المعضلة الأمنية العربية

إستراتيجية "الدمار الأكيد"

ظهرت في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية مجموعة من المنظرين العسكريين الذين دافعوا عن خوض حروب المستقبل باستخدام قوات عالية الميكنة، وشملت هذه المجموعة شخصيات بارزة، مثل: الباحث الإنجليزي ليدل هارت، والرئيس الفرنسي شارل ديجول، وغيرهم ممن اعتبروا أن الحرب هي قضية عسكرية فنية بالدرجة الأولى، وأن التقنية الحديثة هي العامل الأكثر حسماً في الصراعات المستقبلية.

ويعتبر الضابط البريطاني جون فوللر (ت 1966) من أبرز منظري “الحروب المدرعة”، إذ إنه نشر أكثر من 45 كتاباً في فنون الحرب، تناول فيها سبل تحقيق صدمات كبيرة في نفسية العدو من خلال الطائرات والمدرعات، واعتبر أن: “الأسلحة المناسبة تشكل نسبة 99 بالمئة من النصر، ولا تمثل الإستراتيجية والسيطرة والقيادة والشجاعة والانضباط والإمداد والتنظيم وغيرها من العناصر المعنوية والمادية للحرب شيئاً مقارنة بتفوق الأسلحة، وستمثل في أفضل تقدير نسبة الواحد بالمئة المتبقية”.

وتزامنت تلك الكتابات مع قيام عدد من الإستراتيجيين العسكريين ببحث إمكانية تطوير تقنيات يمكن أن تقلص من عبء الاحتكاك، وتساعد على إلحاق أكبر خسائر ممكنة بقوات العدو، وليس هزيمته فحسب، وتمتعت الولايات المتحدة ببيئة أكثر مواءمة للابتكار، حيث ساعد موقعها الإستراتيجي في تجنب التدخلات الأجنبية، وأتاح لها مجال تطوير أفكار جديدة للحرب ومغزاها، حيث ارتبطت فلسفة الحرب في أمريكا بنشر الديمقراطية، وظهرت فئة من الليبراليين الذين رأوا أن الحرب هي مجرد أداة ينبغي أن تستخدم في أمور أسمى من السعي للمحافظة على مصالح الدولة، وهي الحريات والمبادئ والقيم.

وتطلبت فكرة خدمة الحرب للمبادئ الأخلاقية اختباراً للأهداف الإستراتيجية، بحيث لم يعد النصر في ساحات الحروب هو الهدف الوحيد، بل يتعين شل العدو تماماً وتدمير قوته بالكامل، وبناء على ذلك فقد تبنى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت (1933-1945)، برنامجاً لتصنيع الأسلحة أطلق عليه اسم: “ترسانة الديمقراطية”، ويتمثل في تزويد الجيش الأمريكي وحلفائه بما يحتاجونه من أسلحة لتمكينهم من محاربة القوى الاستبدادية ونشر الديمقراطية.

ونظراً للاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة تخوض حروباً “عادلة” ضد قوى “الشر” المتمثل في: الفاشية، والنازية، والشيوعية، والإرهاب، والاستبداد؛ فقد منح الإستراتيجيون الأمريكيون أنفسهم حق تطوير أسلحة الدمار الشامل واستخدامها إن تطلب الأمر، ونتج عن ذلك قيامهم بصياغة إستراتيجية نووية أطلقوا عليها اسم: “الدمار الأكيد”، والتي مثلت تراجعاً عن نهج القوة المضادة، وعن التعهدات السابقة بتجنب استخدام المدن والمناطق الآهلة بالسكان.  

وتنسب تلك الإستراتيجية إلى وزير الدفاع روبيرت مكنمارا (1961-1968)، الذي أعلن أنه سيتم استهداف المدن السوفيتية إذا ما اندلعت حرب نووية، وأن الولايات المتحدة ستقوم بتدمير الاتحاد السوفيتي بصفته كياناً اقتصادياً، وليس عسكرياً فحسب.

وتضمنت تلك الإستراتيجية إلحاق أكبر دمار ممكن بصناعات الاتحاد السوفيتي، حيث رأى مكنمارا، أن الاحتفاظ بالقدرة على قتل ما بين 20 إلى 25 بالمئة من سكان الاتحاد السوفيتي، وتدمير نحو 50 بالمئة من صناعته، سيكون كافياً لردع هجوم نووي على الولايات المتحدة. وقدر ذلك بنحو 400 ميجاطن من القوة التدميرية التي يمكن توجيهها ضد السوفييت.

وبعد أن ترك مكنمارا منصبه عام 1968، تمت مراجعة إستراتيجية “الدمار الأكيد”، لكن القوات الأمريكية نفذت عمليات عسكرية تتضمن تدمير المدن، في العديد من حروبها خلال السنوات التالية.

عسكرة النزاعات

أما في العالم العربي؛ فقد مثّل اللجوء إلى القوة المدمرة ضد الخصوم أحد أبرز ملامح الفترة 1948-2010، ومثّل اللجوء إلى الحرب الوسيلة الأبرز في محاولات حسم النزاعات، ويُظهر الشكل أدناه الحروب التي خاضتها الدول العربية خلال تلك الفترة، والتي جعلت المنطقة من أكثر مناطق العالم توتراً.

م

الحرب

الفترة الزمنية

المستوى

1

الحرب مع إسرائيل

1948

إقليمي

2

حرب التحرير الجزائرية

1954-1962

إقليمي

3

الحرب الأهلية الأولى في السودان

1955-1972

محلي

4

العدوان الثلاثي على مصر

1956

دولي

5

التدخل الأمريكي في لبنان

1958

دولي

6

تمرد الحزب الديمقراطي الكردي بالعراق

1961-1975

محلي

7

الحرب الأهلية في اليمن

1962-1970

محلي

8

ثورة ظفار في عمان

1962-1975

محلي

9

ثورة سبتمبر شمال اليمن

1962

محلي

10

ثورة أكتوبر في اليمن

1963

محلي

11

حرب الرمال بين المغرب والجزائر

1963-1964

إقليمي

12

حرب الاستنزاف بين العرب وإسرائيل

1967-1973

إقليمي

13

حرب “حزيران” بين العرب وإسرائيل

1967

إقليمي

14

“معركة الكرامة” بين العرب وإسرائيل

1968

إقليمي

15

“أيلول الأسود” بالأردن

1970-1971

إقليمي

16

الغزو الإيراني لجزر الإمارات الثلاث

1971

إقليمي

17

حرب “أكتوبر” بين العرب وإسرائيل

1973

إقليمي

18

حرب الصحراء الغربية

1975-1979

إقليمي

19

الحرب الأهلية اللبنانية

1975-1990

محلي

20

حرب الأيام الأربعة بين مصر وليبيا

1977

إقليمي

21

حرب “الليطاني” بجنوب لبنان

1978

إقليمي

22

الحرب الليبية التشادية

1978-1987

إقليمي

23

الحرب العراقية الإيرانية

1980-1988

إقليمي

24

التمرد الكردي شمال العراق

1980-1988

محلي

25

عمليات جيش البعث في المدن السورية

1981-1982

محلي

26

الغزو الإسرائيلي للبنان

1982

إقليمي

27

الحرب الأهلية الثانية في السودان

1983-2005

محلي

28

أحداث خليج سرت

1986

محلي

29

الحرب الأهلية الأولى في اليمن

1986

محلي

30

الانتفاضة الفلسطينية الأولى

1987-1993

محلي

31

الحرب الموريتانية-السنغالية

1989-1991

إقليمي

32

حرب الكويت

1990-1991

دولي

33

العشرية السوداء في الجزائر

1991-2002

محلي

34

تمرد الأكراد والشيعة في العراق

1991

محلي

35

الحرب الأهلية في جيبوتي

1991-1994

محلي

36

الحرب الأهلية الثانية في اليمن

1994

محلي

37

الحرب الأهلية في الصومال

1991-؟

محلي

38

الانتفاضة الفلسطينية الثانية

2000-2005

محلي

39

الغزو الأمريكي للعراق

2003

دولي

40

العدوان الإسرائيلي على لبنان

2006

إقليمي

41

الصراع الداخلي في العراق

2006-2008

محلي

42

غزو أنجوان بجزر القمر

2008

إقليمي

43

العدوان الإسرائيلي على غزة

2008-2009

إقليمي

أبرز النزعات المسلحة العربية خلال الفترة 1948-2010

ومع الإقرار بصعوبة الفصل بين مستويات الصراع، نظراً لتداخل الأزمات والتدخلات الخارجية؛ إلا أنه من الواضح أن النزاعات المحلية كانت السبب الرئيس في إذكاء الحروب بنسبة 47 بالمئة، تبعتها الخلافات الإقليمية بنسبة 41 بالمئة، مقابل خمسة حروب دولية، بنسبة 5 بالمئة فقط.

ويجدر التنبيه إلى أن القائمة أعلاه، قد اقتصرت على الحروب “الرئيسية” فحسب (Major Armed Conflicts)، والتأكيد على أن السلطات السياسية وخصومها (المحليين والإقليميين) لم يتوقفوا عن استخدام السلاح في مواجهاتهم المتوسطة والصغيرة كذلك، حيث أكدت إحدى قواعد بيانات الصراع الدولي، أن الصراع العربي-الإسرائيلي تسبب بنحو 17 حالة “صراع عنيف” خلال الفترة 1945-2000، بينها عشر أزمات مسلحة عنيفة، مثل: حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية (1969-1970)، والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، يضاف إلى ذلك عشرات العمليات الإستراتيجية المحدودة، كقصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي (1981)، وقصف العراق الصاروخي لإسرائيل (1991)، ومئات العمليات التي قام بها الفدائيون الفلسطينيون وتنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

وتؤكد هذه النتائج صحة أطروحات ميللر الذي رأى أن النزاعات الإقليمية تأتي نتيجة عوامل محلية، وليس بسبب التدخل الخارجي، حيث أشارت تقديرات النزاعات العسكرية إلى ارتفاع المعدل السنوي للنزاعات الداخلية (Intrastate) في العالم، من 30 نزاعاً خلال الفترة 1989-2011، إلى 70 نزاعاً خلال الفترة 2012-2019، واحتلت المنطقة العربية المعدل الأعلى في التدخل الخارجي بالنزاعات المحلية العربية، إذ تبين أن هناك من 6 إلى 7 دول أجنبية تتدخل سنوياً في النزاعات المحلية العربية خلال الفترة المشار إليها.

ويمكن ملاحظة تنامي أدوار عصبويات ما دون الدولة (المناطقية، والعشائرية، والإثنية، والطائفية، والدينية) في تأجيج الحروب الداخلية، وذلك نتيجة المصاعب التي تواجهها الجمهوريات الهشة في تحقيق التجانس المجتمعي، فيما يأتي الاقتصاد كعامل آخر في تأجيج الحروب، حيث يتسبب الصراع على الموارد، وما ينتج عنه من مظاهر الفقر، وارتفاع نسب البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية، باندلاع الصراعات المسلحة.

وبالإضافة إلى دور البيئة الدولية في تأجيج النزاعات المسلحة في العالم العربي؛ وقيام عدد من الدول الخارجية بدعم الميلشيات الإثنية والطائفية وحركات التمرد؛ مثلت سلطوية الأنظمة ونزوعها إلى العسكرة العامل الأكبر في تأجيج تلك النزاعات بدلاً من معالجتها بالأساليب القانونية أو الدبلوماسية؛ حيث أحصت إحدى الدراسات وقوع أكثر من 120 انقلاباً في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين، منها نحو 40 انقلاباً ناجحاً لتغيير الحكم، وأكثر من 80 عملية انقلاب فاشلة.

وعلى الرغم من طول أمد الصراعات المحلية والحرب الأهلية؛ إلا أن الحروب الإقليمية والدولية كانت أكثر فداحة، حيث قُدّرت الخسائر البشرية والنفقات المالية لكل من: الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وحرب الخليج الأولى (1990-1991) بنحو 720 ألف قتيل، و950 مليار دولار من الخسائر، مقارنة مع خسائر الحروب العربية-الإسرائيلية الرئيسية الخمسة، والتي قُدّر عدد قتلاها مجتمعة بنحو 200 ألف قتيل، فيما بلغ مجموع خسائرها نحو 300 مليار دولار.

وبلغ مشهد الصراع العربي ذروته خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث شارك في العملية نحو 270 ألف جندي، معظمهم من الأمريكان، وقيام أكثر من 30 دولة أخرى بإرسال الوحدات العسكرية أو المساعدات أو المعدات، وقُدّر عدد القتلى بأكثر من مليون نسمة، فيما قدّر الصليب الأحمر عدد المشردين العراقيين بمليونين وثلاثمئة ألف شخص.

سباق التسلح

نظراً لتنامي النزاعات المسلحة الكبرى في المنطقة؛ فقد احتاجت الدول العربية لمضاعفة إنفاقها على التسلح، حيث لاحظت دراسة نشرها وليد عبد الحي، ارتفاع “قيم مؤشر العسكرة للدول العربية” بصورة كبيرة، مؤكداً تقدم 12 دولة عربية في رتبتها العالمية كمستورد للسلاح، وأن من بين أعلى عشرة دول في العالم في مؤشر “العسكرة” 7 دول عربية، وهو ما يعني أن 70% من الدول “الأعلى عسكرة” في العالم عام 2000، كانت دولاً عربية.

وفيما تستمر “إسرائيل” بتبوء مركز الدولة الأولى عالمياً في ميدان العسكرة خلال الفترة 2001-2020؛ ارتفع إجمالي الإنفاق العسكري العربي خلال الفترة نفسها إلى أكثر من ضعف الإنفاق العالمي، ما يجعل الإقليم العربي هو الأعلى عالمياً في الإنفاق العسكري بإجمالي بلغت قيمته 113,4 مليار دولار عام 2020، فيما أنفقت دول المغرب العربية خلال سنة 2020 ما قيمته 24,7 مليار دولار، بزيادة مئوية عن سنة 2011 بلغت 42% ومثلت 1,2% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.

وتُمثّل مشتريات السلاح البند الأكثر ثقلاً في الإنفاق العسكري العربي، حيث زادت الدول العربية إنفاقها على شراء الأسلحة بين عامي 2010 و2020 بنحو 61%، وارتفع معدل نصيب الإنفاق العسكري العربي من إجمالي الإنفاق الحكومي سنة 2019، إلى نسبة 12,13% بالمقارنة مع النسبة العالمية التي بلغت 6,1%، أي إن العالم العربي ينفق على العسكرة قياساً لإنفاقه على القطاعات الأخرى ضعف المعدل العالمي، وتؤكد الأرقام أن نحو 7 دول عربية تفوَّق معدل إنفاقها العسكري على إنفاقها في قطاع الصحة قياساً لإجمالي الإنفاق الحكومي.

ولاحظ عبد الحي، وجود ارتباط بين ارتفاع مؤشر العسكرة وبين تراجع الحريات المدنية في العالم العربي حيث تشكل “القيم السياسية” في المجتمع الرابط بين بعدي “العسكرة” و”الحريات المدنية”، ما يجعل المنطقة العربية هي الأعلى في مؤشر عدم الاستقرار السياسي، فمن بين 19 دولة عربية توفرت عنها مؤشرات الاستقرار السياسي تبين أن هناك 15 دولة عربية تقع في خانة عدم الاستقرار، أي أن مستوى عدم الاستقرار فاق نسبة 50%.

وبالنظر إلى التوزيع السكاني وربطه بمستويات عدم الاستقرار، تبين أن 80% من العرب يعيشون في دول يصل فيها معدل عدم الاستقرار إلى 75%.

ووفقاً للدراسة فإنه من بين الأقاليم الجيوسياسية السبعة في العالم؛ يحتل العالم العربي المرتبة الأخيرة في مستوى الديموقراطية، حيث تبين أن جميع الدول العربية (باستثناء دولتين) وقعت في خانة “الدول السلطوية”.

القواعد الأجنبية

لا تقتصر ظاهرة العسكرة على السياسات المحلية، بل تشمل التنافس الدولي لإنشاء قواعد عسكرية في المنطقة، بحيث بات الإقليم أكبر مستضيف للقواعد العسكرية الأجنبية في العالم، وعكس ذلك فشل دول المنطقة في حماية معابر التجارة الدولية والمضائق البحرية، وموارد الطاقة، وعجزها عن وقف التهديدات العابرة للدول كالإرهاب والقرصنة وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر، وذلك على الرغم من الإنفاق العسكري الذي بلغ معدلات فلكية.

وتشير المصادر إلى وجود نحو 19 قاعدة عسكرية في القرن الإفريقي، لكل من: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وإسرائيل، وتركيا، ودولة الإمارات، وروسيا، إلى جانب منطقة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي.

وكذلك الحال في اليمن ومنطقة الخليج العربي التي تعتبر أغنى مناطق العالم من حيث احتياطات وإنتاج الطاقة، والتي تتمركز فيها قواعد برية وبحرية وجوية أجنبية، تعتبر الأكبر على مستوى العالم، لكل من: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وأستراليا، وتركيا، والصين.

وفيما تستضيف تونس قيادة القوات الأمريكية بإفريقيا “أفريكوم”؛ تنتشر قواعد عسكرية غير معلن عنها بصورة رسمية في ليبيا، وفي بعض الدول التي تتحفظ على أعداد القوات الأجنبية فيها.

أما في المشرق العربي؛ فتنتشر عشرات القواعد العسكرية لكل من: الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وفرنسا، وإيران، وتركيا، فيما تشارك عشرات الميلشيات الطائفية الأجنبية، وجماعات المرتزقة، والشركات الخاصة، في كل من العراق وسوريا. يضاف إليها أنشطة “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش”، والذي يضم 85 دولة، وتشارك فيه عشر دول بقواتها المسلحة، هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وكندا، وبريطانيا، وبلجيكا، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا، وإسبانيا.

ويعتبر الوجود الأمريكي هو الأكبر في المنطقة، حيث تمتلك “القيادة المركزية” ما يزيد عن 63 موقعاً عسكرياً في 11 دولة، ويمتد مجال عملها لنحو 25 دولة في المساحة الممتدة بين باكستان شرقاً والمغرب غرباً.

وتحتفظ تلك القواعد بترسانات من الأسلحة الإستراتيجية والمنظومات الدفاعية الصاروخية، والقطعات الجوية والبحرية الأكثر تطوراً في العالم، والتي يمتلك بعضها القدرة على حمل أسلحة نووية.

وتكمن المشكلة في أن الوجود العسكري الخارجي في المنطقة، يقوم على أسس تعاقدية، يتمثل الهدف المعلن منها في تأمين مصالح أمنية وسياسية لأطرافها، لكنها تقوم بدور عكسي عبر تعزيز التدخل الخارجي في الشؤون المحلية، وإذكاء سياسات الاستقطاب، وإضعاف أمن الدول المستهدفة.

ويؤكد نموذج “ريتشاردسون” لقياس العلاقة بين الحروب وسباق التسلح، أن هذا التنافس الدولي لإنشاء قواعد عسكرية في المنطقة يعزز فرص الاضطراب واندلاع الحروب، أكثر من تحقيقه فرص السلام والاستقرار.

وتمثلت النتيجة المروعة لسياسات التسلح وعسكرة النزاعات بلفظ المنطقة العربية أكثر من ثلث اللاجئين على مستوى العالم، على الرغم من كونها مسقط رأس خمسة بالمئة فقط من سكان الكرة الأرضية؛ فيما تنامت الاضطرابات المحلية، وازدادت معدلات التدهور الاقتصادي والمجتمعي، حيث يقدر أن نحو 21 مليون طفل عربي باتوا خارج المدراس، فيما صُنف نحو خمسين مليون عربي في خانة الفقراء، وتحولت المنطقة العربية إلى أرض خصبة لعسكرة الشباب ودفعهم إلى التطرف، في ظل قيام مختلف الفئات المحلية المتصارعة باستخدام الأطفال لخوض الحروب.

هشاشة "المُركّب الأمني" العربي

على الرغم من الصعوبات التي تواجهها المنطقة العربية في سبيل تحقيق التكامل الأمني؛ إلا أنها تتمتع بخاصية البعد القومي، والتي تمنحها اعتباراً معنوياً ونفسياً يمكن أن تكون لها نتائج مهمة على صعيد الهوية المشتركة، باعتبار أن الوطن العربي يشكل وحدة قومية-سياسية، وهو الأمر الذي لم تنجح جامعة الدول العربية في تحقيقه منذ قيامها عام 1945.

وكان من المفترض أن تشكل الجامعة العربية الإطار المؤسسي لنظام الأمن الإقليمي العربي، وأن تضطلع بمهمة: “توثيق الصلات بين الدول الأعضاء، وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيما بينها، وصيانة استقلالها وسيادتها، والحرص على مصالحها المشتركة على كافة الأصعدة والمستويات، ومنها تحقيق الأمن الإقليمي، بما يوفر الاستقرار الداخلي لكل دولة ويؤمن لها الحماية ضد الاختراقات المحتملة للأمن القومي العربي”.

إلا إنها لم تنجز أياً من الأهداف الأمنية التي وجدت لأجل تحقيقها، حيث تنامت الصراعات المسلحة، وازدادت التدخلات الخارجية، في ظل غياب كامل لسياسات التكامل الاقتصادي، وعدم القدرة على القيام بدور فاعل في القضايا العربية الكبرى.

ويمكن ملاحظة أبرز مكامن إخفاق الجامعة فيما يلي:

1- فقدان الإرادة السياسية الجماعية، ما جعل نسبة تنفيذ قرارات مجلس الجامعة هزيلة، وغير مسندة إلى توازن قوى فاعلة تحميها وتدخلها في حيز التنفيذ.

2- عجز الجامعة عن القيام بأي دور إيجابي في الحروب التي وقعت بين العراق وإيران، والعراق والكويت، والغزو الأمريكي للعراق، وفي القضية الفلسطينية، وفي تقسيم السودان، وحروب الصومال وموريتانيا والمغرب العربي، وغيرها من النزاعات التي كشفت وهن الأمن القومي العربي.

3- تصاعد الاصطفاف العربي، على محاور متناقضة ومتصادمة، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من إيران وبالصراع العربي الإسرائيلي، ووصول الخلافات العربية إلى حد عدم المشاركة في القمم، أو خفض مستوى التمثيل فيها.

وفي ظل تعالي الأصوات المطالبة بتعديل ميثاق الجامعة، وتصحيح مسار العمل في مؤسساتها، وإنشاء آليات تساعدها على القيام بالأدوار المنوطة بها؛ تبدو المشكلة أكبر من مسألة إصلاح المنظمة العربية المترهلة، حيث تعاني المنظمات شبه الإقليمية من الحالة ذاتها، بدءاً بمجلس التعاون لدول الخليج العربي (1971)، ومجلس التعاون العربي (1989)، واتحاد المغرب العربي (1989)، وغيرها من المنظمات الفرعية التي تعاني من التصدع نتيجة تنامي الخلافات بين الدول الأعضاء حول الموقف من إيران، ومن إسرائيل، ومن تركيا، ومن سياسات تلك الدول ذات الطابع التوسعي في المنطقة.

جدير بالذكر أن مشكلة غياب الانسجام بين الدول الأعضاء يعود إلى مراحل مبكرة من تشكل الدولة العربية، حيث عصفت سياسة المحاور بالأمن العربي خلال العقود السبعة الماضية، بما في ذلك: التنافس بين الهاشميين والسعوديين (1930-1951)، وما أعقبه من احتدام “الحرب العربية الباردة” بين الجمهوريات بقيادة مصر التي اعتنقت الفكر القومي والاشتراكية، وبين الملكيات التقليدية، بقيادة السعودية (1952-1970)، ومن ثم الانقسام الواقع اليوم بين “محور الممانعة” المؤيد لإيران، ومحور “الاتفاقية الإبراهيمية” الذي ينزع إلى التعاون مع إسرائيل.

ولا يُتوقع أن تنجح دول المنطقة في تطوير سياسة أمن إقليمية ناجعة خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن الشروط المطلوبة لتأسيس “المركب الأمني”، تكاد تكون غير متوفرة، في ظل العوائق التالية:

1

النزاعات الحدودية (Boundary Disputes)

2

البيئة الفوضوية للصراع (Anarchy Structure)

3

الاستقطاب (Polarity)

عوائق تشكيل المركب الأمني

وللوصول إلى مستوى بناء نظام إقليمي، لا بد من بذل جهود أكبر في مجالات: تنمية العلاقات الاقتصادية، والربط الاجتماعي والسياسي، وتعزيز الهوية الإقليمية، المتمثلة في الإدراك المشترك بالانتماء لجماعة معينة، وهي أمور تبدو بعيدة المنال في ظل الخلافات المستحكمة، فضلاً عن تنامي النزاعات الإقليمية بصورة غير مسبوقة، حيث تحدث تقرير نشره “مرصد الصراعات العالمية” التابع لمجلس العلاقات الخارجية” بالولايات المتحدة (أكتوبر 2022) عن احتدام المخاطر المحيطة بالدول العربية وما حولها، مؤكداً أن 6 من أبرز 10 صراعات بالعالم توجد في منطقة الشرق الأوسط وحولها، فيما قدّر تقرير أعدته “مجموعة الأزمات الدولية”، أن أبرز الصراعات في العالم خلال العام 2022، تقع في منطقة الشرق الأوسط وتخومها، وعلى رأسها الصراع العربي-الإسرائيلي، وحرب اليمن، والصراعات في: أفغانستان، وإثيوبيا، وإيران، بالإضافة إلى انتشار جماعات التطرف والغلو في دول الساحل والصحراء الإفريقية.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021