لا شك في أن ظهور الأديان السماوية الثلاثة في المنطقة العربية كان -ولا يزال- يشكل أحد أبرز خصائص الإقليم، حيث بدأت عملية تحول أوروبا من الوثنية إلى المسيحية من المنطقة العربية، فيما رسخ اليهود نفوذهم الاقتصادي في المدن العربية عبر القرون.
وفي مقابل ارتباط عصور “الانحطاط” الأوروبية بهيمنة الكنيسة؛ كان لظهور الإسلام في المنطقة العربية الدور الأبرز في قيام نهضة حضارية كبرى في شتى المجالات، ولم يتوقف أثرها على المنطقة فحسب بل امتد عبر قارات العالم القديم، إلى درجة دفعت بروديل للتأكيد على أنه لا يمكن فهم الفكر الأوروبي خارج إطار تطور العلاقات بين المسيحية والإسلام، ذلك أنه حتى عندما نزع الإنسان الأوروبي نحو العلمنة، وربما الإلحاد، إلا أن ردود فعله النفسية، وسلوكه، وأخلاقياته، ظلت متجذرة في التراث المسيحي الذي طبع الحياة الأوروبية بطابعه الخاص على مدار القرون المتطاولة.
وأكد بروديل أن النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، على عكس ما يتوهمه الأوروبيون اليوم، لم تكن ذات نزعة إلحادية ولا خارجة على المسيحية، حيث تؤكد القرائن التاريخية أن الحياة الروحية والفكرية لأوروبا كانت مطبوعة بالطابع المسيحي في تلك الحقبة.
وتفسر تلك الظاهرة ارتباط الغزاة الأوروبيين للمنطقة العربية بالأساطير والنبوءات التوراتية، فعندما عبر البحار البرتغالي فاسكو دي غاما منطقة “رأس العواصف” جنوب أفريقيا عام 1498، أرسل إلى ملك البرتغال مانويل الثاني (1495-1521) يخبره باكتشاف طريق بحري إلى الهند يُغني أوروبا عن سلوك الطريق البرية المارة بالعالم الإسلامي، فاحتفى مانويل بذلك الكشف، وأطلق على تلك البقعة اسم “رأس الرجاء الصالح” (Cape of Good Hope)، وكتب إلى البابا، يوليوس الثاني، يخبره بتفاصيل رجائه “الصالح” والمتمثل في: غلق مضيق باب المندب والبحر الأحمر والخليج العربي في وجه الملاحة العربية لخنق العالم الإسلامي اقتصادياً، وأكد مانويل للبابا أنه أوعز برسم الصليب على أشرعة السفن البرتغالية وعلى ملابس بحارتها وبمصاحبة رجال الدين للحملات البرتغالية”.
وعلى الرغم من نزعة نابليون العلمانية مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوف على هضبة “مجيدو” في فلسطين، واستحضار النبوءة التوراتية قائلاً: “جميع جيوش العالم باستطاعتها أن تتدرب على المناورات للمعركة التي ستقع هنا”.
وظهر الهوس بمعركة “هرمجدون” كذلك عند السياسي اليهودي تيودور هرتزل (ت 1904) الذي قال: “ظهر لي في عالم الرؤيا المسيح الملك على صورة شيخ حسن وخاطبني قائلاً: اذهب وأعلم اليهود بأني سوف آتي عما قريب لأجترح المعجزات العظيمة وأسدي عظائم الأعمال لشعبي وللعالم كله”.
وكذلك الحال عند المارشال البريطاني إدموند ألنبي (ت 1936) الذي كان مقتنعاً بأن: “التاريخ سوف يكرر نفسه في هذا الشرق غير المتغير، وسوف تُخاض المعركة الحاسمة عند ممر مجيديو”.
وهي المشاعر نفسها التي حملها جنرالات أوروبا مطلع القرن العشرين أثناء عملياتهم العسكرية في المشرق العربي، ففي سعي بريطانيا للسيطرة على القدس، خاطب رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج، مارشال القوات البريطانية في الشرق الجنرال إدموند ألنبي (1917)، قائلاً: “إن القدس يجب أن تكون هدية الميلاد للأمة البريطانية”، واعتبر أن: “المعركة الحاسمة سوف تخاض عند ممر مجيدو”، وذلك في إشارة إلى النبوءة التوراتية في “سفر حزقيال” (7:39) بالعهد القديم.
وبغض النظر عن الصراع الدائر بين التيارات الدينية والعلمانية حول دور الدين في السياسية اليوم، إلا إنه من غير الممكن التغاضي عما تشكله ظاهرة “دول النبوءات” من خطر على هوية المنطقة العربية، والتي تتمثل في ثلاثة كيانات رئيسة، هي:
1- “إسرائيل” (تأسست عام 1948): ترتكز على يهوديتها، وتقوم على أسس نبوءاتية توراتية.
2- الجمهورية “الإسلامية” الإيرانية (تأسست عام 1979): تقوم على عقيدة الانتظار ويرتكز نظام الحكم فيها على ولاية الفقيه الذي ينوب عن “الإمام الغائب”.
3- دولة جنوب السودان (تأسست عام 2012): تقوم على نبوءة مسيحية حول بطريرك يبسط نفوذه في الشرق ويحارب أعداء المسيح اسمه “برستور جون” (أو القديس يوحنا)، حيث بحث المكتشفون الأوروبيون منذ القرن السادس عشر بجد ومثابرة عن هذه المملكة بدعم الكنيسة في روما ومباركتها، وتم إنشاؤها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ككيان إستراتيجي يقع في تخوم الأمن القومي العربي الجنوبي.
ومثلت عملية فصل جنوب السودان عن شماله إحدى حلقات إعادة رسم “خارطة الشرق الأوسط الجديد”، حيث تمت ترتيبات عملية الفصل من خلال تعاون مسؤولين غربيين مع جمعيات مسيحية، وأشرفت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس (2005-2009) على العملية بالتنسيق مع شركة “دين كورب” لتعزيز القدرات العسكرية للجيش الشعبي لتحرير السودان، وشركة “بلاك ووتر” التي حصلت على عقد سخي من نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني.
والحقيقة هي أنه من غير الممكن فصل تلك المؤثرات الدينية عن التشوهات التي وقعت بالجمهوريات العربية في مراحل مبكرة من التأسيس، وما نتح عنها من مهددات أمنية على المستوى الإقليمي والدولي، وخاصة ما يتعلق بظهور الجماعات المتطرفة التي قامت كرد فعل على تطرف الأطراف الأخرى، ووسعت نطاق عملها ليشمل مناطق مختلفة من العالم.