أسفرت حقبة الثمانينات، وما صاحبها من تراجع للاتحاد السوفيتي وتدهور الأمن الدولي؛ عن ظهور مفهوم “المعضلة الأمنية”، التي عكست حالة الحيرة فيما إذا كان سباق التسلح المستمر هو لأغراض دفاعية فحسب، أم يمكن توظيفه لأغراض هجومية، وأدى الانشطار في صفوف الواقعيين إلى ظهور عدة أجنحة في رؤيتهم للتعامل مع تلك المعضلة، حيث رآها بعضهم حالة مزمنة في السياسة الدولية، فيما جادل آخرون بأنه من الممكن معالجتها عبر أدوات “ميزان القوى”.
وقامت على إثر ذلك نظرية أشمل في الأمن، أُطلق عليها “الواقعية الجديدة” (neo-realism)، والتي تُعرّف بأنها: “إعادة تفسير للواقعية التي تفترض أن بنية النظام الدولي هي المستوى الأهم للدراسة، وذلك من خلال التركيز على القوانين العامة كأدوات لتحليل الأحداث وتفسيرها”، حيث عمد منظروها إلى إعادة النظر في حصر الأمن بالإطار العسكري، وقاموا بتوسيعه ليشمل:
– “الأمن السياسي”، المتمثل في الاستقرار التنظيمي للدول، وفي أنظمة الحكم والإيديولوجيات التي تستمد منها شرعيتها.
– “الأمن الاقتصادي” الذي يهتم بالموارد المالية والأسواق الدولية للحفاظ على مستويات مقبولة من الرفاه للدولة.
– “الأمن الاجتماعي”: المتمثل في قدرة المجتمعات على الاحتفاظ بخصوصياتها في اللغة والثقافة والهوية الوطنية والدينية والعادات والتقاليد.
– “الأمن البيئي”: الذي يتطلب منظومة قوانين دولية تساعد على حماية المحيط الكوني كعامل أساسي تعتمد عليه سائر الأنشطة البشرية.
ويُعتبر كتاب مورغنثاو: “السياسة بين الأمم” أهم مرجع في الواقعية الجديدة، والذي اعتبر أن السياسة الدولية هي ساحة صراع لحيازة مصادر القوة، بغض النظر عن أهدافها النهائية البعيدة، معتبراً أن “القوة السياسية” هي: “المقدرة على السيطرة على تفكير وسلوك الآخرين”، وموضحاً أن: “القوة السياسية هي علاقة نفسية بين من يمارسونها وبين من تمارس ضدهم، فهي تمنح الأولين سيطرة تامة على بعض ما يقوم به الآخرون من أعمال عن طريق النفوذ الذي يملكونه على عقولهم، وقد يُمارس هذا النفوذ بأسلوب الأمر، أو التهديد، أو الإقناع، أو بمزيج من بعض تلك الوسائل معاً. كذلك فإنه مهما كانت الأهداف المادية لأية سياسة خارجية كالحصول على مصادر المواد الأولية أو السيطرة على الطرق البحرية أو إجراء تغييرات إقليمية، فإنها تتطلب دائماً السيطرة على سلوك الآخرين من خلال التأثير على عقولهم”.
وفي خروج عن النسق الكلاسيكي؛ سعى الواقعيون الجدد إلى التخفيف من صرامة الشرط الخاص بالمصلحة الفردية، لتحقيق الأمن الاقتصادي، داعين إلى تعزيز التبادل التجاري بين الدول، وضمان حرية انتقال البضائع والأشخاص والخدمات ورأس المال عبر الحدود، وإلى انتهاج سياسات حماية المنتج المحلي، ومعترفين بضرورة إقامة أنظمة دولية (فوق قومية) مثل “الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة”، والتي تحولت إلى “المنظمة العالمية للتجارة” فيما بعد، واضطلعت بمهمة وضع نماذج لأحكام ومعايير وإجراءات التبادل الدولي.
وفي نظرتهم لمشكلة “المعضلة الأمنية”؛ رأى الواقعيون الجدد أن الحرب هي معلم تاريخي دائم من معالم السياسة العالمية، الأمر الذي يتطلب التعاون بين الدول في ظل تنامي مصاعب الاعتماد على الذات بالنسبة لكل دولة على حدة.
ويمكن تلخيص أبرز أطروحات الواقعية الجديدة في النقاط التالية:
- النظام الدولي هو نظام فوضوي، إذ لا توجد سلطة مركزية يمكنها ضبط سلوك الدول.
- للحفاظ على سيادة الدولة وبقائها وتوسيع نطاقها لابد من بناء قوة عسكرية هجومية ضاربة.
- الريبة والشك هما عاملان متأصلان في النظام الدولي، وهما المحدد الأساس في سلوك الدولة تجاه نوايا باقي الدول، ما يتطلب الاستعداد الدائم واليقظة إزاء الآخرين.
- بقاء الدولة واستمرار سيادتها واستقلالها هي أهم محددات السلوك إزاء المجتمع الدولي.
- تغليب عدم اليقين في تقدير إمكانات وقدرات ونوايا الخصوم، بسبب التضليل الذي يمارسونه، وبسبب شح المعلومات أو كثرتها أو تضاربها، وقد يؤدي ذلك إلى سوء إدراك، أو سوء تقدير، القوة الحقيقية أو القوة المفترضة للدولة الخصم.
- بناء الأمن القومي أو انعدامه، متعلق ببنية النظام الدولي ذات الطابع الفوضوي، وهذا ما يؤدي إلى اتسام السياسات العالمية بالصراع كما كان في الماضي.
- التعاون بين الدول أمر ممكن وقائم فعلاً، لكنه مقيد بمنطق التنافس المنضبط، والذي لا يلغيه التعاون مهما كان حجمه، فالسلام الدائم الذي لا تتنازع فيه الدول من أجل السيطرة، أمر لا يمكن تحققه.
وللمواءمة مع تحولات ما بعد الحرب الباردة؛ طرح الواقعيون الجدد نظرية جديدة لتفسير عالم السياسة الدولية عبر دراسة فترات السلم الطويلة نسبياً، معتبرين أن بنية نظام معين تتحدد بمبادئها النظمية، أي بتحليل مدى وجود سلطة شاملة أو غيابها من جهة، وبتوزع القوة والقدرات على مختلف الدول الأطراف من جهة ثانية.
ومثلت كتابات الباحث الأمريكي، روبيرت غيلبين، أساساً لفهم الواقعية الجديدة، حيث انطلق من اعتبار الدولة لاعباً أساسياً، ومن افتراض عقلانيتها، لكنه أضاف عناصر مهمة تتمثل في اعتبار أن بنية النظام الدولي تلعب دوراً رئيساً في تحديد القوة، وأن توزع القوة بين الدول يمثل العامل الأساسي للتحكم في النظام الدولي الذي يتحرك وفق سلسلة دورات تمر بها الدول عبر التاريخ، والتي تقوم بدورها على أساس القوة الاقتصادية، وميل الدول إلى الاستهلاك بدلاً من الاستثمار.
وبناء على تلك المعطيات رأى الواقعيون الجديد أن الفوضى في النظام الدولي ستدفع بالدول ذات القوة والسيادة للتعاون فيما بينها لتشكيل نظام دولي يمنع الحروب، ونظروا إلى تطور السياسة الدولية من مفهوم القطبية، حيث مر النظام الدولي بحقبة النظام متعدد الأقطاب في نهاية القرن التاسع عشر (بريطانيا العظمى، وروسيا، وبروسيا، وفرنسا، والنمسا)، أعقبه نظام القطبين بعد الحرب العالمية الثانية (الشيوعية والرأسمالية)، والذي سعت فيه الدول الفاعلة لتحقيق الأمن من خلال إبرام اتفاقيات وتحالفات متباينة، وتجنبت وقوع حروب كبرى، راضية بحروب صغرى، واعتبرت أن التفاوض هو أفضل من القتال، فيما استمرت في سعيها للحد من طموحات أية دولة للهيمنة وتوسيع النفوذ.