المناهج الكلاسيكية في التحليل الأمني

اعتمد البحث الأمني في مراحله المبكرة على المناهج الاستنباطية المثالية التي تنطلق من أفكار ومبادئ عامة تستند إلى المنطق، أو إلى رؤى مثالية ذات طابع ديني أو فلسفي، تحاول فهم الواقع، وتمثل أطروحات أفلاطون المثالية بواكير تلك المحاولات، حيث فضل “حكومة الفلاسفة” على كل أشكال الحكومات، معتبراً أن الأولوية هي للعقل على المادة، لأن العقل يمتلك القدرة على كشف الحقيقة.

ومثّل المنهاج القياسي مصدراً مهماً في عملية الاستنباط من خلال قياس سياسات في الدول، وربطها بمعايير مختلفة، مثل: “العدالة”، و”الفضيلة”، و”المكر”، و”الخداع”، التي تبدأ بالفرد وتنتهي بالدولة، من خلال عملية حكم ذهني ومنطقي، تتخذ من العقل أداة رئيسة للمفاضلة.

كما ارتكزت المناهج الفلسفية على دراسة الواقع ضمن دائرة “ما هو كائن”، وصولاً إلى: “ما يجب أن يكون” من قيم مثالية يمكن الاستعانة بها لتقييم الحالات السياسية وتطوير ما هو قائم منها.

واهتمت بالظواهر السائدة لدى المجتمعات كعلاقات: “السيطرة”، و”الأمر”، و”الطاعة”، و”العادات والتقاليد”، وبأنماط السلوك في الجماعات المهنية والقبلية والدينية واللغوية، وعمدت إلى إعمالها ضمن المناهج التحليلية التي وضعتها ضمن أطر عامة تحكمها، وتجعلها قابلة للاستنباط والتطبيق، ويمكن تفصيل أهم المناهج الكلاسيكية فيما يأتي:

حوار بين تيمورلنك وابن خلدون

كان تيمورلنك يُؤْمِن أنه ما دام يُوجد في السماء إلهٌ واحد، فيجب أن يُوجد في الأرض ملكٌ واحد؛ ولذلك فإنه كان يحلم بالسيطرة على العالم!

ولتحقيق حلمه جهز جيشاً ضخماً، غزا به خوارزم وأخضعها، وبسط سيطرته على: أفغانستان، ومازندران، ثم أغار على أصفهان فقتل فيها سبعين ألفاً، واحتل بعدها دلهي بالهند.

وفي الفترة 1399-1405 اكتسحت قوات تيمورلنك أقاليم: “قراباغ”، و”تفليس” بالقوقاز، ثم تقدم نحو “سيواس” بالأناضول، فقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، وحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمهم بالتراب، ثم وضع السيف في أهل البلد ودمرها حتى محا رسومها، وسار بعد ذلك إلى “عينتاب”  فاحتلها، وبعدها إلى “حلب”، فأخذها عنوة، وقتل بها نحو عشرين ألفاً، وأخضع بعدها “حماة” و”السلمية”، واتجه إلى “دمشق”، التي حاصرها في شهر ربيع الأول 803هـ/1400م، فاضطر حاكمها المملوكي، زين الدين فرج، للفرار، تاركاً المدينة تحت رحمة المغول.

وعلى وقع تلك الأحداث الجسيمة؛ اجتمع قضاة دمشق وفقهاؤها في مدرسة “العادلية” لمناقشة كيفية طلب الأمان من تيمورلنك مقابل تسليم المدينة، وكان بينهم المؤرخ الشهير ابن خلدون، الذي اتفق معهم على إرسال وفد للتفاوض مع قائد المغول، لكن قائد القلعة رفض ذلك، ومنعهم من الخروج.

ونظراً للدمار الذي حل بحلب، فقد أصر أهل دمشق على التفاوض لتأمين مدينتهم، وتم ترتيب خروج القاضي برهان الدين، سراً، ومعه عدد من المشايخ الذين: “تدندلوا عبر السور” وقابلوا تيمورلنك، وحصلوا على عهد منه بالأمان.

ووفقاً لابن خلدون فإن تيمورلنك وجه دعوة خاصة له، عبر القاضي برهان الدين، الذي أكد لابن خلدون أن تيمورلنك: “سأل عني وهل سافرت مع عساكر مصر أم أقمت في المدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه”.

وعلى شاكلة القاضي برهان الدين؛ خرج ابن خلدون خفية من دمشق وقابل تيمورلنك، وذكر تفاصيل اللقاء بقوله: “فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هناك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني ودخلت عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، وكانت صحاف الطعام تمر بين يديه… فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوحيت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومد يده فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا”.

ثم سأل تيمورلنك ابن خلدون عن ابنه، فأجابه: “إن ولدي في المغرب الجوّاني يخدم ككاتب للملك الأعظم هنالك”.

فسأله تيمورلنك: “وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟”

فأجابه: “هو في عرف خطابهم معناه الداخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب إلى هنا برقة وإفريقيا والمغرب الأوسط وتلمسان وبلاد زناته، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى الجوّاني”.

فسأله تيمورلنك: “وأين مكان طنجة في ذلك المغرب؟”

فأجابه ابن خلدون: “في الزاوية التي بين المحيط والخليج المسمى بالزقاق وهو خليج البحر الشامي”.

فسأل تيمورلنك: “وسبته؟”

فأجابه ابن خلدون: “على مسافة من طنجة”.

وعلى الرغم من قساوة الظروف واحتدام المعارك على أسوار دمشق، إلا أن حديث ابن خلدون عن جغرافية المغرب العربي لفتت انتباه تيمورلنك، فطلب منه أن يكتب له كتاباً يصف فيه: “بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها وجبالها وأنهارها وقراها وأمصارها حتى كأني أشاهدها، فقلت يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس.. في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشر من الكراريس”. ولما انتهى ابن خلدون من الكتاب الذي طلبه تيمورلنك: “أخذه من يدي وأمر موقعه بترجمته إلى لسان المغول”.

ثم انتقل الحديث لموضوع آخر بطلب من ابن خلدون، الذي أثار موضوع العصبية التركية، قائلاً: “إن المُلك إنما يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون المُلك وقدره، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون مُلك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع ملكهم خراسان من أيديهم شاهد من الملك، ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى أو قيصر أو الإسكندر أو بختنصر. أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم، وأين الفرس من الترك؟ وأما القيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؟ وأما بختنصر فكبير أهل بابل والنبط، وأين هؤلاء من الترك، وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك”.

كان ابن خلدون واعياً لمسألة كانت تشغل بال تيمورلنك (الذي كان من أصل تركي-مغولي)، وهي الصراع الدائر على زعامة العرق التركي، فعندما وصلت قوات تيمورلنك إلى “سيواس” و”قيصرية”، وسط الأناضول، خاطب حاكمها القاضي برهان الدين أحمد كلاً من السلطان العثماني بايزيد الأول في بورصة، والسلطان برقوق في القاهرة (وجميعهم من أصول تركية) يطلب منهما النجدة لمساعدته، فوافق بايزيد على إمداده بمساعدة عسكرية عاجلة، وكذلك فعل برقوق، ما أثار تيمورلنك الذي كان ينازع حكام الدولتين العثمانية والمملوكية على زعامة العالم التركي، فألجأهما ذلك إلى تعزيز قواتهما بفرق تركمانية من إمارة “الشاة السوداء” شمال العراق، والتي كانت موالية للمماليك حينذاك.

وتؤكد المراسلات الدائرة بين بايزيد الأول والمماليك لإنشاء جبهة ضد تيمورلنك، أن هنالك نزاع على قيادة العالم التركي، بعد أن تم كسر شوكة العرب والفرس، وهذا ما أراد ابن خلدون توضيحه لتيمورلنك، حيث رفع من شأن الترك، وحط من قدر الروم والفرس في مواجهتهم.

وعلى الرغم من الجهود التي بذلها ابن خلدون إلا أن مناورته باءت بالفشل؛ إذ اكتسح تيمورلنك دمشق بعد أيام من لقائهما، وقتل الآلاف من سكانها، ما دفع بابن خلدون للعودة إلى مصر، وتوفي بها في 28 رمضان 808ه/19 مارس 1406م.

وتقدم رواية ابن خلدون تفاصيل مهمة حول الصراع الذي كان قائماً بين قادة العالم التركي للسيطرة على المنطقة، والأهمية التي أولوها للجغرافيا والاجتماع، وتوظيفهما في الإستراتيجيات العسكرية وحيازة القوة وكسب الحروب.

المنهاج التاريخي

ونظراً لاهتمام ابن خلدون بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية في السردية التاريخية؛ فقد تم تصنيفه كأحد أبرز أقطاب المدرسة التاريخية، حيث تميز بربط التطور التاريخي للدول بعلم الاجتماع، أو ما بات يعرف فيما بعد باسم “علم الاجتماع التاريخي”، والذي يهتم بالطرق التي تتطور بها المجتمعات عبر التاريخ، وتحليل المؤسسات التي تنتظم المجتمعات البشرية فيها.

ويتميز المنهاج التاريخي بنظرته المعاكسة للنظرية الواقعية، التي تعتبر الدولة محور الظاهرة السياسية، حيث يركز على سلوك المجتمعات، ويحاول إيجاد أنماط بديلة، عبر دراسة التفاعلات بين القوى الداخلية والخارجية، على اعتبار أنه لا يمكن فهم وإدراك الظواهر السياسية إلا من خلال العودة إلى جذورها التاريخية، واستخراج الأفكار واستخدامها بشكل صحيح.

ويعتبر المنهاج التاريخي من أكثر مناهج التحليل شيوعاً ضمن المدارس الكلاسيكية، وذلك لأن الأمن الدولي المعاصر يستند إلى جذور وامتدادات تاريخية، ما يجعل التعمق في فهم الظروف والمؤثرات التاريخية أمراً ضرورياً للقيام بالمهام التالية:

1- استيعاب الملابسات التي تحيط بالحدث في صورته المعاصرة.

2- تحري الأسباب التي تكمن خلف نجاح أو فشل السياسات السابقة.

3- استخلاص المغزى والدلالات العامة لأنماط السلوك الدولي.

4- معرفة الاتجاهات التي يسلكها تطور العلاقات السياسية بين الدول وانتقالها من نظام لآخر.

5- فهم الكيفية التي يتم بها اتخاذ القرارات في السياسات الدولية، والنتائج التي تتبلور عنها في إطارها التاريخي، وذلك على اعتبار أن المسرح التاريخي يمثل معملاً للتجارب واختبار التفاعلات الأمنية، واستشراف النتائج التي يمكن أن تقع. وأبرز ما يميز هذا المنهاج:

1

توفير أمثلة تطبيقية للممارسة السياسية وقياس مدى النجاح أو الفشل في هذه السياسات.

2

استيعاب تطور السياسة الدولية من خلال تتبع تسلسل الأحداث ومآلاتها.

3

فهم أسباب ودوافع ونتائج السياسات الدولية ضمن الإطار التاريخي.

مميزات المنهاج التاريخي

إلا أن أتباع هذا المنهاج لم يسلموا من النقد، الذي وجه بصورة أساسية إلى محاولاتهم وضع قواعد للسلوك السياسي المعاصر من خلال أحداث وقعت في السابق، ولا يمكن أن تتكرر بنفس الصورة مرة أخرى، إذ إن لكل عصر خصائص وأنماطاً مختلفة من التفاعلات، ومن غير الممكن فهم سلوك الدول المعاصرة من خلال البناء على أحداث سابقة وقعت في ظروف مختلفة كلياً.

ويمكن اختصار أبرز الملاحظات على المنهاج التاريخي فيما يلي:

  • عدم صحة الارتكاز على الحدث التاريخي لاستقراء الواقع، إذ إن لكل حدث ظروفه المستقلة التي لا يمكن القياس معها بصورة مطلقة.
  • الاعتماد على المصنفات التاريخية التي تفتقر في الغالب إلى الحياد والإنصاف، خاصة وأن معظم المؤرخين ينزعون إلى تفضيل جهة على أخرى أو اتباع مسلك سياسي دون غيره.
  • افتراض تكرار أحداث الماضي في المستقبل (فرضية العودة التاريخية)، دون الأخذ في الاعتبار أن أحداث التاريخ تقع بصور غير قابلة للتوقع أو الافتراض.

وعلى الرغم من تلك الانتقادات؛ إلا أن الدراسات الحديثة لا تزال تستعين بالتجارب التاريخية لاستخلاص الدروس، ولا يزال المنهاج التاريخي أحد أهم مصادر فهم السياسة الدولية، لكنه لا يرقى إلى مستوى تقديم نظرية متكاملة في هذا المجال.

المنهاج المثالي

يستند المنهاج المثالي إلى تصورات تُطرح استناداً إلى: العقل، والمنطق، والروح، بحثاً عن الأفضل والأمثل، ويعتبر الفيلسوف اليوناني أفلاطون الأب الروحي لهذه المدرسة التي أعطت الأولوية للعقل، وفضلت حكومة الفلاسفة على كل أشكال الحكومات، ويبحث هذه المنهاج عن سبل الوصول إلى “المدينة الفاضلة” (يطلق عليها كذلك اسم الطوباوية “Utopianism”) التي يسود فيها الأمن والسلام والاستقرار بين البشر.

وتقوم المدرسة المثالية على تأملات فلسفية في مجال السياسة الفاضلة، حيث تقدم مقاربة للعلاقات الدولية تشدد على أهمية القيم الأخلاقية والمعايير التي تهدف إلى تحقيق انسجام في المصالح بين مختلف القوى الفاعلة، ولذلك فإنها تبحث فيما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية، وليس في تحليل واستقراء واقعها الحالي، وتقوم على أساس معرفة “كيف يجب؟” أن يتصرف السياسيون في العلاقات الدولية، لا على أساس “كيف يتصرف هؤلاء فعلاً؟”.

وتُعرّف المثالية بأنها توجه فلسفي مقابل للمادية، وتعد فلسفة هيغل أكثر النماذج شيوعاً وتأثيراً، حيث تنطلق من أولوية الروح أو أولوية الوعي، وتقوم على تعالي القيم والمُثُل في الحياة العملية، بينما تنظر إلى المادة على أنها أمر ثانوي.

وجاءت الأطروحات “المثالية” في السياسة الدولية كرد فعل على الفظائع التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الأولى، وما خلفته من آثار مروعة نتيجة اتخاذ القوى الكبرى السياسة الدولية مسرحاً لأنانيتها المفرطة، ونزوعها إلى استخدام القوة الفتاكة في نزاعاتها بدل اللجوء إلى الدبلوماسية والحوار.

وترتكز “المثالية” على مفهوم الخيرية في الطبيعة البشرية، وبالتالي ترى أن طابع التعاون هو الذي يهيمن على البشر وليس التنافس والصراع، مفترضة أن اهتمام البشر ينصب في تطوير الحضارة الإنسانية، وتحقيق الأمن والرفاهية، وليس في التنازع والاقتتال.

وتعتبر أن الأوضاع السيئة التي يعيشها العالم هي نتاج البيئة السلبية، فيما تصنف السلوك الشرير لبعض الأفراد أو الدول على أنه نتاج السياسات الخاطئة للمؤسسات وبناها الهيكلية المشوهة التي تدفع بالأفراد إلى ارتكاب الحماقات وتؤدي إلى اندلاع الحروب واحتدام المنازعات.

وتنظر المدرسة المثالية إلى الأديان على أنها الوعاء الذي يُشكّل منظومات قيمية متكاملة من الأخلاق والواجبات والحقوق، وتصنف الأفعال السياسية للدول بناء عليها، وتعتبر الحرب الهجومية جريمة إنسانية تستحق الإدانة والشجب.

وبناء على ذلك فإن المدرسة المثالية تتعامل مع القضايا الدولية من خلال ثلاثة معايير رئيسة، هي:

  • تغليب الأخلاقيات والمُثُل.
  • افتراض الخيرية في الطبيعة البشرية.
  • الاتجاه نحو العالمية عبر المؤسسات الدولية كعصبة الأمم والأمم المتحدة، والمحافظة على الأمن والسلم الدوليين عبر الأدوات القانونية المتمثلة في القضاء والتحكيم الدوليين والوساطة والتفاوض، ونزع السلاح.

ونظراً لاعتمادها المفرط على العنصر الافتراضي، وعجزها عن تفسير الأحداث التي طرأت في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد تعرضت المدرسة المثالية لانتقادات كثيرين ممن اعتبروها منغمسة في الأماني الخيالية على حساب التحليـل التجريبي، خاصة وأن أتباع المدرسة المثالية قد ركزوا على الأخلاق، وفشلوا في قراءة سلوك الدول من منظور القوة والمصلحة.

وتكمن المشكلة الأبرز في افتراض المدرسة المثالية إمكانية اتباع المجتمع الدولي مجموعة مبادئ أخلاقية، بديلاً عن استخدام القوة، وهو أمر يستحيل تطبيقه على أرض الواقع، خاصة وأن أقطابها لم يقدموا منهجاً واضحاً لفهم وتحديد الدوافع التي تحرك السلوك العدواني لدى الدول.

المنهاج القانوني

يعمد هذا المنهاج إلى استقراء الأبعاد القانونية الناظمة للعلاقات بين الدول، بما في ذلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية وكيفية إعدادها، والسلطة الدستورية التي تملك حق التوقيع عليها، والإجراءات التي يتم بموجبها تسجيل هذه الاتفاقيات وإعلانها في المجتمع الدولي، وتحليل مدى التزام الأطراف بها.

كما يهتم بتحليل عنصر المسؤولية الدولية في تصرفات الدول، والتمييز بين ما هو شرعي وما هو غير شرعي من وجهة نظر القانون في النزاعات الدولية، وتحديد آليات تسويتها وفق الدبلوماسية والقانون، ويهتم أتباع هذا المنهاج بتحليل الكيفية التي تتكون بها المنظمات الدولية والإقليمية، والوظائف التي تقوم بها، والإجراءات التي تحكم عملها، وكيفية الانضمام إليها وكسب عضويتها.

كما يعمدون إلى التكييف القانوني لأنظمة الحكم والتمييز بين “القانوني” (القائم وفق القانون)، “والواقعي” (الذي يفرضه الواقع ولو كان غير قانوني)، ويهتمون بالأبعاد القانونية لموضوع الحرب عبر وضع معايير يمكن الاحتكام إليها، وتحليل الآثار القانونية المترتبة عليها كالضم، والإلحاق، والاحتلال، والحقوق والواجبات بالنسبة لمختلف الأطراف المتحاربة.

ويُشكّل هذا المنهاج أهمية كبيرة في تسوية النزاعات الدولية بالطرق القانونية والدبلوماسية، وتحليل أهم الطرق والإجراءات المستخدمة في هذا الصدد، كالوساطة، وتقصي الحقائق، والتحكيم، والتوفيق، والتسويات القضائية.

واكتسب هذا المنهاج أهمية بالغة في مطلع القرن العشرين، خاصة في الولايات المتحدة حيث دفع انشغال الدبلوماسية الأمريكية بالحروب والصراعات القائمة في آسيا وأوروبا إلى تحليل أنماط العلاقات من منظور قانوني، ومحاولة نظمها في أُطُر دولية عبر صياغة المعاهدات والاتفاقيات وفق مبادئ القانون الدولي، الذي اعتبر بأنه الوسيلة الأمثل لحل المنازعات الدولية، وأن إحلال السلام والاستقرار لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إنشاء مؤسسات دولية تعمل ضمن إطار القانون الدولي، بهدف منع الحروب، أو تحجيمها. وشكّل ظهور عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، دفعة قوية لتلك المدرسة، حيث نشأت مراكز ومعاهد متخصصة بدراسة القانون الدولي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أن ظهور النازية والفاشية بين الحربين العالميتين، وسعيهما لفرض سياساتهما بالقوة، قد أبرز أوجه قصور المنهاج القانوني، وجاءت الحرب الباردة، وما تزامن معها من سباق تسلح، كضربة ثانية للمنهاج الذي بقي على جموده، ولم يتمكن من مواكبة التحولات الدولية واستيعاب العوامل الأكثر تأثيراً في العلاقات بين الدول، والتي لا تمت إلى القانون بصلة، بما في ذلك: موازين القوى، والعوامل الإيديولوجية، والتحولات الاقتصادية. ولذلك فإنه لا يمكن الاقتصار على المنهاج القانوني كنظرية متكاملة في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، إلا إنه يوفر إرثاً مهماً للباحثين في الأبعاد القانونية للنزاعات الدولية وآليات التعامل معها من خلال المنظمات الأممية.

المنهاج الراديكالي

يقوم المنهاج الراديكالي على نظرية اجتماعية صاغها كارل ماركس، وطورها باحثون آخرون، وتفترض أن الصراع الطبقي بين المالكين والعمال سيسبب الاحتضار النهائي للرأسمالية، وتعتمد كافة أطروحاته على نقد الرأسمالية دون محاولة تقديم طرح شامل لفهم الظاهرة السياسية وآليات التعامل معها.

وعلى الرغم من قصورها في مسألة التنظير المستقل؛ إلا أن الراديكالية قدمت منظوراً ثورياً في العلاقات الدولية، معتمدة على جدليات ماركس، الذي ترك إرثاً كبيراً في تحليل تطور الرأسمالية، من خلال مفهومي: “التطور الاقتصادي” و”الصراع الطبقي”، معتبراً أن المصالح الخاصة نجحت في السيطرة على النظام الرأسمالي وعلى التبادل التجاري، وأفرزت أنماطاً من العبودية، ما أدى إلى صراع بين الطبقة الرأسمالية المسيطرة (البرجوازية) من جهة، وبين العمال المُسيطر عليهم (البروليتاريا) من جهة ثانية، ورأى ماركس أن مآل هذا الصراع هو ولادة النظام الاشتراكي الأمثل.

وتُركّز جدليات الراديكالية على المزج بين: التاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، لتحليل التشكل المجتمعي بناء على تطور أنماط الإنتاج، حيث تمنح الأولوية للاقتصاد في تفسير سائر الظواهر الأخرى، على اعتبار أن بنية النظام العالمي ذات طابع هرمي أفرزته الإمبريالية الأوروبية التي فرضت قيوداً على الشعوب الأخرى لزيادة اعتمادها على الغرب.

ورأى الراديكاليون أن الرأسمالية ستؤدي حتماً إلى المزيد من الكوارث والأزمات على صعيد الأمن الدولي، وألقوا باللائمة على الشركات متعددة الجنسيات وعلى المصارف الدولية، في تعزيز تبعية الدول النامية للدول المتقدمة، معتبرين أنها عوامل اختراق استحدثتها الرأسمالية لتعزيز تفوقها بدلاً من إنشاء علاقة تكافلية بين الدول.

اللاعبون الرئيسيون

الطبقات الاجتماعية، الشركات متعددة الجنسيات، النخب العابرة للدول

الفرد

يتحرك وفق السلوك العام للطبقات

الدولة

أداة بيد البرجوازية، جزء من البنية الرأسمالية

النظام الدولي

منقسم إلى طبقات، تهيمن عليه الرأسمالية الدولية

التغيير

التغيير الثوري مطلوب

أبرز المفكرين

كارل ماركس، فلاديمير لينين، جون هوبسون

أبرز مبادئ الراديكالية

علماً بأن العديد من الأوساط العلمية ترفض تصنيف الراديكالية على أنها إحدى نظريات العلاقات الدولية، إذ إنها لا تملك تفسيراً لقيام علاقات تعاون بين الدول الرأسمالية والاشتراكية، ولا تمتلك القدرة على تفسير نجاح بعض الدول النامية في التحرر من ربقة الرأسمالية، خارج النسق الاشتراكي.

وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للراديكالية، إلا أنها لا تزال تمتلك عناصر قوة تتمثل في: تركيزها على “الحتمية الاقتصادية”، وفي دفاعها عن مفهوم إحداث تغيير جذري في بنية النظام الدولي، واهتمامها بتفسير ظواهر العولمة الاقتصادية في مطلع الألفية الثالثة.

مناهج المحاكاة والاستنباط

وبالإضافة إلى المناهج الأربعة آنفة الذكر؛ اعتمدت الدراسات الأمنية الكلاسيكية على مناهج فلسفية أخرى، أبرزها:

  • “المنهاج القياسي”: الذي يقوم على قياس الحالات السياسية في الدول من خلال صورة الفرد، على اعتبار أن العدالة في الدولة هي صورة مكبرة للعدالة بالنسبة للفرد، ويُنسب إلى المفكر الهولندي هوغو غروتيوس، الذي طرح فكرة قياس معايير: “العدالة”، و”الفضيلة”، و”المكر”، و”الخداع”، بدءاً من الفرد باعتباره أداة قياس ذهني-منطقي، يتخذ من العقل أساساً للقياس والتفاضل، ومن ثم يعمد إلى تعميم الصفات الخيّرة لدى الأفراد على العلاقات الدولية عبر تغليب الطابع الخيّر والمثالي
  • “المنهاج السوسيولوجي”: الذي يرى أن المجتمع هو وعاء السياسة، ويعمد إلى تحليل الأحداث السياسية من منظور اجتماعي يأخذ بعين الاعتبار علاقات: “التفاعل”، و”الانسجام”، و”الصراع”، و”التكيف”، داخل المجتمعات، ويربطها بالظواهر الدولية، ويبحث في سلوك الجماعات على الصعد: المهنية، والقبلية، والدينية، واللغوية، كمكونات للظاهرة السياسية.
  • “المنهاج الاستقرائي”: الذي ينطلق من استقراء الواقع السياسي ودراسته على ضوء الحقائق القائمة فيه من أجل الحصول على نتائج علمية يمكن أن تشكل تعميمات فكرية سياسية يستفاد منها في تقويم الأداء وتصحيح الخطأ، وتشكيل نظريات سياسية وأفكار قابلة للتطبيق والدراسة، وينبثق عنه عدة مناهج، أبرزها “المنهاج الاختباري”، و”المنهاج العلمي التجريبي”، و”المنهاج السلوكي”.

ويمكن ملاحظة المحدودية التي عانت منها المناهج الكلاسيكية في إيجاد آليات لمحاكاة المناهج العلمية في العلوم الطبيعية، وعجزها عن إيجاد إطار تطبيقي لها، وخروج جميع نتائجها في إطار نسبي.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021