العالم العربي وحقبة ما بعد الفرد

خسائر معركة المعلومات

ظهر رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، سيرغي ناريشكين، خلال اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي (فبراير 2022) وهو يتلعثم أثناء سؤال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، له عن موقفه من الاعتراف بمنطقتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا.

وعندما قال ناريشكين، خطأً، أنه: يؤيد دمج إقليمي “دونيتسك” و”لوغانسك” بالأراضي الروسية، خرج بوتين، المتحفظ، عن طوره فقاطعه عدة مرات، ثم قال له: “لا نناقش ذلك، نتحدث عن الاعتراف باستقلالهما”، وبدا التوتر الشديد على ناريشكين الذي صحح زلة لسانه بالقول: “أدعم مقترح الاعتراف باستقلالهما”، فيما استمر بوتين في مقاطعته، طالباً منه أن يكون “واضحاً”.

كان ذلك الموقف المحرج هو قمة جبل جليد من توتر العلاقة بين بوتين وأجهزته الأمنية التي وقعت في سلسلة من الأخطاء، ما اضطره لشن حملة تطهير شملت جنرالات وضباط استخبارات نتيجة فشل التقييمات الاستخباراتية الروسية للعمليات في أوكرانيا، حيث دفع تراكم الأخطاء الأمنية ببوتين لإقالة ثمانية ضباط كبار، واعتقال قيادات بلواء “الخدمة الخامسة” (وهي الجهة المسؤولة عن إبلاغ بوتين بالوضع السياسي في أوكرانيا)، ووضع رئيسها، سيرغي بيسيدا، ونائبه، أناتولي بوليوخ، قيد الإقامة الجبرية، بعد اتهامهما بإرسال معلومات خاطئة عن الوضع في أوكرانيا.

ونتج عن تلك الأخطاء؛ مقتل أربعة جنرالات من أفضل ضباط الجيش الروسي، هم: الجنرال أندريه كوليسنيكوف، قائد المنطقة العسكرية الشرقية، والجنرال فيتالي غيراسيموف، نائب قائد الجيش الروسي الحادي والأربعين للمنطقة العسكرية المركزية في روسيا، والجنرال أندريه سوخوفيتسكي، نائب قائد قوات الأسلحة المشتركة الـحادي والأربعين للقوات البرية الروسية، والجنرال أندريه زاخاروف قائد فوج الدبابات السادس في فرقة الدبابات (90).

وألقت الإخفاقات المتتالية للأجهزة الأمنية (GRU) و(SVR) و(FSB) الضوء على ضعف القطاع الاستخباراتي الروسي الذي ينتمي للحقبة السوفيتية، حيث تقوم عقيدته على مفهوم (ماسكيرفوكا)، القائم على خليط من: “التعتيم” و”الخديعة” و”التمويه”.

فعلى الرغم من براعة رئيس هيئة الأركان العامة، فاليري غيراسيموف، في استخدام تلك التكتيكات خلال عملياته السابقة، إلا أن أخطاء الإسناد المعلوماتي تسببت في فشل مهمته، حيث عانت الاستخبارات العسكرية الروسية من محدودية معلوماتها وتناقض إحداثيات “الجغرافيا المكانية” (جيوإنت) المقدمة لها، ما أدى إلى توتر العلاقة بين رئيس الأركان، ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (GRU)، إيغور كوستييكوف، فيما واجه رئيس مجلس الأمن القومي (SVR)، سيرغي ناريتشكين، انتقادات شديدة بسبب إخفاق عناصره في تنفيذ المهام الاستخباراتية والسياسية والاقتصادية والتقنية في الخارج، حيث أوكل بوتين إليه مهمة رصد “الحالة المزاجية” للدول المجاورة، وصدرت عنه تقارير مضللة تفيد بأن الموقف الألماني سيكون هادئاً إزاء العمليات في أوكرانيا، ولم يتوقع أن تبادر برلين إلى قطع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2”.

ووقع الجهاز في خطأ أكثر فداحة، عندما توقع أن تحافظ باريس على موقف قريب من الحياد في حالة اجتياح أوكرانيا، مستنداً إلى ميل فرنسا، السابق، نحو إجبار كييف على تطبيق اتفاقيات “مينسك 2″، واعتبر الجهاز أن روسيا ستواجه جبهة أنجلو-سكسونية معزولة عن محيطها الأوروبي، متوقعاً وقوف كل من إيطاليا والمجر على الحياد، وثبت أن كل التوقعات كانت خاطئة.

وبعد ستة أشهر من الغزو؛ قُدّرت خسائر روسيا بأكثر من 121,000 قطعة عسكرية تتجاوز قيمتها 16 مليار دولار، ونحو 100 ألف عسكري بين قتيل وجريح، منهم عدد من كبار الجنرالات الذين فقدوا حياتهم نتيجة مركزية بوتين واستبداده برأيه واعتماده على مجموعة من الشخصيات الأمنية غير القادرة على إدارة دفة الحروب العسكرية الحديثة.

كان إحباط بوتين ناتجاً عن كونه رجل أمن محترف، انخرط في المخابرات السوفيتية (KGB) عام 1975، وترقى فيها إلى وصل إلى رتبة عقيد، ثم عُيّن رئيساً لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي عام 1998، إلى أن نصبه الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، نائباً لرئيس الوزراء، وبذلك تكون حياته المهنية منحصرة على نحو ربع قرن في قطاع الأمن، ومثلها في قطاع السلطة، وتثير مركزيته المفرطة، ونرجسيته، وانفراده بالرأي، سخط كثيرين ممن عملوا معه.

الفرد في النظريات الغربية

تُلقي إخفاقات بوتين في الحرب الأوكرانية الضوء على دور “الفرد” في العمليات الأمنية وفي الحروب بين الدول، حيث انتهى موسوليني وهتلر وغيرهما من الحكام المستبدين بصورة مروعة نتيجة تركيز كم هائل من المهام والصلاحيات في أشخاصهم، وفي الدائرة الضيقة المحيطة بهم.

وفي المقابل؛ يتنامى الاهتمام بالأدوار التي يمارسها الأفراد في المنظومات الأمنية، وذلك على اعتبار أن الأفراد ليسوا مجرد متلقين سلبيين، بل هم لاعبون أساسيون يترأسون الحكومات، ويديرون المنظمات المحلية والإقليمية، ويرأسون الشركات متعددة الجنسيات، والهيئات والمنظمات الدولية، كما يقودون الحرب، ويسهمون في صياغة القرارات التي تشكل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الدولي.

ففي رؤيتهم لدور الفرد؛ يرى الليبراليون أن الأفراد، على مستوى القادة والنخب، يمتلكون القدرة على صناعة فروق ملموسة في المشهد الدولي، ويعتبرون أن شخصية الرئيس في الولايات المتحدة أو روسيا، على سبيل المثال، تحدث تغييراً فعلياً، وربما تقود إلى تحول في السياسات المحلية أو الخارجية، ما يؤكد على ضرورة الاهتمام بخصائص القادة، ودراسة خلفياتهم وتحليل سيكولوجيتهم، خاصة منهم القادة الذين يوصفون بأنهم على مستوى عال من الوطنية، ويتمتعون باحترام الشعوب لرمزيتهم ولدورهم الوطني، الأمر الذي يوسع مجال تصرفهم المنفرد وتحكمهم بالأحداث، حتى ولو كانوا في دول ديمقراطية.

ويضربون أمثلة من التأثير الذي أحدثه بعض الأفراد على المستوى الدولي، كالمهاتما غاندي في الهند، وغورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وغيرهم من القادة الذين كانوا مصدر إلهام للملايين.

وفي المقابل؛ يميل الواقعيون إلى التقليل من أهمية الأفراد في المشهد الدولي، ولا يعترفون بالفرد كلاعب مستقل، وذلك لأن النخب السياسية تبقى مقيدة بالنظام الدولي، وهي مرهونة برغبة المؤسسة في تقديم الفرد ضمن نسق متكامل يمثل الدولة ومؤسساتها. وبالتالي فإن سياسات الدول تُصاغ من خلال مؤسسات الدول وحكوماتها، وليس من خلال السمات الفردية للأشخاص، وذلك على اعتبار أن “القوة” التي تملكها الدولة هي العامل الفاعل في تحقيق مصالحها داخل النظام الدولي.

ويعترف أنصار المدرسة البنائية بأهمية الأفراد، ولكن في إطار تشكيلهم لهويات جَمَعية، وخاصة بالنسبة للنخب التي تمارس أدواراً مهمة في القيادة، وفي الترويج للتغيير عبر دعوتهم لتصحيح الأفكار والمعتقدات، وينحازون بذلك إلى الرؤية الواقعية التي تقلل من قيمة الفرد في المشهد الدولي، معتبرين أن توجهات القادة وسياساتهم لا تأتي منفردة بحد ذاتها، بل تمثل تحولاً في تفكير المجتمع.

ويضربون مثلاً على ذلك بسياسة “بيريسترويكا” في الاتحاد السوفيتي، والتي لم تأتِ كرؤية خاصة بغورباتشوف، بل جاءت لتمثل تغيراً في قناعات المجتمع وتوجهاته، ولتلقي الضوء على تغلغل طبقة جديدة من الإصلاحيين ذوي التوجه الغربي في مؤسسات الحكم، ووقوف جيل شاب من المتخصصين في القضايا الدولية خلف تلك التوجهات، ما اضطر النخب لمراجعة حساباتهم، والاستجابة للتحولات الدولية، معتبرين أنه من غير الصحيح عزو تلك السياسة إلى أفكار غورباتشوف فحسب.

لكن المدرسة البنائية تعترف في الوقت نفسه بالدور السلبي للأفراد من القادة، وخاصة فيما يتعلق بقرارات إعلان الحرب، إذ إن النزعات العدوانية والعنيفة لبعض القادة قد تدفعهم إلى استخدام مناصبهم لتحقيق أهدافهم، ما يؤدي إلى وقوع الحرب بين الدول، دون نفي أن يكون ذلك ناتجاً عن قناعات الجماهير وأدوار النخب.

أما في الدول النامية؛ فيمكن ملاحظة تمتع الأفراد بقدرة أكبر على إحداث متغيرات في مجرى الأحداث، وذلك نتيجة لعدة عوامل منها: عدم نضج مؤسسات الحكم، وغياب القيود المؤسسية في نمط الحكم الشمولي، حيث يعتبر الدكتاتور نفسه متحرراً من أي قيود محلية، وغير ملزم بتحقيق المشاركة المجتمعية، أو الاستجابة لمعارضيه، أو الالتزام بتوصيات المؤسسات البيروقراطية، ودون أن يعير في الوقت نفسه أي اهتمام للرأي العام.

أنماط الأفراد

الليبرالية

الواقعية

البنائية

النخب السياسية الخارجية

تأثير مهم في العلاقات الدولية عبر القرارات التي تتخذها

مقيدون بالنظام الدولي الذي يتسم بالفوضى وتغليب المصالح الخاصة

يمثلون تيارات شعبية ويحركون الأحداث والعمليات

الأفراد الذين لا يتولون مناصب رسمية

دور ثانوي لكن لهم القدرة على الانخراط في الممارسة السياسية

لديهم القدرة على حشد الجماهير في القضايا العامة

معتقدات الأفراد أكثر أهمية من أعمالهم

الأوساط الجماهيرية

يؤثرون على العلاقات الدولية من خلال الضغط على صناع القرار

تصرفاتهم تنعكس على المصلحة الوطنية سلباً أو إيجاباً

قوى تغيير محتملة من خلال تشكيل المفاهيم ونمط الخطاب

أهمية الفرد في النظريات الحديثة

ويرى الباحثان؛ كارين منغست وإيفان أريغوين، أن الخصائص الشخصية لدى القادة المستبدين تمثل أهمية كبيرة في السياسات العامة بالدول التي تحكمها أنظمة شمولية، وذلك نتيجة غياب المرجعية المؤسسية، الأمر الذي يتيح لهم تجاهل القانون، ويُمكنّهم من استخدام العنف أو اللجوء إلى التكتيكات المتطرفة لتنفيذ سياساتهم، كما هو الحال بالنسبة لأدولف هتلر وبنيتو موسوليني، وكيم إل سونغ، وغيرهم من القادة ذوي السمات النرجسية “المؤذية”، والذين يلجأون إلى استخدام العنف ضد معارضيهم دون وازع أو ضمير.

وفي تحليل لشخصية الفرد المستبد؛ يرى الباحثان قدراً كبيراً من ضعف القدرة على استخدام “النمط العقلاني” في صناعة القرار، إذ إن البيئة العقلانية تتطلب جهداً جماعياً، يتمثل في: الحصول على سائر المعلومات ذات الصلة، ووضع الأهداف الوطنية، ودراسة الاختيارات المناسبة، ومن ثم اتخاذ القرارات التي تحقق تلك الأهداف.

ونظراً لاستحالة اختزال تلك العملية المعقدة برمتها في فرد واحد، فإنه من غير الممكن صياغة “قرار عقلاني” خارج الإطار المؤسسي، بل يؤدي انفراد بعض النخب الضيقة بهذه العملية إلى صدور قرارات غير عقلانية، تقوم على انطباعات شخصية، وغالباً ما تكون عدوانية ومتناقضة، نتيجة تأثرها بشخصية المستبد، الذي يعتمد على نمط نفسي-انطباعي، لصياغة القرار الوطني، بناء على الأسس التالية:

  • التسطيح والتبسيط: المتمثل في تقمص مفهوم التماسك المعرفي وفق أفكار الفرد وخلفياته، واللجوء إلى قواعد مبسطة لا تتناسب مع تعقيدات المشهد الدولي، كاعتبار أن “صديق العدو عدو” على سبيل المثال.
  • التوافق في الرأي: حيث يميل المستبد إلى تقريب المستشارين الذين يتفقون معه، وأولئك الذين يوافقون توجهاته في تسطيح عملية اتخاذ القرار، وفي الحط من قيمة المعلومات التي تخالفه.
  • الانطباعية بدلاً من المعلوماتية: حيث يتم تفسير الأحداث وتحديد آليات التعامل معها من منظورات شخصية انطباعية، تستند إلى ادعاء الخبرة والتعلم من تجارب الماضي.
  • الشيطنة: حيث يصوّر المستبد مخالفيه بصورة شريرة، ويفترض أنهم غير قابلين للتفاهم أو التفاوض، ويعمل على تشويه صورتهم مقابل منح صورة إيجابية ومرنة لنفسه في الإعلام الرسمي.
  • الإرضاء: الميل للبحث عن الحلول المفضلة ذات الطابع البسيط، والتي توصف بأنها حلول “جيدة”، بدلاً من البحث عن آليات المعالجة ذات الطابع الاحترافي.

ويمكن تلخيص سيناريوهات تأثير الأفراد في الأحداث في الشكل التالي:

1

عندما تكون المؤسسات السياسية ناشئة أو غير مستقرة، أو تمر بأزمات

2

عندما تكون القيود المؤسسية محدودة

3

عندما تكون المسألة غير مركزية، أو غير عادية أو غامضة

سيناريوهات تأثير الأفراد في الأحداث

الفرد في العالم العربي

عانى العالم العربي من هيمنة عنصر الفرد في مؤسسات الحكم خلال العقود السبعة الماضية، وذلك نتيجة تغلب الطابع العسكري-الانقلابي، وتفشي ظاهرة الحكام المستبدين.

إلا أن عقد الجنرالات بدأ في الانفراط مع مطلع الألفية؛ حيث مات الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عام 2000، تبعه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي أطيح بحكمه عام 2003 (أعدم عام 2006)، وتوفي بعدهما الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات عام 2004، ما أدى إلى حالة من الفراغ لم يتمكن خلفاؤهم من ملئه حتى اليوم.

وسرعان ما شهدت جمهوريات شمال إفريقيا حالة شبيهة تمثلت في: فرار الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، وتنازل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن الحكم، ومقتل الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي عام 2011، واستقالة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2019، فيما أطيح بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في العام نفسه.

وفي اليمن أُرغم الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح على التنازل عن الحكم عام 2012، وقُتل عام 2017.

وآذنت تلك التطورات بانتهاء حقبة الحكم الفردي-المركزي، الذي هيمن على العالم العربي عقب مرحلة سابقة أطلق عليها مرحلة “الاستعمار”، والتي خاضت فيها القوى الشعبية صراعاً مريراً للانعتاق من ربقة النظم الاستعمارية-الانتدابية في النصف الأول من القرن العشرين.

فيما أسفرت المرحلة التي اصطلح على تسميتها “الربيع العربي” (2011-2020) عن حالة من الفوضى، وعدم قدرة النخب الجديدة على ملء الفراغ الذي تركه أسلافهم المستبدون، وعززت، في الوقت نفسه، جدليات أنصار المدرسة الواقعية بأن الإطاحة بالقادة المستبدين يكلف خسائر إنسانية واقتصادية كبيرة، ويُخلّف حالة من الفوضى، ويقوض مفاهيم السيادة في الدول، ويعود بنتائج وخيمة على الأمن والسلم الدوليين.

وفي المقابل؛ استمر أنصار المدرسة الليبرالية في تغليب الأدوار الإيجابية التي مارسها المجتمع، وفي قدرة الجماهير على ممارسة أعمال الحشد والتفاعل والتأثير، وصياغة الرأي العام.

وفي ظل تنامي مظاهر العنف المصاحب للتغيير، برزت عدة فرضيات حول قدرة المجتمعات العربية على تخطي مرحلة الفرد التي هيمنت في العقود السبعة الماضية، ومدى قابليتها للمساهمة في الخروج من أتون الفوضى، حيث رأى البعض استحالة ذلك في ظل عدم توفر الثقافة السياسية والأمنية على المستوى الشعبي، وتعذّر إعادة بناء الدولة خارج الأطر المؤسسية التقليدية للحكم.

لكن أتباع فرضية “الديمقراطية القاعدية” (grassroots) خالفوا ذلك الرأي، معتبرين أن الجماهير تمتلك خاصية التنظيم الذاتي والقدرة على التفكير والتصرف تماماً كالنخب، وأنها تعمل وفق سيكولوجية مشتركة، وتتمتع بخصائص بيولوجية تُمكنها من العمل خارج الأطر المؤسسية التقليدية، وأن لديها القدرة على إنتاج الآراء والأفكار المشتركة عند اللزوم، وأنها تمتلك الحس اللازم لحماية الصالح العام وتبني مفاهيم الفضيلة، ومحاربة الاستبداد والفساد، والتحلي بالوعي والجرأة التي قد لا تتوفر لدى النخب.

ورأى أقطاب تلك المدرسة أن الجماهير تمتلك القدرة على العمل بصورة مشتركة وإيجابية، حتى ولو لم تتوفر القيادة، متفقين مع المدرسة الليبرالية التي تفترض الخيرية في البشر، وترى أن الأوساط الجماهيرية تمتلك القدرة على تشكيل المصلحة العامة خارج الإطار الرسمي.

ويمكن تلخيص أبرز ملامح تأثير الأفراد من الجماهير في السياسات العامة من خلال الشكل التالي:

1

الجماهير تفكر وتعمل تماماً مثل النخب، وتتشارك في سيكولوجية عامة وبخصائص مشتركة

2

تمتلك النخب القدرة على التعبير عن الرأي العام وتكييف قضاياها بالطرق التي تصب في مصالحها

3

تتميز بالقدرة على العمل دون الخضوع لقيود المؤسسات الرسمية

تأثير الجماهير في السياسات المحلية والخارجية

ويدعونا الجدل المحتدم حول تقييم قدرات الجماهير؛ إلى تحليل طبيعة الأجيال الجديدة، من خلال محورين رئيسين:

1- تهاوي المركزية في العالم العربي: حيث تشهد المنطقة العربية في العقد الثالث من الألفية تراجعاً في مركزية الدولة، ومركزية الحاكم (المستبد)، وكذلك في مركزية العواصم الرئيسية كمراكز للسلطة السياسية، فبالتزامن مع تهاوي سلسلة الزعماء الانقلابيين-العسكريين خلال الفترة (2000-2019)؛ فقدت كل من: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء، والخرطوم، وطرابلس، نفوذها التاريخي على المدن والمحافظات الأخرى، وبرزت أدوار جديدة لحواضر منافسة كعدن، وبنغازي، والبصرة، وأربيل، والسليمانية، وحلب، وإدلب، ووقعت تلك الأحداث بالتزامن مع تراخي القبضة الأمنية في تلك الحواضر والمدن.  

2- ظهور جيلين جديدين في المشهد العربي، هما: جيل الألفية (Millennial Generation)، من مواليد الأعوام (1980-2000)، وجيل ما بعد الألفية (Generation Z)، من مواليد الأعوام (2000-2020)، والذين تتراوح تقديراتهم ما بين 270 و300 مليون شابة وشاب في العالم العربي، يمثلون أكبر تكدس سكاني عرفته المنطقة في تاريخها المدون، وتشكل سلوكياتهم نمطاً مختلفاً عن الأجيال التي سبقتهم، حيث يتميزون بتحصيل علمي أكثر من سابقيهم، وبقدرتهم على توظيف التقنيات الرقمية والتواصل الشبكي، كما أنهم أكثر وعياً بحقوقهم، وأكثر استعداداً للمجازفة من أجل تحقيق ما يؤمنون به، وهم في الغالب أقل أيديولوجية وتزمتاً من الأجيال السابقة.

ولا تشكل هذه الفئة الشابة ثورة في سوق العمل فحسب؛ بل يتسع تأثيرها ليشمل قطاعات التعليم والصحة، والخدمات، ويمتلكون مهارات عالية في توظيف التكنولوجيا لتعزيز التواصل والتأثير في الجموع، بصورة تفوق قدرة مؤسسات الدولة، ولا يؤمنون بالمرجعيات الإيديولوجية الكلاسيكية التي سادت في الحقبة الماضية، بل يعتمدون على منظومات شبكية في العالم الافتراضي.

ويهيمن على هذه الفئة الشابة، حالة من القلق إزاء انعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي، وعدم قدرتهم على تحقيق الاستقلالية المادية، وحرمانهم من فرص العمل والعيش الكريم، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المعيشة، وتفشي البطالة والفساد، وتحملهم سائر تبعات الثورات والحروب العربية، إذ يُعتبرون الفئة الأكثر معاناة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية الناتجة عن تلك الحروب، ويُصنف الملايين منهم ضمن ضحايا حركات الهجرة، والنزوح، واللجوء خلال الفترة 2011-2023، ما يدفعهم للانفتاح نحو الخارج والاهتمام بالمشاكل الإقليمية والدولية مقابل تضاؤل الحس الوطني وضعف الشعور بالهوية والانتماء الوطني.

ومن المرجح أن يفرض هذا الجيل معايير جديدة في مفاهيم السيولة السياسية والاقتصادية العابرة للحدود، حيث يُتوقع أن تشهد المجتمعات العربية تحولات كبرى لدى استحواذ هذه الفئة تدريجياً على الحياة العامة، بالتزامن مع استمرار تراجع أدوار القادة (الأفراد) في شتى المجالات؛ السياسية والثقافية والمجتمعية، حيث تتراجع المركزية-الهرمية التي صبغت المشهد العربي في العقود السبعة الماضية.

وتمثل ظاهرة تنامي السيولة مقابل انهيار مفاهيم الفردية والمركزية السياسية حالة “انكشاف أمني”، نتيجة عولمة الأزمات الاقتصادية، وانتشار شبكات التطرف والجريمة المنظمة العابرة للحدود، ونشوء مفاهيم جديدة للقوة تقوم على دور التكنولوجيا في تعزيز التنافسية الاقتصادية، وبروز اقتصاديات جديدة، أبرزها “اقتصاد المعرفة” الذي يمثل نحو 7 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي العالمي.

تغير أنماط الحروب

بالتزامن مع تراجع أدوار الجيوش الوطنية وضعف قدرتها على شن الحروب المحلية والإقليمية؛ تُسهم الثورة التكنولوجية في تغيير شكل الحرب وأدواتها، وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم: “حروب الشبكات” و”حروب الفضاء الإلكتروني”، و”حروب الجيل الثالث من القوى الفاعلة خارج إطار الدول”، كالجماعات التي تستخدم التقنيات الحديثة لتهديد أمن الفضاء الالكتروني، وقطع الكابلات البحرية، وممارسة القرصنة الإلكترونية، وتهديد أمن شبكات الاقتصاد الدولي، وتشكيل “جيوش إلكترونية” تستهدف مرافق حيوية… دون إراقة الدماء.

وتبرز حروب إعلامية موازية في العالم الرقمي الذي يمثل تحدياً أكبر في صياغة الثقافة الأمنية العربية وفي معارك تحديد الهوية، يضاف إليها جملة من المهددات العابرة للدول وعلى رأسها المهددات البيئية، مثل تضاؤل موارد المياه، حيث يتوقع أن يبلغ شح الموارد المائية مستويات خطيرة بحلول عام 2025م بغض النظر عن تغير المناخ، وخاصة في المشرق العربي الذي يفقد سمات الخصوبة نتيجة تدهور الإمدادات المائية من الأنهار الرئيسية، وارتفاع درجات الحرارة، وما يمثله ارتفاع مستوى البحار في كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي من مخاطر على النشاط الزراعي وعلى المراكز السكنية.

وكان للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا (2022-2023) دور في إبراز جملة من التحديات الجديدة المتمثلة في: أزمة الغذاء العالمية، والتضخم، وما يمثله تهديد أمن الطاقة من أهمية للمنطقة العربية التي يقع فيها ثلثا الاحتياطي العالمي للطاقة، وما يمكن أن يمثله تراجع مكانة النفط لصالح الغاز الطبيعي الذي يتنامى الاعتماد العالمي عليه.

يضاف إلى ذلك ما تشكله العولمة الاقتصادية من مهددات لدول المنطقة، حيث يتنامى نفوذ الشركات متعددة الجنسيات، والمجموعات الصناعية والاقتصادية العابرة للحدود، والكيانات المالية العملاقة التي تتمتع بقدر هائل من حرية الحركة والمناورة بعيداً عن رقابة السلطات المحلية، وتنامي نشاط هذه الكيانات المالية خارج إطار الدول، وما تقوم به هذه الشركات من خدمة لمصالح القوى الكبرى مقابل إضعاف الاقتصاديات الوطنية الهشة.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021