حول دور المعتقدات الدينية لدى بوش في الحرب على العراق عام 2003، وكذلك في تحالف حزبه مع اليمين الصهيوني، الأمر الذي أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في كتابها: «الجبروت والجبار» والذي تحدثت فيه عن إيمانها بالله وعن توجيه ذلك الإيمان للسياسة الخارجية الأمريكية عبرها وعبر شخصيات أخرى نافذة، مشيرة إلى أنه: «وجد كل رئيس أمريكي، من جورج واشنطن إلى الرئيس الحالي، أن من المناسب ذكر الله في سياق ما في خطاب حفل التنصيب، وعبّر معظمهم عن الشكر على النعم التي وهبت بها أمريكا، وقاد العديد منهم الأمة في الصلاة في أوقات الأزمات الوطنية، ووجد بعضهم سبباً لبحث طبيعة إيمانهم الديني في المناسبات العامة»، وتحدث الرئيس كالفين كوليدج (1923 ـ 1929) عن مسيحية أمريكا كإثبات على نواياها الحسنة مؤكداً: «إن الفيالق التي نرسلها تحمل الصليب لا السيف سلاحاً» وأعلن أن تنصير الإنسانية هو الغاية الوطنية لبلده.[6]
وبغض النظر عن الصراع الدائر بين التيارات الدينية والعلمانية في الساحة العربية اليوم، يصعب تفادي ما تشكله دول النبوءات من خطر على هوية المنطقة العربية، والتي تنحصر في ثلاثة كيانات رئيسة هي:
1 ـ  «إسرائيل» (تأسست عام 1948): ترتكز على يهوديتها، وتقوم على أسس نبوءاتية توراتية.
2 ـ  الجمهورية «الإسلامية» الإيرانية (تأسست عام 1979): تقوم على عقيدة الانتظار ويرتكز نظام الحكم فيها على ولاية الفقيه الذي ينوب عن «الإمام الغائب».
3 ـ  دولة جنوب السودان (تأسست عام 2012): تقوم على نبوءة مسيحية حول بطريرك يبسط نفوذه في الشرق ويحارب أعداء المسيح اسمه «برستور جون» (أو القديس يوحنا)، حيث بحث المكتشفون الأوروبيون منذ القرن السادس عشر بجد ومثابرة عن هذه المملكة بدعم الكنيسة في روما ومباركتها، وتم إنشاؤها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ككيان إستراتيجي يقع في تخوم الأمن القومي العربي الجنوبي.
ومثلت عملية فصل جنوب السودان عن شماله إحدى حلقات إعادة رسم «خارطة الشرق الأوسط الجديد»، حيث تمت ترتيبات عملية الفصل من خلال تعاون مسؤولين غربيين مع جمعيات مسيحية، وأشرفت كونداليزا رايس على العملية بالتنسيق مع شركة «دين كورب» لتعزيز القدرات العسكرية للجيش الشعبي لتحرير السودان، وشركة «بلاك ووتر» التي حصلت على عقد سخي من نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني.
وبالإضافة إلى الدور الذي تقوم به تلك الكيانات الدينية، والتي تقوم بنيتها السياسية اليوم على أساطير غابرة، يمكن تتبع دور النبوءات الدينية في تحريك بعض القوى الغربية لشن عمليات عسكرية في العالم العربي، حيث كشف الصحفي الفرنسي جون كلود موريس، والذي عمل في العراق خلال الفترة 1999 ـ 2003، أن جورج بوش (الابن) كان يبحث عن «يأجوج ومأجوج» في العراق وفق الرواية التوراتية، واتصل بالرئيس الفرنسي جاك شيراك طالباً منه المشاركة في الحرب القادمة على العراق لتدمير آخر أوكار «يأجوج ومأجوج» المختبئين قرب مدينة بابل العراقية القديمة، مؤكداً له أن الحرب في العراق هي: «حملة إيمانية مباركة يجب القيام بها، وواجب إلهي مقدس أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل».[7]
وكان جورج بوش يشير إلى ما أورده «سفر التكوين» في العهد القديم، حول قيام «يأجوج ومأجوج» بحشد جيوش جرارة لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وعندئذ ستهب قوة عظمى لحماية اليهود، في حرب يريدها الرب، وتقضي على «يأجوج ومأجوج» وجيشيهما ليبدأ العالم بعدها حياة جديدة.
علماً بأن الطائفة المسيحية التي ينتمي إليها زعماء اليمين الجمهوري في الولايات المتحدة تعتبر الأكثر تطرفاً في تفسير العهد القديم، حيث تتمحور معتقداتهم حول ما يسمى «المنازلة الخرافية الكبرى»، وهي نفسها النبوءة التي تحدث عنها ألنبي لدى سيطرة قواته على بيت المقدس عام 1917، واستمر الحديث عنه على ألسنة العديد من المسؤولين الغربيين وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان الذي تحدث عن تلك النبوءة نحو خمس مرات خلال فترة حكمه، مؤكداً: «قد نكون من الجيل الذي سيشهد معركة هرمجدون».

معارك الهوية في مرحلة «الربيع العربي»

تم اختيار العنصر الديني كمقدمة لهذا المبحث باعتبار استحواذه على معظم الجدل الدائر حول الهوية السياسية في مرحلة «الربيع العربي»، والخلاف القائم حول دور الدين في جهود إعادة التشكل السياسي للجمهوريات العربية، علماً بأن الدين يمثل أحد أبرز مكونات الهوية، والتي تشكل بدورها مرتكزاً أساسياً للعمل السياسي على الصعيد الفردي والجماعي.
وتُعرّف الهوية بأنها: «مجموعةٌ من المُميّزات التي يمتلكها الأفراد، وتُساهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد عن غيرهم، وقد تكون هذه المُميّزات مُشتركة بين جماعةٍ من النّاس سواءً ضمن المجتمع، أو الدّولة»، وتتضمن مجموعة من: القيم الحاكمة، والتراث الجماعي، والثقافة، واللغة، والمعتقد، والتاريخ المشترك، والإطار الجغرافي، والإنجاز الحضاري للأمم.
وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي تشكل مسألة صيانة الهوية الجامعة تحديات كبيرة على صعيد الهوية تتمثل فيما يلي:
 ـ  الهوية الوطنية وعلاقاتها مع مفهومي «الهويات المركبة» و«تعدد الهويات».
 ـ  الصراع بين الشعوب والحكومات العربية فيما يتعلق بالهوية المركزية التي فرضها الحكم الاستبدادي، مقابل سعي الأفراد لتحقيق هوياتهم، والمطالبة بتقديرها واحترام خصوصيتها.
 ـ  سعي بعض القوى لإعادة صياغة الهوية الوطنية وفق رؤى فئوية لا تمثل سائر أبناء المجتمع.
 ـ  مطالبة بعض المجموعات الإثنية والدينية والطائفية بالحكم الذاتي مستفيدين من تراجع مفاهيم الحكم المركزي ومؤسساته.
 ـ  العولمة السياسية، التي تدفع بعض الشباب لتقمص هويات بديلة يعتبرون أنها تمثل الرقي والتطور الحضاري في مقابل حالة التخلف التي تعيشها مجتمعاتهم، ونزوعهم للتخلي عن لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وتقمص هويات مجتمعات أخرى يعتبرونها أكثر تقدماً.
 ـ  التعقيدات المجتمعية الناشئة عن الصراعات الدينية ـ  المذهبية، والعنف الطائفي ـ  الإثني خلال الفترة 2011 ـ 2020، وضيق مساحة الحوار المجتمعي حول مكونات الهوية الوطنية في الثقافة العربية.
 ـ  تبني بعض مراكز الفكر العالمية وبعض كبار المسؤولين الغربيين مشاريع تدعو إلى تقسيم المجتمعات العربية على أسس طائفية وإثنية، وتدخلهم في صياغة الوثائق التأسيسية للجمهوريات الفاشلة في مرحلة إعادة التشكيل.
 ـ  تنامي الأدوار العسكرية للميلشيات الطائفية والإثنية والعابرة للحدود في مرحلة تداعي الجيوش التقليدية، وتفشي ظاهرة «الحروب اللامتماثلة»، والتي يندلع الصراع فيها بين المجموعات السكانية على أساس الهويات المتصارعة، وقيام بعض القوى الخارجية بتشكيل وتمويل وتسليح مجموعات إثنية ـ  طائفية في المجتمعات العربية.
 ـ  اندلاع معارك إيديولوجية بين مختلف الفئات المجتمعية حول إعادة تعريف الوطن وصياغة وثائقه الأساسية في بعض الجمهوريات العربية، تذكيها محاولات استبدال المركزية بنظمٌ «فيدرالية» أو «لامركزية»، وسعي الهويات الفرعية (العشائرية والإثنية والطائفية والمناطقية) لتحقيق المزيد من الخصوصية، فضلاً عن النقاش القائم حول دور الدين في النظم السياسية البديلة.

تحديات صياغة الهوية الجامعة

تمثل عملية صياغة الهوية الوطنية الجامعة التحدي الأكبر بالنسبة للشباب العربي في العقد المقبل، ومن أبرز القضايا المرتبطة بهذه المعضلة:
1 ـ  صيانة الهوية العربية من خلال ركائزها الخمسة: الدين، والوطن، والثقافة، والتاريخ، واللغة، وحمايتها من محاولات التشويه، ومن أساطير الصدام الحضاري، وما ينتج عنهما من تعبئة سلبية وفكر عدائي.
2 ـ  استيعاب الهويات الفرعية ضمن الهوية الجامعة بأنواعها المختلفة، الثقافية والسياسية، وتعزيز الموروث التاريخي المتمثل في حماية الهويات الدينية والإثنية والمذهبية، والتي تمتعت بالأمن في ظل الحضارة الإسلامية.
3 ـ  الانفتاح على الهويات والحضارات والثقافات الأخرى، وتعزيز التواصل والتبادل ونزع فتيل الفكر الراديكالي الذي يبشر به العديد من منظري اليمين الأمريكي المتطرف فيما يتعلق بحتمية الصراع الحضاري مع الإسلام.
4 ـ  مقاومة المخاطر التي تمثلها المعتقدات الأسطورية، وما يمكن أن تتسبب به إساءة فهم النصوص الدينية من إزهاق للأرواح وتشريد للشعوب وتدمير للبنى التحتية عبر العصور، وما يمكن أن ينتج عنها من مخاطر على هوية شعوب المنطقة.
5 ـ  مقاومة النزعات الغربية لتقسيم المنطقة العربية على أسس إثنية وطائفية ودينية تحت ذريعة «حماية الأقليات»، والتصدي للحركات الانفصالية التي ترتكب جرائم التهجير القسري والتطهير العرقي، وتثير الاحتقان الطائفي والمذهبي وتؤجج الحروب الأهلية والنزاعات البينية.
6 ـ  إيجاد آليات ناجعة لتنظيم العلاقة بين الأعراق والطوائف والأديان، وذلك من خلال استحداث مفهوم إدارة التنوع واستيعاب التعددية بمختلف أنماطها.

شكل (3): ركائز الهوية القومية

ولا شك في أن التحديات المرتبطة بتشكيل الهوية السياسية ستمثل التحدي الأكبر للأجيال المقبلة، ولذلك فإنه يجب التعامل معها من خلال صياغة مشروع حضاري يستوعب جميع عناصر المجتمع، ويشكل منظومة سياسية تصون الهويات المتعددة وتحمي أفرادها.
 وفي وقفة مراجعة لحركات «الربيع العربي»، يمكن ملاحظة تقوقع أغلب الحركات السياسية في قوالب صلبة لا تتمتع بالمرونة التي تسمح لها بالاستجابة للتحولات، وتقمص بعضها نمطاً من التشكل المنفصم عن الحراك الشعبي واتخاذ مواقف سياسية متشددة تعزز حالة الريبة وتنمي مشاعر العداء تجاه أي فكر معارض، حيث تتصارع في معركة إعادة تشكيل الهوية ثلاث تيارات متباينة:
1 ـ  تيار يرتكز على نموذج التحشيد الفئوي القائم على استقطاب الهويات المتعددة في كيانات فيدرالية أو لامركزية، على أسس مجتمعية، ويتشكل في عدة صيغ منها: نظام «الترويكا» المطبق في لبنان، ونمط المحاصصة الطائفية السائد في العراق، والنظم الفيدرالية القائمة على مفهوم الفرز المناطقي، وتوظيف عصبويات ما دون الدولة (عشائرية، طائفية، مناطقية) لإنشاء قوات عسكرية بديلاً عن الجيوش الوطنية.
2 ـ  تيار يعمل على استعادة الهوية الجامعة عبر مفهوم «الدولة ـ  الأمة» (Nation State)، وذلك من خلال التأسيس لهوية فكرية أو إيديولوجية جامعة تقوم على القواسم المشتركة بين غالبية أبناء المجتمع على أسس قومية، إلا أن مثل هذه المشاريع لم تنجح في الفترة الماضية، إذ إن المشاريع القومية كالمملكة الفيصلية في سوريا (1918 ـ 1920)، ومشروع وحدة سوريا مع العراق (1949)، والفيدرالية الأردنية ـ العراقية (1958)، والجمهورية العربية المتحدة (1958 ـ 1961) وغيرها من المشاريع قد انتهت بالفشل نظراً لارتكازها على الفكر القومي الذي فشل في تطوير مؤسسات حكم حديث.
3 ـ  تيار يحاول معالجة تبعات انهيار المنظومة الجمهورية من خلال استيعاب التحولات الديمغرافية، والانزياحات السكانية الكبرى، وتوظيف «المجتمع الأهلي» (المجتمع النشط غير المنظم وغير المنخرط في صيغ مؤسسية) ومؤسسات «المجتمع المدني» (الذي ينشط من خلال جملة من المؤسسات الأهلية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية) لتحقيق حوار مجتمعي يفضي إلى صياغة هوية جامعة تستوعب تلك المتغيرات.
وترى بعض الدراسات الاستشرافية أن العنف المصاحب لمرحلة «الربيع العربي» (2011 ـ 2020) سيدفع بالأجيال الشابة لإعادة صياغة هويتها فيما يعزز دور الفرد، ويدفع باتجاه «أنسنة» العمل السياسي، وذلك من خلال تغليب العناصر الإنسانية في تحديد هوية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وذلك من خلال نظريات: «العقد الاجتماعي»، التي ترى أن السلطة في حقيقتها هي عقد بين الدولة والمجتمع.
وتتمثل الصيغة الأمثل لتحديد الهوية السياسية للجمهوريات العربية في جمع القواسم المشتركة لدى مختلف المجموعات السكانية، واستقراء نماذج الدول الشرقية التعددية (cosmopolitan) في مؤسسات الإدارة والحكم، وإضافة مفاهيم «إدارة التنوع» لاستيعاب العناصر الدينية والتاريخية والسياسية والثقافية والإنسانية على حد سواء.

[1]  يقصد بذلك قبر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك دليل على الحقد الصليبي الممزوج بالجهل أن قبر الرسول عليه الصلاة والسلام موجود في المدينة وليس في مكة.

[2]  عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ترجمة (2000)، السجل الكامل لأعمال أفونسو دلبوكيرك، المجمع الثقافي، أبو ظبي. 1/60.

[3]  عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ترجمة (2000)، السجل الكامل لأعمال أفونسو دلبوكيرك، 1/60.

[4]  سمير عطا الله (1995)، جنرالات الشرق دور العسكريين الأجانب في العالم العربي بين الحربين، دار الساقي، بيروت، ص 62-63.

[5]  نجيب الأرمنازي (1973)، سورية من الاحتلال حتى الجلاء، بيروت، ص.ص 19-20، نقلاً عن المسيو بيو، آخر مندوب سام للجمهورية، في كتابه: سنتان في الشرق، ص.ص 28-29.

[6]  Madeleine Albright (2007) The Mighty and the AlmightyReflections on AmericaGodand World Affairs, Harper Perennial, New York.

وتوجد نسخة عربية للكتاب بعنوان: «الجبروت والجبار، تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية»، ترجمة عمر الأيوبي، الدار العربية للعلوم، القاهرة 2007.

[7]  Jean ـ Claude Maurice (2010) Si vous le répétezje démentirai, Plon, Paris.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي