تأثير تشوهات التأسيس على الأمن العربي

"تخلت بريطانيا العظمى عنا في آخر لحظة"

كانت الدوائر القومية العربية مفعمة بالأمل عندما شارك الأمير فيصل بن الحسين في مؤتمر الصلح عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وعرض قضيته أمام المؤتمر (6 فبراير 1919)، قائلاً: “جئت ممثلاً لوالدي الذي قاد الثورة العربية ضد الترك تلبية منه لرغبة بريطانيا وفرنسا لأطالب بأن تكون الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا من خط الإسكندرونة ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً، مُعترفاً باستقلالها وسيادتها، بضمان من عصبة الأمم”.

ولتعزيز موقفه؛ استبق فيصل زيارته بإنشاء مجلس للشورى ومحكمة للتمييز، وأسس مؤتمراً وطنياً (يونيو 1919) لتمثيل الرغبة الشعبية بالاستقلال، وأعلن سوريا مملكة في 8 مارس 1920.

لكن بريطانيا وفرنسا كانتا تفكران بطريقة مغايرة، حيث تزامنت إجراءات فيصل مع وضع الرتوش الأخيرة بينهما على معاهدة “سان ريمون” (أبريل 1920)، والتي تم الاتفاق فيها على خضوع سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي، وخضوع العراق وشرقي الأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وبموجب هذا الاتفاق سحبت بريطانيا قواتها من سوريا ليحل محلها الجيش الفرنسي الذي زحف إلى دمشق واحتلها عنوة بعد معركة ميسلون (24 يوليو 1920).

كان فيصل بن الحسين هو الخاسر الأكبر من صفقة “سان ريمون”، حيث فقد مملكته التي شيدها خلال سنتين (1918-1920)، واضطر لمغادرة سورية بتهديد السلاح، بعد أن أوكلت بريطانيا مصيره إلى الحكومة الفرنسية التي لم تكن تعترف له بأي حق في سوريا، وعمدت إلى إخراجه بصورة مهينة بعد استيلاء قواتها على مدينة دمشق.

وعبر فيصل عن مشاعر الإحباط في خطاب ألقاه بحديقة قصره، بعد عودته من أوروبا عام 1920، بقوله: “تخلت بريطانيا العظمى عنا في آخر لحظة إرضاء لحليفتها فرنسا، ذات المصالح الاقتصادية والثقافية في هذه البلاد، وتجنباً لإثارة الخلاف والمشادة بين حليفتين حاربتا جنباً إلى جنب حتى أحرزتا مع سائر حلفائهما النصر على عدو قوي كألمانيا”.

وتبدد بذلك الاحتلال حلم الدولة العربية، فيما ابتدأت مرحلة الانتداب الفرنسي، إثر صدور قرار عصبة الأمم منح فرنسا حق الانتداب على سورية ولبنان بهدف إرشاد الأهالي ومعاونتهم في إدارة البلاد.

لم يكن فيصل هو الوحيد الذي يشعر بالمرارة من خذلان بريطانيا، فقد كان والده الشريف حسين، قد أعلن النفير العام ضد الدولة العثمانية عام 1916، وقاتل مع القوات البريطانية، لكن بريطانيا لم توفِ له بتعهداتها، بل انقلبت ضده، وأرسلت بارجة حربية إلى العقبة، حيث كان يقيم عام 1925، ووجه قائدها إنذاراً إلى الحسين، الذي اضطر للمغادرة (18 يونيو 1925) على متن البارجة “دلهي” منفياً إلى قبرص، وظل يشتكي فيها من سوء معاملة البريطانيين له طوال فترة إقامته في الجزيرة.

ويروي الأمير زيد بن الحسين أن والده: “اضطر ذات يوم أن يستل خنجره ويضعه أمام حاكم الجزيرة البريطاني قائلاً: “لقد حاربت معكم بهذا، وما كنت أظن أنني سأقابل في النكران”، فما كان من الحاكم الصلف إلا أن دفع الخنجر بقلم كان في يده قائلاً: “لم يعد هذا بذي نفع لنا بعد اليوم”، فما كان من والدي إلا أن أشار إليّ بإنهاضه حيث لم يعد باستطاعته حمل نفسه، فخرجنا، فلازم فراشه ولم يتركه إلا إلى قبره بعد أيام”.

وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على تلك الأحداث إلا أن الشعوب العربية تعاني اليوم من آثارها أكثر مما عانى منها آباؤهم آنذاك، حيث ترك الاستعمار ندوباً عميقة في الخارطة العربية لا تزال تعود آثارها بعواقب وخيمة على الأجيال اللاحقة.

الهوية التائهة

شكلت معضلة تحديد الهوية السياسية للدول الناشئة التحدي الأكبر بالنسبة للشعوب العربية في مطلع القرن العشرين؛ حيث أسس الهاشميون مملكة في سوريا (1918-1920)، ومن ثم في العراق (1921-1958) والأردن (1921)، وتبنوا القومية كإيديولوجية يمكن أن تضم سائر الجماهير العربية، متخذين من النمط الغربي أساساً لبناء الدولة العلمانية الحديثة، على أساس: “الدين لله والوطن للجميع”.

إلا أن الفكر القومي لم يكن كفيلاً بتقديم هوية سياسية بديلة للكيانات المنعتقة من الحكم العثماني، فبينما كانت الأعراق والقوميات هي أساس نشوء دول أوروبا الحديثة: كانت الدول الشرقية تتميز بتعدد القوميات والأديان، وسرعان ما تبين خطأ افتراض أن القومية العلمانية ستلغي الفروقات الدينية والمذهبية، إذ إن رفع شعار توحيد جميع المواطنين على أساس اللغة والعرق واجه اعتراضاً كبيراً، ليس من التيار السني الواسع فحسب، وإنما من أبناء الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، الذين وجدوا بأن مشروع الوحدة العربية سيخلق كيانات سياسية لا تحترم خصوصياتهم، في مقابل تبني الدولة العثمانية نظام “الملة” الذي منحهم قضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة.

وفي الفترة الممتدة ما بين الحربين؛ عمدت السلطات الانتدابية إلى تقسيم المنطقة وترسيم الحدود فيما بينها وفق ما يحقق مصالحها، وبينما تظاهرت بريطانيا بدعم الهاشميين، كانت تعمل مع فرنسا على وأد المشروع القومي من خلال تقسيم المشرق العربي إلى كانتونات طائفية.

ولدى إعلان استقلال كل من العراق وسوريا ولبنان والأردن؛ وجد القوميون أنفسهم في مأزق كبير، حيث أصبح من المتعين عليهم صيانة الكيانات المجتزأة التي كافحوا لمنع قيامها طوال فترة الانتداب، وكانت غالبية الأحزاب العربية التي نشأت في تلك الفترة غير مؤمنة بإمكانية استمرار الدول القُطرية ضمن الحدود التي رسمها الانتداب.

وفي تعليقه على المشاكل التي شابت عملية التأسيس الجمهوري؛ رأى إيلي خضوري أن محاولة المنظرين القوميين فرض مصطلحات حديثة مثل: “الأقلية”، و”الأكثرية”، و”القومية”، و”سيادة الشعب”، في أنظمة الحكم العربية الناشئة بغية تحقيق الاستقرار والتوازن السياسي، لم تحقق نجاحاً في البيئة الشرقية التي كونت تجربة أخرى تعتمد على منظومة إدارية مغايرة، تقوم على “الشورى”، و”الإجماع”، ونظام “الملة”، وغيرها من المفاهيم التي شكلت في مجملها نظاماً تعددياً يختلف تماماً عن النمط الغربي.

وأدى إقحام تلك المفاهيم بصورة سطحية في نُظُم الحكم إلى إحداث اختلال مجتمعي، خصوصاً عند الأقليات، فحديث المنظرين القوميين عن: “القواسم المشتركة” لدى غالبية أبناء المجتمع كان يعني بالمقابل وجود “خصوصيات” لا بد من حمايتها عند أبناء الطوائف، مما دعم مطالبهم بالاستقلال.

وأدى الحديث عن وجود “أكثرية” تطالب بالحكم إلى افتراض وجود “أقلية” مضطهدة تطالب بتدخل القوى الكبرى لحمايتها، كما أن فكرة “الاحتكام إلى الشعب” في تلك المرحلة كانت تعني بالضرورة تسليم السلطة التشريعية إلى الغالبية العربية السنية، ما أثار سخط أبناء الأقليات من عدم اعتراف النظام العلماني لهم بأية ميزة عن سائر المواطنين.

ولذلك فإن الفكر القومي لم يتمكن من تقديم بديل ناضج، إذ إن تبني السياسة العلمانية كان سلاحاً ذو حدين، فبينما اعتبرها القوميون وسيلة لتوحيد المجتمع على أساس العرق واللغة، نظر أبناء الطوائف إليها كمحاولة لتذويبهم في المجتمع.

وظهرت المفارقة بين: التنوع النظمي العريق القائم على مفهوم العالمية (cosmopolitan) الذي تمتعت به المنطقة العربية عبر التاريخ، وبين قيام الدولة القومية التي مثلت انتكاسة للبعد التعددي المنفتح نحو مختلف المذاهب والطوائف والأديان.

وسرعان ما غرقت الجمهوريات العربية في دوامة الانقلابات العسكرية، بخلاف الملكيات العربية التي ظهر معظمها في القرن الثامن عشر.

 

الجمهورية

سنة التأسيس/الاستقلال

1

الجمهورية اللبنانية

1943

2

الجمهورية العربية السورية

1946

3

الجمهورية المصرية

1953

4

جمهورية السودان

1956

5

الجمهورية التونسية

1957

6

الجمهورية العراقية

1958

7

الجمهورية الإسلامية الموريتانية

1960

8

الجمهورية العربية اليمنية

1962

9

الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية

1962

10

جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية

1967

11

الجمهورية العربية الليبية

1969

12

الجمهورية الصومالية الديمقراطية

1969

13

جمهورية جزر القمر

1975

14

جمهورية جيبوتي

1977

تشكل الجمهوريات العربية

 

ويمكن ملاحظة تركز معظم بؤر التوتر عقب انتهاء الحرب الباردة في المنطقة العربية، وخاصة منها ما يتعلق بمهددات معابر الملاحة والتجارة، وأمن الطاقة، والصراع العربي-الإسرائيلي، وحروب الخليج الثلاثة، والتدخل السوفيتي في أفغانستان، ومشروع التوسع الفارسي عقب الثورة الإيرانية (1979)، وظهور جماعات التطرف والغلو، وما نتج عن أحداث 11 سبتمبر 2001 من تدويل للصراع.

ونتيجة للدعم الخارجي الذي تلقته العديد من الجماعات الإثنية والطائفية، فقد تنامت أدوار القوى غير التابعة للدول (non state actors)، بحيث أصبحت المعادلة الإقليمية عصية على المعالجة التقليدية، بعد أن انخرطت جيوش الدول الكبرى مباشرة في الصراع.

وبحلول عام 2011 (أي في غضون 65 سنة من تشكل أول كيان جمهوري عربي)، انهارت منظومة الجمهوريات العربية على وقع الاحتجاجات الشعبية، وتحولت معظمها إلى دول فاشلة.

الجغرافيا وإشكاليات المكان

رأى الباحث البريطاني فريد هاليداي أن الموقع الجغرافي يشكل تمثيلاً مادياً ومحايداً للتقسيمات البشرية، بحيث يمكن القول: إن موقع الدولة هو أول ما يحدد هويتها وسياساتها، واعتبر أن الدافع الرئيس لسياسات إيران التوسعية هو جغرافيتها، وليست إيديولوجيتها التي تغيرت عبر العصور، فمعظم سطح البلاد يتكون من أراضٍ وعرة، تكثر فيها الجبال، وتغطي معظم سطحها صحراوان كبيرتان، تعدان من أكثر صحاري العالم جفافاً وجَدباً، ويتسم مناخها بالتطرف الشديد، ما يجعلها تعاني من ندرة الموارد.

ودفعت تلك التضاريس الوعرة بالسلطات السياسية للبحث عن الموارد في الخليج العربي الذي مثّل شريان الحياة لإيران عبر التاريخ، ما دفعها لتبني سياسات توسعية وربط تحقيق أمن الداخل بالهيمنة الخارجية، سواء أكان ذلك في الحقبة الإخمينية أو الساسانية أو القومية أو “الإسلامية”، حيث اعتبر هاليداي التشيع عنصراً طارئاً في الثقافة الإيرانية، وأن دعوى “تصدير الثورة” في الحقبة الحديثة ليست سوى أداة شكلية لتبرير النزعات التوسعية الفارسية التي تميز بها التاريخ الإيراني عبر القرون.

وعلى الصعيد نفسه فإن الأطماع العراقية في الكويت لم تكن تقتصر على طموحات صدام حسين العسكرية في تسعينيات القرن المنصرم، بل تعود إلى مراحل سابقة في عهد عبد الكريم قاسم (1961)، وامتدت لما بعد عام 2011، عندما وقع التوتر حول نية الكويت إنشاء “ميناء مبارك الكبير”، ولا ترتبط تلك الأطماع بإيديولوجية شيوعية أو بعثية أو شيعية، بل بواقع جغرافي يدفع السلطات العراقية لمحاولة توسيع إطلالتها البحرية بعد أن تم حصر منفذها البحري الوحيد في بقعة صغيرة ببلدة “أم قصر” جنوب البلاد.

وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بين سوريا ولبنان، إذ لا تقتصر دوافع الهيمنة السورية على طموحات البعث خلال الفترة 1976-2005، بل تعود الأزمة إلى مرحلة ترسيم الخريطة السياسية في العقد الثاني من القرن العشرين، حيث لم يبقَ للجمهورية السورية من ساحل الشام الممتد لأكثر من 800 كم (بين كلكيلية وسيناء) سوى 183 كم، فيما وزعت باقي المناطق الساحلية على كل من: فلسطين (240 كم)، ولبنان (200 كم)، ولواء الاسكندرونة (200 كم)، ونتيجة لذلك فقد حيل بين مناطق سوريا الداخلية وبين المنافذ البحرية لها، فحُرمت دمشق من الوصول إلى مينائي حيفا وبيروت القريبين منها، وحُرمت حمص من الوصول إلى ميناء طرابلس، وحُرمت حلب من الوصول إلى ميناء الإسكندرون، وسيبقى هذا العنصر مصدر توتر بين الجارتين، ودافعاً لوصل المدن الكبرى بمنافذها البحرية كلما توفرت القدرة على تحقيق ذلك.

ويمكن القول: إن هنالك “حتمية جغرافية” ترسمها الصحاري والجبال والبحار والموارد الطبيعية والثروات، وليس الإيديولوجيات أو الحكومات التي تتغير عبر العصور، وخاصة فيما يتعلق بتأثير العوامل الجغرافية على التطور السياسي، ودفعت تلك الحقائق بالمؤرخ بروديل إلى القول: “إن الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية”.

ولا شك في أن الجغرافيا كانت، ولا تزال صاحبة القول الفصل في الكثير من الأحداث السياسية في المرحلة المقبلة، خاصة وأن المنطقة العربية تشرف على رقعة جغرافية تعتبر الأهم بين قارات العالم الرئيسية، وتطل على ممرات مائية إستراتيجية تضمن لها الهيمنة في الملاحة وطرق المواصلات البحرية.

ولم تفقد هذه الدول أهميتها رغم ضعفها، إذ لا تزال تتمتع بمخزون ثروات طبيعية يمكن أن تجعلها الأكثر ثراء بين المنظومات الاقتصادية في العالم، من حيث توفر احتياطيات النفط، والغاز الطبيعي، والأراضي الزراعية، ووفرة الموارد الطبيعية والثروات البشرية التي تجعلها فاعلة ومؤثرة في السياسية الدولية، وتُمكنها من تحقيق نهضة كبيرة في مجالات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

معضلة الأمن الإقليمي

شهدت حقبة الثمانينيات نقاشاً محتدماً حول حصر الدراسات الأمنية في نُخَب محدودة من الخبراء في المجال العسكري، حيث برز تيار يدعو إلى استيعاب المهددات غير العسكرية، ودراسة المخاطر على مستوى ما دون الدولة، ويطالب بمزيد من الشفافية في إدارة الشؤون الأمنية والإستراتيجية.

وسرعان ما انتقلت تلك الحوارات من دوائر: صناع القرار، والأكاديميين، والجامعات، ومراكز البحث، إلى القطاع الشعبي، عبر وسائل الإعلام التي تنامى اهتمامها بالمجالات الأمنية والإستراتيجية، حيث ظهر عدد من الباحثين الغربيين الذين استقطبت كتاباتهم اهتماماً شعبياً واسعاً، كستيفن والت، وباري بوزان، وأولي ويفر، ومحمد أيوب، وجوزيف ناي، وريتشارد إيلمان، وغيرهم من الباحثين الذي كان لهم دور كبير في إعادة صياغة مفهوم الأمن للرأي العام.

كما برزت في تلك الفترة؛ الباحثة الألمانية، هلغا هفتندرون، التي وسعت نطاق البحث الأمني خارج إطار الدولة ومؤسساتها، ودعت إلى فهم التباينات النوعية في الأقاليم عبر تقصي الأبعاد التاريخية، والقيَمية، والثقافية، والاقتصادية، والبنى المجتمعية، وغيرها من الخصوصيات التي تميز كل إقليم عن غيره.

وقاد محمد أيوب مدرسة جديدة أُطلق عليها “الدراسات الأمنية للعالم الثالث”، انطلقت من التشكيك بقدرة النظريات التقليدية على تفسير الأحداث العالمية، وخاصة في دول “العالم الثالث”، معتبراً أنه لم يعد من الممكن اتخاذ “الدولة” كوحدة أساسية في التحليل السياسي، خاصة وأن مهددات “ما دون الدولة” (كالاضطرابات الإثنية والمذهبية)، و”ما فوق الدولة” كالجريمة العابرة للحدود، والإرهاب الدولي، والأمراض والأوبئة والكوارث الطبيعية، باتت أكثر خطورة على العالم من المهددات العسكرية التقليدية.

وظهرت العديد من المصنفات التي تؤكد تلك الحقائق، حيث قدّرت إحدى الدراسات أنه من أصل 120 حرباً وقعت في العالم خلال الفترة 1945-1976، كان 102 منها حرباً داخل الدول، نتيجة صراعات إثنية أو عرقية، أو حروب أهلية، أو حروب مناوئة للنظم السياسية.

وأحصت الدراسة نفسها، في الفترة 1973-1986، وقوع نحو 66 حرباً داخل الدول، ونحو 30 حرباً أهلية، ما أسهم في نقض معطيات النظرية الواقعية التي ترتكز على أساس أن تحقيق الأمن الدولي يتم من خلال الحد من الحروب بين الدول.

وقدمت “مدرسة العالم الثالث” بديلاً يرتكز على تقصي مهددات ما دون الدولة (intra-state) كمحاور أساسية في التحليل الأمني، وذلك على اعتبار أن جذور عدم الاستقرار في العالم الثالث هي داخلية في الأساس، وأنها تأتي نتيجة هشاشة الدول التي تأسست في حقبة التحرر من الاستعمار، وأنه من غير الممكن تحقيق الأمن عبر الاقتصار على المعالجة العسكرية أو تعزيز مركزية الدولة، وإنما من خلال معالجة التشوهات التي طرأت في حقبة التأسيس.

وكخطوة أولى لمعالجة الهشاشة الإقليمية؛ ابتكر أيوب آلية لتقييم عوامل الضعف في الدول النامية، تقوم على النقاط التالية:

  • مهددات ما دون الدولة: فالخطر على أمن الدول النامية يأتي من عوامل داخلية أكثر من العوامل الخارجية، نتيجة المهددات الثقافية والإيديولوجية والدينية والإثنية والسياسية.
  • ضعف النخب الحاكمة: وعدم قدرتها على تشييد أركان الدولة القومية، وفشلها في تشكيل سلطة سياسية ناضجة، وعجزها عن صياغة رؤية أمنية شاملة.
  • عسكرة نظام الحكم: الذي غالباً ما يأخذ السمة الاستبدادية، والتي قد تبدو قوية ومتماسكة وصارمة في الظاهر، لكنها تعاني من أعراض الضعف الاقتصادي والسياسي والأمني، نتيجة تردي القطاع المدني وتضييق دائرة المشاركة السياسية.
  • الدور الاستعماري: حيث خضعت العديد من الدول النامية لنظم الانتداب والوصاية الأوروبية في حقبة ما بين الحربين العالميتين، ولم تبذل السلطات الاستعمارية جهوداً كافية لإنشاء كيانات سياسية قادرة على الاستمرار، بل رسمت حدود تلك الدول وفق مصالحها، وأمعنت في دعم الحركات العسكرية الانقلابية عقب الاستقلال للتأكد من بقاء تلك الدول في فلكها خلال الحرب الباردة.
  • العنصر التاريخي: المتمثل في عدم وجود إرث نُظُمي في الإقليم، وخاصة في المنطقة العربية التي خضعت للحكم العثماني زهاء 400 سنة، وذلك بالمقارنة مع التشكل التدريجي والبطيء في أوروبا منذ مرحلة “النهضة” و”التنوير”، إلى الثورات الفرنسية والصناعية، إلى الحد من سلطات الملكية، إلى التمثيل الشعبي، حتى وصلت إلى ما هي عليه، وهو أمر يتعذر تحقيقه في الدول النامية خلال فترة قصيرة.
  • انعدام التجانس المجتمعي: المتمثل في تهميش العديد من الفئات المجتمعية وممارسة التمييز ضدها، الأمر الذي يدفعها لتشكيل حركات انفصالية، وشن الصراعات المسلحة، أو الانضمام لتيارات سياسية تطالب بالحكم الذاتي.
  • التدهور الاقتصادي: المتمثل في فشل النخب الاستبدادية في تحقيق الرفاهية، وعدم مراعاة العدالة في توزيع الثروات، وتفشي البطالة والفساد والفقر والتضخم وغيرها من مظاهر التردي الاقتصادي.
  • التشوهات الجيوسياسية: المتمثلة في ترسيم حدود الدول النامية وفق تفاهمات تراعي مصالح الدول الاستعمارية وتقسيم مناطق النفوذ بينها، وما نتج عن ذلك من صراعات بين الدول، وخاصة منها تلك الدول التي حُرمت من الموارد الطبيعية.
  • ضعف الممارسة الأمنية: المتمثل في عدم قدرة السلطة على معالجة مشاكلها الأمنية محلياً، ولجوئها إلى ممارسات القمع والكبت بدلاً من معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ما أدى إلى تأجيج الاحتجاجات الشعبية وتسبب بتوتر في العلاقة بين السلطة والمجتمع.  
  • التدخلات الخارجية: المتمثلة في سعي قوى خارجية إلى تعزيز نفوذها من خلال تسليح بعض الجماعات، ودعم الحركات الانقلابية، وتعزيز الأدوار السلبية للميلشيات المسلحة التي تعمل على إضعاف الحكم المركزي.
  • نمط العلاقة بين دول الإقليم: والتي عادة ما تنحو باتجاه الاستقطاب السلبي في الدول النامية، ونزوع البعض لعسكرة الخلافات، وتأجيج الصراعات البينية ودعم حركات التمرد.

وفي تعليقه على التدخل الخارجي في الأزمات الوطنية؛ رأى بينجامين ميللر، أن مهددات أمن الدول النامية تأتي نتيجة عوامل محلية، بينما يقتصر التدخل الخارجي على محاولات الاستفادة منها ومحاولة ترجيح الميزان العسكري لصالح الأطراف الموالية لها. وتكمن المشكلة في أن التدخل الخارجي لا يأتي في الغالب لأغراض تنموية وإنسانية، وإنما في عسكرة الصراعات وإذكائها.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021