شكلت معضلة تحديد الهوية السياسية للدول الناشئة التحدي الأكبر بالنسبة للشعوب العربية في مطلع القرن العشرين؛ حيث أسس الهاشميون مملكة في سوريا (1918-1920)، ومن ثم في العراق (1921-1958) والأردن (1921)، وتبنوا القومية كإيديولوجية يمكن أن تضم سائر الجماهير العربية، متخذين من النمط الغربي أساساً لبناء الدولة العلمانية الحديثة، على أساس: “الدين لله والوطن للجميع”.
إلا أن الفكر القومي لم يكن كفيلاً بتقديم هوية سياسية بديلة للكيانات المنعتقة من الحكم العثماني، فبينما كانت الأعراق والقوميات هي أساس نشوء دول أوروبا الحديثة: كانت الدول الشرقية تتميز بتعدد القوميات والأديان، وسرعان ما تبين خطأ افتراض أن القومية العلمانية ستلغي الفروقات الدينية والمذهبية، إذ إن رفع شعار توحيد جميع المواطنين على أساس اللغة والعرق واجه اعتراضاً كبيراً، ليس من التيار السني الواسع فحسب، وإنما من أبناء الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، الذين وجدوا بأن مشروع الوحدة العربية سيخلق كيانات سياسية لا تحترم خصوصياتهم، في مقابل تبني الدولة العثمانية نظام “الملة” الذي منحهم قضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة.
وفي الفترة الممتدة ما بين الحربين؛ عمدت السلطات الانتدابية إلى تقسيم المنطقة وترسيم الحدود فيما بينها وفق ما يحقق مصالحها، وبينما تظاهرت بريطانيا بدعم الهاشميين، كانت تعمل مع فرنسا على وأد المشروع القومي من خلال تقسيم المشرق العربي إلى كانتونات طائفية.
ولدى إعلان استقلال كل من العراق وسوريا ولبنان والأردن؛ وجد القوميون أنفسهم في مأزق كبير، حيث أصبح من المتعين عليهم صيانة الكيانات المجتزأة التي كافحوا لمنع قيامها طوال فترة الانتداب، وكانت غالبية الأحزاب العربية التي نشأت في تلك الفترة غير مؤمنة بإمكانية استمرار الدول القُطرية ضمن الحدود التي رسمها الانتداب.
وفي تعليقه على المشاكل التي شابت عملية التأسيس الجمهوري؛ رأى إيلي خضوري أن محاولة المنظرين القوميين فرض مصطلحات حديثة مثل: “الأقلية”، و”الأكثرية”، و”القومية”، و”سيادة الشعب”، في أنظمة الحكم العربية الناشئة بغية تحقيق الاستقرار والتوازن السياسي، لم تحقق نجاحاً في البيئة الشرقية التي كونت تجربة أخرى تعتمد على منظومة إدارية مغايرة، تقوم على “الشورى”، و”الإجماع”، ونظام “الملة”، وغيرها من المفاهيم التي شكلت في مجملها نظاماً تعددياً يختلف تماماً عن النمط الغربي.
وأدى إقحام تلك المفاهيم بصورة سطحية في نُظُم الحكم إلى إحداث اختلال مجتمعي، خصوصاً عند الأقليات، فحديث المنظرين القوميين عن: “القواسم المشتركة” لدى غالبية أبناء المجتمع كان يعني بالمقابل وجود “خصوصيات” لا بد من حمايتها عند أبناء الطوائف، مما دعم مطالبهم بالاستقلال.
وأدى الحديث عن وجود “أكثرية” تطالب بالحكم إلى افتراض وجود “أقلية” مضطهدة تطالب بتدخل القوى الكبرى لحمايتها، كما أن فكرة “الاحتكام إلى الشعب” في تلك المرحلة كانت تعني بالضرورة تسليم السلطة التشريعية إلى الغالبية العربية السنية، ما أثار سخط أبناء الأقليات من عدم اعتراف النظام العلماني لهم بأية ميزة عن سائر المواطنين.
ولذلك فإن الفكر القومي لم يتمكن من تقديم بديل ناضج، إذ إن تبني السياسة العلمانية كان سلاحاً ذو حدين، فبينما اعتبرها القوميون وسيلة لتوحيد المجتمع على أساس العرق واللغة، نظر أبناء الطوائف إليها كمحاولة لتذويبهم في المجتمع.
وظهرت المفارقة بين: التنوع النظمي العريق القائم على مفهوم العالمية (cosmopolitan) الذي تمتعت به المنطقة العربية عبر التاريخ، وبين قيام الدولة القومية التي مثلت انتكاسة للبعد التعددي المنفتح نحو مختلف المذاهب والطوائف والأديان.
وسرعان ما غرقت الجمهوريات العربية في دوامة الانقلابات العسكرية، بخلاف الملكيات العربية التي ظهر معظمها في القرن الثامن عشر.
| الجمهورية | سنة التأسيس/الاستقلال |
1 | الجمهورية اللبنانية | 1943 |
2 | الجمهورية العربية السورية | 1946 |
3 | الجمهورية المصرية | 1953 |
4 | جمهورية السودان | 1956 |
5 | الجمهورية التونسية | 1957 |
6 | الجمهورية العراقية | 1958 |
7 | الجمهورية الإسلامية الموريتانية | 1960 |
8 | الجمهورية العربية اليمنية | 1962 |
9 | الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية | 1962 |
10 | جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية | 1967 |
11 | الجمهورية العربية الليبية | 1969 |
12 | الجمهورية الصومالية الديمقراطية | 1969 |
13 | جمهورية جزر القمر | 1975 |
14 | جمهورية جيبوتي | 1977 |
تشكل الجمهوريات العربية
ويمكن ملاحظة تركز معظم بؤر التوتر عقب انتهاء الحرب الباردة في المنطقة العربية، وخاصة منها ما يتعلق بمهددات معابر الملاحة والتجارة، وأمن الطاقة، والصراع العربي-الإسرائيلي، وحروب الخليج الثلاثة، والتدخل السوفيتي في أفغانستان، ومشروع التوسع الفارسي عقب الثورة الإيرانية (1979)، وظهور جماعات التطرف والغلو، وما نتج عن أحداث 11 سبتمبر 2001 من تدويل للصراع.
ونتيجة للدعم الخارجي الذي تلقته العديد من الجماعات الإثنية والطائفية، فقد تنامت أدوار القوى غير التابعة للدول (non state actors)، بحيث أصبحت المعادلة الإقليمية عصية على المعالجة التقليدية، بعد أن انخرطت جيوش الدول الكبرى مباشرة في الصراع.
وبحلول عام 2011 (أي في غضون 65 سنة من تشكل أول كيان جمهوري عربي)، انهارت منظومة الجمهوريات العربية على وقع الاحتجاجات الشعبية، وتحولت معظمها إلى دول فاشلة.