عانى العالم العربي من هيمنة عنصر الفرد في مؤسسات الحكم خلال العقود السبعة الماضية، وذلك نتيجة تغلب الطابع العسكري-الانقلابي، وتفشي ظاهرة الحكام المستبدين.
إلا أن عقد الجنرالات بدأ في الانفراط مع مطلع الألفية؛ حيث مات الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عام 2000، تبعه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي أطيح بحكمه عام 2003 (أعدم عام 2006)، وتوفي بعدهما الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات عام 2004، ما أدى إلى حالة من الفراغ لم يتمكن خلفاؤهم من ملئه حتى اليوم.
وسرعان ما شهدت جمهوريات شمال إفريقيا حالة شبيهة تمثلت في: فرار الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، وتنازل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن الحكم، ومقتل الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي عام 2011، واستقالة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2019، فيما أطيح بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في العام نفسه.
وفي اليمن أُرغم الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح على التنازل عن الحكم عام 2012، وقُتل عام 2017.
وآذنت تلك التطورات بانتهاء حقبة الحكم الفردي-المركزي، الذي هيمن على العالم العربي عقب مرحلة سابقة أطلق عليها مرحلة “الاستعمار”، والتي خاضت فيها القوى الشعبية صراعاً مريراً للانعتاق من ربقة النظم الاستعمارية-الانتدابية في النصف الأول من القرن العشرين.
فيما أسفرت المرحلة التي اصطلح على تسميتها “الربيع العربي” (2011-2020) عن حالة من الفوضى، وعدم قدرة النخب الجديدة على ملء الفراغ الذي تركه أسلافهم المستبدون، وعززت، في الوقت نفسه، جدليات أنصار المدرسة الواقعية بأن الإطاحة بالقادة المستبدين يكلف خسائر إنسانية واقتصادية كبيرة، ويُخلّف حالة من الفوضى، ويقوض مفاهيم السيادة في الدول، ويعود بنتائج وخيمة على الأمن والسلم الدوليين.
وفي المقابل؛ استمر أنصار المدرسة الليبرالية في تغليب الأدوار الإيجابية التي مارسها المجتمع، وفي قدرة الجماهير على ممارسة أعمال الحشد والتفاعل والتأثير، وصياغة الرأي العام.
وفي ظل تنامي مظاهر العنف المصاحب للتغيير، برزت عدة فرضيات حول قدرة المجتمعات العربية على تخطي مرحلة الفرد التي هيمنت في العقود السبعة الماضية، ومدى قابليتها للمساهمة في الخروج من أتون الفوضى، حيث رأى البعض استحالة ذلك في ظل عدم توفر الثقافة السياسية والأمنية على المستوى الشعبي، وتعذّر إعادة بناء الدولة خارج الأطر المؤسسية التقليدية للحكم.
لكن أتباع فرضية “الديمقراطية القاعدية” (grassroots) خالفوا ذلك الرأي، معتبرين أن الجماهير تمتلك خاصية التنظيم الذاتي والقدرة على التفكير والتصرف تماماً كالنخب، وأنها تعمل وفق سيكولوجية مشتركة، وتتمتع بخصائص بيولوجية تُمكنها من العمل خارج الأطر المؤسسية التقليدية، وأن لديها القدرة على إنتاج الآراء والأفكار المشتركة عند اللزوم، وأنها تمتلك الحس اللازم لحماية الصالح العام وتبني مفاهيم الفضيلة، ومحاربة الاستبداد والفساد، والتحلي بالوعي والجرأة التي قد لا تتوفر لدى النخب.
ورأى أقطاب تلك المدرسة أن الجماهير تمتلك القدرة على العمل بصورة مشتركة وإيجابية، حتى ولو لم تتوفر القيادة، متفقين مع المدرسة الليبرالية التي تفترض الخيرية في البشر، وترى أن الأوساط الجماهيرية تمتلك القدرة على تشكيل المصلحة العامة خارج الإطار الرسمي.
ويمكن تلخيص أبرز ملامح تأثير الأفراد من الجماهير في السياسات العامة من خلال الشكل التالي:
1 | الجماهير تفكر وتعمل تماماً مثل النخب، وتتشارك في سيكولوجية عامة وبخصائص مشتركة |
2 | تمتلك النخب القدرة على التعبير عن الرأي العام وتكييف قضاياها بالطرق التي تصب في مصالحها |
3 | تتميز بالقدرة على العمل دون الخضوع لقيود المؤسسات الرسمية |
تأثير الجماهير في السياسات المحلية والخارجية
ويدعونا الجدل المحتدم حول تقييم قدرات الجماهير؛ إلى تحليل طبيعة الأجيال الجديدة، من خلال محورين رئيسين:
1- تهاوي المركزية في العالم العربي: حيث تشهد المنطقة العربية في العقد الثالث من الألفية تراجعاً في مركزية الدولة، ومركزية الحاكم (المستبد)، وكذلك في مركزية العواصم الرئيسية كمراكز للسلطة السياسية، فبالتزامن مع تهاوي سلسلة الزعماء الانقلابيين-العسكريين خلال الفترة (2000-2019)؛ فقدت كل من: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء، والخرطوم، وطرابلس، نفوذها التاريخي على المدن والمحافظات الأخرى، وبرزت أدوار جديدة لحواضر منافسة كعدن، وبنغازي، والبصرة، وأربيل، والسليمانية، وحلب، وإدلب، ووقعت تلك الأحداث بالتزامن مع تراخي القبضة الأمنية في تلك الحواضر والمدن.
2- ظهور جيلين جديدين في المشهد العربي، هما: جيل الألفية (Millennial Generation)، من مواليد الأعوام (1980-2000)، وجيل ما بعد الألفية (Generation Z)، من مواليد الأعوام (2000-2020)، والذين تتراوح تقديراتهم ما بين 270 و300 مليون شابة وشاب في العالم العربي، يمثلون أكبر تكدس سكاني عرفته المنطقة في تاريخها المدون، وتشكل سلوكياتهم نمطاً مختلفاً عن الأجيال التي سبقتهم، حيث يتميزون بتحصيل علمي أكثر من سابقيهم، وبقدرتهم على توظيف التقنيات الرقمية والتواصل الشبكي، كما أنهم أكثر وعياً بحقوقهم، وأكثر استعداداً للمجازفة من أجل تحقيق ما يؤمنون به، وهم في الغالب أقل أيديولوجية وتزمتاً من الأجيال السابقة.
ولا تشكل هذه الفئة الشابة ثورة في سوق العمل فحسب؛ بل يتسع تأثيرها ليشمل قطاعات التعليم والصحة، والخدمات، ويمتلكون مهارات عالية في توظيف التكنولوجيا لتعزيز التواصل والتأثير في الجموع، بصورة تفوق قدرة مؤسسات الدولة، ولا يؤمنون بالمرجعيات الإيديولوجية الكلاسيكية التي سادت في الحقبة الماضية، بل يعتمدون على منظومات شبكية في العالم الافتراضي.
ويهيمن على هذه الفئة الشابة، حالة من القلق إزاء انعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي، وعدم قدرتهم على تحقيق الاستقلالية المادية، وحرمانهم من فرص العمل والعيش الكريم، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المعيشة، وتفشي البطالة والفساد، وتحملهم سائر تبعات الثورات والحروب العربية، إذ يُعتبرون الفئة الأكثر معاناة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية الناتجة عن تلك الحروب، ويُصنف الملايين منهم ضمن ضحايا حركات الهجرة، والنزوح، واللجوء خلال الفترة 2011-2023، ما يدفعهم للانفتاح نحو الخارج والاهتمام بالمشاكل الإقليمية والدولية مقابل تضاؤل الحس الوطني وضعف الشعور بالهوية والانتماء الوطني.
ومن المرجح أن يفرض هذا الجيل معايير جديدة في مفاهيم السيولة السياسية والاقتصادية العابرة للحدود، حيث يُتوقع أن تشهد المجتمعات العربية تحولات كبرى لدى استحواذ هذه الفئة تدريجياً على الحياة العامة، بالتزامن مع استمرار تراجع أدوار القادة (الأفراد) في شتى المجالات؛ السياسية والثقافية والمجتمعية، حيث تتراجع المركزية-الهرمية التي صبغت المشهد العربي في العقود السبعة الماضية.
وتمثل ظاهرة تنامي السيولة مقابل انهيار مفاهيم الفردية والمركزية السياسية حالة “انكشاف أمني”، نتيجة عولمة الأزمات الاقتصادية، وانتشار شبكات التطرف والجريمة المنظمة العابرة للحدود، ونشوء مفاهيم جديدة للقوة تقوم على دور التكنولوجيا في تعزيز التنافسية الاقتصادية، وبروز اقتصاديات جديدة، أبرزها “اقتصاد المعرفة” الذي يمثل نحو 7 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي العالمي.