اعتمد البحث الأمني في مراحله المبكرة على المناهج الاستنباطية المثالية التي تنطلق من أفكار ومبادئ عامة تستند إلى المنطق، أو إلى رؤى مثالية ذات طابع ديني أو فلسفي، تحاول فهم الواقع، وتمثل أطروحات أفلاطون المثالية بواكير تلك المحاولات، حيث فضل “حكومة الفلاسفة” على كل أشكال الحكومات، معتبراً أن الأولوية هي للعقل على المادة، لأن العقل يمتلك القدرة على كشف الحقيقة.
ومثّل المنهاج القياسي مصدراً مهماً في عملية الاستنباط من خلال قياس سياسات في الدول، وربطها بمعايير مختلفة، مثل: “العدالة”، و”الفضيلة”، و”المكر”، و”الخداع”، التي تبدأ بالفرد وتنتهي بالدولة، من خلال عملية حكم ذهني ومنطقي، تتخذ من العقل أداة رئيسة للمفاضلة.
كما ارتكزت المناهج الفلسفية على دراسة الواقع ضمن دائرة “ما هو كائن”، وصولاً إلى: “ما يجب أن يكون” من قيم مثالية يمكن الاستعانة بها لتقييم الحالات السياسية وتطوير ما هو قائم منها.
واهتمت بالظواهر السائدة لدى المجتمعات كعلاقات: “السيطرة”، و”الأمر”، و”الطاعة”، و”العادات والتقاليد”، وبأنماط السلوك في الجماعات المهنية والقبلية والدينية واللغوية، وعمدت إلى إعمالها ضمن المناهج التحليلية التي وضعتها ضمن أطر عامة تحكمها، وتجعلها قابلة للاستنباط والتطبيق، ويمكن تفصيل أهم المناهج الكلاسيكية فيما يأتي:
حوار بين تيمورلنك وابن خلدون
كان تيمورلنك يُؤْمِن أنه ما دام يُوجد في السماء إلهٌ واحد، فيجب أن يُوجد في الأرض ملكٌ واحد؛ ولذلك فإنه كان يحلم بالسيطرة على العالم!
ولتحقيق حلمه جهز جيشاً ضخماً، غزا به خوارزم وأخضعها، وبسط سيطرته على: أفغانستان، ومازندران، ثم أغار على أصفهان فقتل فيها سبعين ألفاً، واحتل بعدها دلهي بالهند.
وفي الفترة 1399-1405 اكتسحت قوات تيمورلنك أقاليم: “قراباغ”، و”تفليس” بالقوقاز، ثم تقدم نحو “سيواس” بالأناضول، فقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، وحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمهم بالتراب، ثم وضع السيف في أهل البلد ودمرها حتى محا رسومها، وسار بعد ذلك إلى “عينتاب” فاحتلها، وبعدها إلى “حلب”، فأخذها عنوة، وقتل بها نحو عشرين ألفاً، وأخضع بعدها “حماة” و”السلمية”، واتجه إلى “دمشق”، التي حاصرها في شهر ربيع الأول 803هـ/1400م، فاضطر حاكمها المملوكي، زين الدين فرج، للفرار، تاركاً المدينة تحت رحمة المغول.
وعلى وقع تلك الأحداث الجسيمة؛ اجتمع قضاة دمشق وفقهاؤها في مدرسة “العادلية” لمناقشة كيفية طلب الأمان من تيمورلنك مقابل تسليم المدينة، وكان بينهم المؤرخ الشهير ابن خلدون، الذي اتفق معهم على إرسال وفد للتفاوض مع قائد المغول، لكن قائد القلعة رفض ذلك، ومنعهم من الخروج.
ونظراً للدمار الذي حل بحلب، فقد أصر أهل دمشق على التفاوض لتأمين مدينتهم، وتم ترتيب خروج القاضي برهان الدين، سراً، ومعه عدد من المشايخ الذين: “تدندلوا عبر السور” وقابلوا تيمورلنك، وحصلوا على عهد منه بالأمان.
ووفقاً لابن خلدون فإن تيمورلنك وجه دعوة خاصة له، عبر القاضي برهان الدين، الذي أكد لابن خلدون أن تيمورلنك: “سأل عني وهل سافرت مع عساكر مصر أم أقمت في المدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه”.
وعلى شاكلة القاضي برهان الدين؛ خرج ابن خلدون خفية من دمشق وقابل تيمورلنك، وذكر تفاصيل اللقاء بقوله: “فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هناك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني ودخلت عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، وكانت صحاف الطعام تمر بين يديه… فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوحيت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومد يده فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا”.
ثم سأل تيمورلنك ابن خلدون عن ابنه، فأجابه: “إن ولدي في المغرب الجوّاني يخدم ككاتب للملك الأعظم هنالك”.
فسأله تيمورلنك: “وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟”
فأجابه: “هو في عرف خطابهم معناه الداخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب إلى هنا برقة وإفريقيا والمغرب الأوسط وتلمسان وبلاد زناته، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى الجوّاني”.
فسأله تيمورلنك: “وأين مكان طنجة في ذلك المغرب؟”
فأجابه ابن خلدون: “في الزاوية التي بين المحيط والخليج المسمى بالزقاق وهو خليج البحر الشامي”.
فسأل تيمورلنك: “وسبته؟”
فأجابه ابن خلدون: “على مسافة من طنجة”.
وعلى الرغم من قساوة الظروف واحتدام المعارك على أسوار دمشق، إلا أن حديث ابن خلدون عن جغرافية المغرب العربي لفتت انتباه تيمورلنك، فطلب منه أن يكتب له كتاباً يصف فيه: “بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها وجبالها وأنهارها وقراها وأمصارها حتى كأني أشاهدها، فقلت يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس.. في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشر من الكراريس”. ولما انتهى ابن خلدون من الكتاب الذي طلبه تيمورلنك: “أخذه من يدي وأمر موقعه بترجمته إلى لسان المغول”.
ثم انتقل الحديث لموضوع آخر بطلب من ابن خلدون، الذي أثار موضوع العصبية التركية، قائلاً: “إن المُلك إنما يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون المُلك وقدره، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون مُلك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع ملكهم خراسان من أيديهم شاهد من الملك، ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى أو قيصر أو الإسكندر أو بختنصر. أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم، وأين الفرس من الترك؟ وأما القيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؟ وأما بختنصر فكبير أهل بابل والنبط، وأين هؤلاء من الترك، وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك”.
كان ابن خلدون واعياً لمسألة كانت تشغل بال تيمورلنك (الذي كان من أصل تركي-مغولي)، وهي الصراع الدائر على زعامة العرق التركي، فعندما وصلت قوات تيمورلنك إلى “سيواس” و”قيصرية”، وسط الأناضول، خاطب حاكمها القاضي برهان الدين أحمد كلاً من السلطان العثماني بايزيد الأول في بورصة، والسلطان برقوق في القاهرة (وجميعهم من أصول تركية) يطلب منهما النجدة لمساعدته، فوافق بايزيد على إمداده بمساعدة عسكرية عاجلة، وكذلك فعل برقوق، ما أثار تيمورلنك الذي كان ينازع حكام الدولتين العثمانية والمملوكية على زعامة العالم التركي، فألجأهما ذلك إلى تعزيز قواتهما بفرق تركمانية من إمارة “الشاة السوداء” شمال العراق، والتي كانت موالية للمماليك حينذاك.
وتؤكد المراسلات الدائرة بين بايزيد الأول والمماليك لإنشاء جبهة ضد تيمورلنك، أن هنالك نزاع على قيادة العالم التركي، بعد أن تم كسر شوكة العرب والفرس، وهذا ما أراد ابن خلدون توضيحه لتيمورلنك، حيث رفع من شأن الترك، وحط من قدر الروم والفرس في مواجهتهم.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها ابن خلدون إلا أن مناورته باءت بالفشل؛ إذ اكتسح تيمورلنك دمشق بعد أيام من لقائهما، وقتل الآلاف من سكانها، ما دفع بابن خلدون للعودة إلى مصر، وتوفي بها في 28 رمضان 808ه/19 مارس 1406م.
وتقدم رواية ابن خلدون تفاصيل مهمة حول الصراع الذي كان قائماً بين قادة العالم التركي للسيطرة على المنطقة، والأهمية التي أولوها للجغرافيا والاجتماع، وتوظيفهما في الإستراتيجيات العسكرية وحيازة القوة وكسب الحروب.