الأمن في منظور المدرسة الواقعية

هذه خريطة أفريقيا!

في 15 نوفمبر 1884؛ جلس المستشار الألماني المخضرم، أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك، على رأس الطاولة في مؤتمر ضم ثلاثة عشر وفداً أوروبياً يمثلون كلاً من: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، واضعاً خريطة القارة الإفريقية على الطاولة.

كان بسمارك معروفاً بمعارضته لفكرة التوسع الاستعماري، واعتباره أن تكاليف احتلال مستعمرة والدفاع عنها تتجاوز فوائدها، لكن التنافس المحموم بين كل من بريطانيا وفرنسا والبرتغال وبلجيكا لاحتلال أجزاء من أفريقيا اضطر بسمارك للدخول في حلبة الصراع، ما فرض على الإمبراطورية الألمانية الصاعدة احتلال أجزاء واسعة من غرب إفريقيا في العام نفسه (1884)، وإعلان حمايتها لأجزاء أخرى من القارة، وعلى رأسها الكاميرون.

 استمر المؤتمر 100 يوم(!)، حيث انتهت أعماله في فبراير 1885، وأسفر عن اقتسام القارة الإفريقية من قبل أوروبا، وفق اتفاق وضع عدة قواعد لتنظيم الاستعمار في إفريقيا، ونص على إقامة منطقة تجارة حرة في أجزاء معينة من القارة، ونتج عن الاتفاق سيطرة سبع دول أوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا) على نحو 93 بالمئة من مساحة القارة الإفريقية، بحيث لم يتبقَ في كل أفريقيا دولة مستقلة، باستثناء الحبشة.

ومن اللافت للانتباه أن ألمانيا لم تكن الكاسب الأكبر من تلك المعاهدة، بل تتندر بعض المصادر بأن زعماء الدول الأوروبية الأخرى كانوا يضعون خارطة مستعمراتهم في إفريقيا خلفهم في الاجتماعات تباهياً بكثرتها، فيما كان بسمارك يضع خارطة أوروبا خلفه، وعندما سُئل: “أين خارطة المستعمرات الألمانية بإفريقيا؟” أشار إلى خارطة أوروبا، قائلاً: “خارطة إفريقيا خاصتي هي أوروبا، هنا روسيا، وهنا فرنسا، ونحن في الوسط…هذه خارطة أفريقيا بالنسبة لي”.

وتُذكر تلك القصة للإشارة إلى واقعية بسمارك؛ فعلى الرغم من صرامته التي أكسبته لقب “المستشار الحديدي” إلا إنه لم يكن ميالاً لاستخدام القوة المفرطة في حروبه ضد كل من الدنمارك والنمسا وفرنسا، وفي المعارك التي خاضها لتوحيد الولايات الألمانية (1871)، بل كان يحرص على الموازنة بين العمليات العسكرية وبين إستراتيجية “توازن القوى” للحفاظ على ما حققته ألمانيا من مكاسب، ويسعى إلى إحلال السلام للحيلولة دون إثارة حرب قد تدفع فرنسا للبحث عن حلفاء لها ضد ألمانيا.

ولذلك فإنه حرص على عزل فرنسا عن بقية الدول الأوروبية، وبالذات روسيا، كي لا يضطر لاحقاً إلى خوض حرب على جبهتين اثنتين؛ ضد روسيا من جهة، وضد فرنسا من جهة أخرى.

ولتحقيق رؤيته تبنى بسمارك سياسة واقعية تدمج بين الضرورات العسكرية وبين الترتيبات السياسية، بحيث يتم تعزيز الانتصارات العسكرية بترتيبات تضمن بقاء الرايخ الألماني في حالة سلم لأطول فترة ممكنة، ودفعته تلك السياسة إلى تجنب الدخول في منافسة مع المملكة المتحدة، والتنازل عن طموحات ألمانيا الاستعمارية، ورفضه توسيع الأسطول والجيش الألماني.

وبالإضافة إلى إقامة علاقات قوية مع إيطاليا؛ عرض بسمارك الصداقة على الإمبراطورية النمساوية المجرية وعلى روسيا، اللتين انضم إمبراطوريهما إلى فيلهلم الثاني في تحالف عرف بتحالف الأباطرة الثلاث عام 1873.

وبخلاف توجهات جنرالاته الطموحين؛ عمل بسمارك جاهداً على كبح جماح الجيش الألماني لمنعه من تنفيذ المزيد من العمليات التي يمكن أن تفضي إلى حروب جديدة، وأكسبت تلك السياسية بسمارك إشادة عدد من المؤرخين به بصفته رجل دولة ساهم في توحيد ألمانيا، واستخدم سياسة “توازن القوى” للحفاظ على السلام في أوروبا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر.

لكن ذلك كان على حساب سمعته العسكرية، حيث شكك المؤرخ البريطاني، تايلور، بقدرات بسمارك التي رآها “هشة وذات سيطرة ضئيلة على الأحداث”، معتبراً أن موهبة بسمارك الكبرى لا تكمن في إنجازاته العسكرية، وإنما في مهاراته السياسية، وفي طريقة ردود أفعاله على الأحداث، وتحويلها إلى ميزة في صالحه.

الواقعية السياسية

وعلى الرغم من التضحية بسمعته العسكرية؛ إلا إن المؤرخين استمروا في تصنيف بسمارك على رأس أقطاب “الواقعية السياسية” (realpolitik)، والتي عرّفها أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في جامعة كامبردج، جوناثان هاسلام، بأنها: “مجموعة من الأفكار التي تدور حول المقترحات المركزية الأربعة: السياسة الجماعية، الأنانية، الفوضى، والقوة السياسية”. وتشير الواقعية السياسية بهذا لمفهوم إلى الدبلوماسية التي تستند إلى السلطة وإلى العوامل العلمية والمادية، بدلاً من المفاهيم العقائدية أو الأخلاقية، وتشترك في مقاربتها مع المذهبين الواقعي والبراغماتي.

واستند الواقعيون عقب الحرب العالمية الأولى على أعمال كل من: توماس هوبز، ونيكولو مكيافيلي، وغيرهما من المنظرين الكلاسيكيين للرد على المثاليين الذين تقدموا بحزمة معايير تربط السياسات الخارجية للدول بالأخلاق وبالسلوكيات المثالية التي قامت عليها “عصبة الأمم” كأداة دولية لحل المنازعات والحد من الصراعات.

وفي مقابل جدليات المثاليين؛ رأى الواقعيون أن الفرد عدواني بالدرجة الأولى، وأنه مجبول على السعي إلى السلطة، وأن الأفراد ينتظمون في دول، تعمل كل واحدة منها، كوحدة مستقلة عن الدول الأخرى، وتتصرف وفق ما يحقق مصلحتها الوطنية، عبر ممارسة القوة ضد الدول الأخرى لإلحاق الأذى بها أو إجبارها على الإذعان لمصالحها، ولتحقيق ذلك؛ تسعى لحيازة أكبر قدر من القوة، بهدف التفوق على خصومها في النظام الدولي الفوضوي الذي تغيب فيه النُظُمية والتراتبية.

ونظراً لأن الفوضى هي الطابع الرئيس للعلاقات الدولية في نظر الواقعيين؛ فإنهم رأوا أنه من المتعين على كل دولة أن تعتمد على نفسها، وأن تحقق الأمن لنفسها، وذلك من خلال تقدير ميزان القوى بين مختلف الدول، والإبقاء عليه متماسكاً فيما يُحقق مصالحها قدر الإمكان.

ورأى الواقعيون أن الظاهرة السياسية لا تحددها الأخلاق، بل تقوم على دعامتي: “القوة” و”المصلحة”، وأن أساس الواقع الاجتماعي هو “الجماعة”، حيث يتفاعل الأفراد في الدولة بوصفهم أعضاء في مجموعات مختلفة (إثنية، ودينية، وعشائرية، ومذهبية)، ويتم تحقيق الأمن من خلال التوازن بين هذه الجماعات، معتبرين أن النزاع بين البشر هو العنصر الثابت في العلاقة بينهم، وأنه لا وجود للانسجام بين الدول في ظل تضارب مصالحها، واختلاف مستويات القوة بينها.

ويمكن تلخيص أهم الأسس التي قامت عليها النظرية الواقعية فيما يلي:

  • الدولة هي الوحدة اللاعبة الرئيسية، وتشكل كل دولة وحدة مستقلة في النظام الدولي.
  • تمثل مفاهيم: “المصلحة” و”القوة” و”التأثير”، الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول.
  • القوة السياسية، ليست مرادفة للعنف بل تتضمن عناصر أخرى كالتأثير في العلاقات المتبادلة بين الدول، كما تشمل العوامل الاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تحدد حجم الدولة وإمكاناتها وبالتالي تأثيرها السياسي.
  • يقوم النظام الدولي على الفوضى وتضارب المصالح، وليس على أساس الانسجام بين الدول، بينما يهيمن الصراع على العلاقات بين الدول، التي تسعى كل واحدة منها إلى زيادة قوتها، وتوظيفها فيما يحقق مصالحها، بغض النظر عن التأثيرات السلبية على الدول الأخرى.
  • يُفترض أن يتصرف صناع القرار في كل دولة بصورة عقلانية تحقق مصالح دولتهم، وأن تصدر القرارات الوطنية وفق ما يحقق أمن الدولة ويلبي حاجتها لحماية نفسها.

إلا أن التحولات العالمية التي طرأت في خمسينيات القرن الماضي، فرضت مفاهيم جديدة في الدراسات الأمنية، خاصة فيما يتعلق بمجالات “الأمن الدولي”، و”النظام الدولي”، و”الأمن الجماعي”، والتي تحولت إلى مصطلحات تُدرّس ضمن تخصص القانون الدولي والنظرية السياسية.

وللتعامل مع تلك التحولات؛ وضع الواقعيون مبادئ جديدة لتعزيز قدرة الدولة على صون سيادتها واستقلالها، رافضين أن يكون المجتمع الدولي القيمة السياسية العليا، ومعززين لمبدأ أن الدولة هي الهدف الأسمى، وأن لكل دولة قيمها ومعتقداتها وثقافتها الخاصة، وأنه لا توجد مؤسسات مشتركة أو سلطة عليا فوق سلطة الدولة، حيث رأى توماس هوبز أن: “المعيار بالنسبة للدول أن تكون أسلحتها وعيونها ثابتة على الدول الأخرى في ظل غياب المسؤولية الدولية أو عدم وجود معايير وقواعد تقيد تلك الدول”.

القوى اللاعبة الأساسية

الدول، النظام الدولي

الفرد

يميل إلى الجشع والخصومة، ويسعى إلى تعزيز قوته

الدولة

وحدة سياسية متكاملة، تسعى إلى القوة، وتعمل على تحقيق مصالحها

النظام الدولي

فوضوي، يمكن أن يصل إلى الاستقرار في ظل نظام متوازن

التغيير

يحصل التغيير بناء على أسس بنيوية تدريجية بطيئة

أبرز مبادئ الواقعية

تطور النظرية الواقعية

شهدت “الواقعية الكلاسيكية” (Classical Realism) مراجعات محورية نتيجة التحولات التي شهدتها البيئة الدولية، حيث برز عدد من الواقعيين الذين قللوا من شأن الطبيعة البشرية لرجال الدولة والدبلوماسيين، واعتبروا أن ضغوط الفوضى هي التي تدفع نحو تشكيل النتائج مباشرة، وذلك ضمن مدرسة جديدة أُطلق عليها “الواقعية البنيوية” (Structural Realism)، والتي انقسمت بدورها إلى تيارين رئيسين هما:

أ- الواقعية الليبرالية (liberal realism) يطلق عليها كذلك اسم “المدرسة الإنجليزية في نظرية العلاقات الدولية” (English school of international relations theory)، والتي أقرت بحالة الفوضى السياسية، لكنها رأت إمكانية قيام نظام دولي يقوم على “مجتمع من الدول”، على اعتبار أن اشتراك بعض الدول في مصالح مشتركة يؤدي إلى تطوير مجموعة من “القواعد” والمؤسسات التي تسهم في تسيير علاقاتهم، والاعتراف بمصالحهم المشتركة في الحفاظ على هذه القواعد، وينشأ نتيجة لذلك “مجتمع دولي”، يقوم على ثلاثة عناصر تتمثل في: وضع قيود على استخدام القوة، واحترام الاتفاقيات المبرمة وضمان الالتزام بها، وحماية حقوق الملكية للدول الأعضاء، بما في ذلك احترام سيادة تلك الدول.

ورأت هذه المدرسة أن الأفكار (بدلاً من مجرد القدرات المادية) هي التي تشكل سلوك السياسة الدولية، وبالتالي فإنها يجب أن تكون المحور الرئيس الذي يتعين الاهتمام به في مجال التحليل والنقد، وهي شبيهة بالنظرية البنائية في هذا المجال، إلا إنها أكثر انفتاحاً على المناهج المعيارية مما هو حال النظرية البنائية. وانقسمت هذه المدرسة إلى جناحين رئيسين، هما:

– الجناح التعددي الذي يرى ضرورة احتواء تنوع الجنس البشري، وما ينتج عنه من تعدد في وجهات النظر السياسية والدينية والتقاليد العرقية واختلاف اللغات ضمن “مجتمع من الدول” يسمح بأكبر قدر ممكن من الاستقلال للدول التي تمثلها بهدف تمكينها من التعبير عن تصوراتها المختلفة.

– الجناح التضامني الذي يرى ضرورة قيام “مجتمع الدول” بتعزيز ثقافات موحدة أو مشتركة في القضايا المحورية مثل: “الاستقلال” و”التحرر” و”حماية حقوق الإنسان”، وغيرها من القضايا الإنسانية التي قد تتطلب تدخلاً خارجياً لفرضها.

ب- “الواقعية الكلاسيكية الجديدة” (Neo-Classical Realism): التي انطلقت من تفسير تصرفات الدولة في النظام الدولي عبر تحليل المتغيرات المؤسسية المتداخلة، مثل توزيع قدرات القوة بين الدول، والمتغيرات المعرفية، والنوايا والتهديدات، والتحولات في مؤسسات الدولة والنخب والجهات الفاعلة المجتمعية التي تؤثر على قوة وحرية عمل صانعي القرار داخل كل دولة.

ومع تمسكها بالمفهوم الواقعي لتوازن القوى، رأت “الواقعية الكلاسيكية الجديدة” أن عدم ثقة الدول ببعضها، وعدم قدرتها على فهم سياسات بعضها إزاء البعض بدقة يمكن أن يؤدي إلى توسع أو خلل في السلوك يؤدي إلى اختلالات داخل النظام الدولي، وقد يفضي ذلك إلى وقوع الحروب، ما دفع بمنظريها لاستحداث مفهوم “التوازن المناسب” الذي يحدث عندما تدرك الدولة بشكل صحيح نوايا الدول الأخرى وتوازناتها وفقاً لذلك.

الواقعية الجديدة

أسفرت حقبة الثمانينات، وما صاحبها من تراجع للاتحاد السوفيتي وتدهور الأمن الدولي؛ عن ظهور مفهوم “المعضلة الأمنية”، التي عكست حالة الحيرة فيما إذا كان سباق التسلح المستمر هو لأغراض دفاعية فحسب، أم يمكن توظيفه لأغراض هجومية، وأدى الانشطار في صفوف الواقعيين إلى ظهور عدة أجنحة في رؤيتهم للتعامل مع تلك المعضلة، حيث رآها بعضهم حالة مزمنة في السياسة الدولية، فيما جادل آخرون بأنه من الممكن معالجتها عبر أدوات “ميزان القوى”.

وقامت على إثر ذلك نظرية أشمل في الأمن، أُطلق عليها “الواقعية الجديدة” (neo-realism)، والتي تُعرّف بأنها: “إعادة تفسير للواقعية التي تفترض أن بنية النظام الدولي هي المستوى الأهم للدراسة، وذلك من خلال التركيز على القوانين العامة كأدوات لتحليل الأحداث وتفسيرها”، حيث عمد منظروها إلى إعادة النظر في حصر الأمن بالإطار العسكري، وقاموا بتوسيعه ليشمل:

– “الأمن السياسي”، المتمثل في الاستقرار التنظيمي للدول، وفي أنظمة الحكم والإيديولوجيات التي تستمد منها شرعيتها.

– “الأمن الاقتصادي” الذي يهتم بالموارد المالية والأسواق الدولية للحفاظ على مستويات مقبولة من الرفاه للدولة.

– “الأمن الاجتماعي”: المتمثل في قدرة المجتمعات على الاحتفاظ بخصوصياتها في اللغة والثقافة والهوية الوطنية والدينية والعادات والتقاليد.

– “الأمن البيئي”: الذي يتطلب منظومة قوانين دولية تساعد على حماية المحيط الكوني كعامل أساسي تعتمد عليه سائر الأنشطة البشرية.

ويُعتبر كتاب مورغنثاو: “السياسة بين الأمم” أهم مرجع في الواقعية الجديدة، والذي اعتبر أن السياسة الدولية هي ساحة صراع لحيازة مصادر القوة، بغض النظر عن أهدافها النهائية البعيدة، معتبراً أن “القوة السياسية” هي: “المقدرة على السيطرة على تفكير وسلوك الآخرين”، وموضحاً أن: “القوة السياسية هي علاقة نفسية بين من يمارسونها وبين من تمارس ضدهم، فهي تمنح الأولين سيطرة تامة على بعض ما يقوم به الآخرون من أعمال عن طريق النفوذ الذي يملكونه على عقولهم، وقد يُمارس هذا النفوذ بأسلوب الأمر، أو التهديد، أو الإقناع، أو بمزيج من بعض تلك الوسائل معاً. كذلك فإنه مهما كانت الأهداف المادية لأية سياسة خارجية كالحصول على مصادر المواد الأولية أو السيطرة على الطرق البحرية أو إجراء تغييرات إقليمية، فإنها تتطلب دائماً السيطرة على سلوك الآخرين من خلال التأثير على عقولهم”.

وفي خروج عن النسق الكلاسيكي؛ سعى الواقعيون الجدد إلى التخفيف من صرامة الشرط الخاص بالمصلحة الفردية، لتحقيق الأمن الاقتصادي، داعين إلى تعزيز التبادل التجاري بين الدول، وضمان حرية انتقال البضائع والأشخاص والخدمات ورأس المال عبر الحدود، وإلى انتهاج سياسات حماية المنتج المحلي، ومعترفين بضرورة إقامة أنظمة دولية (فوق قومية) مثل “الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة”، والتي تحولت إلى “المنظمة العالمية للتجارة” فيما بعد، واضطلعت بمهمة وضع نماذج لأحكام ومعايير وإجراءات التبادل الدولي.

وفي نظرتهم لمشكلة “المعضلة الأمنية”؛ رأى الواقعيون الجدد أن الحرب هي معلم تاريخي دائم من معالم السياسة العالمية، الأمر الذي يتطلب التعاون بين الدول في ظل تنامي مصاعب الاعتماد على الذات بالنسبة لكل دولة على حدة.

ويمكن تلخيص أبرز أطروحات الواقعية الجديدة في النقاط التالية:

  • النظام الدولي هو نظام فوضوي، إذ لا توجد سلطة مركزية يمكنها ضبط سلوك الدول.
  • للحفاظ على سيادة الدولة وبقائها وتوسيع نطاقها لابد من بناء قوة عسكرية هجومية ضاربة.
  • الريبة والشك هما عاملان متأصلان في النظام الدولي، وهما المحدد الأساس في سلوك الدولة تجاه نوايا باقي الدول، ما يتطلب الاستعداد الدائم واليقظة إزاء الآخرين.
  • بقاء الدولة واستمرار سيادتها واستقلالها هي أهم محددات السلوك إزاء المجتمع الدولي.
  • تغليب عدم اليقين في تقدير إمكانات وقدرات ونوايا الخصوم، بسبب التضليل الذي يمارسونه، وبسبب شح المعلومات أو كثرتها أو تضاربها، وقد يؤدي ذلك إلى سوء إدراك، أو سوء تقدير، القوة الحقيقية أو القوة المفترضة للدولة الخصم.
  • بناء الأمن القومي أو انعدامه، متعلق ببنية النظام الدولي ذات الطابع الفوضوي، وهذا ما يؤدي إلى اتسام السياسات العالمية بالصراع كما كان في الماضي.
  • التعاون بين الدول أمر ممكن وقائم فعلاً، لكنه مقيد بمنطق التنافس المنضبط، والذي لا يلغيه التعاون مهما كان حجمه، فالسلام الدائم الذي لا تتنازع فيه الدول من أجل السيطرة، أمر لا يمكن تحققه.

وللمواءمة مع تحولات ما بعد الحرب الباردة؛ طرح الواقعيون الجدد نظرية جديدة لتفسير عالم السياسة الدولية عبر دراسة فترات السلم الطويلة نسبياً، معتبرين أن بنية نظام معين تتحدد بمبادئها النظمية، أي بتحليل مدى وجود سلطة شاملة أو غيابها من جهة، وبتوزع القوة والقدرات على مختلف الدول الأطراف من جهة ثانية.

ومثلت كتابات الباحث الأمريكي، روبيرت غيلبين، أساساً لفهم الواقعية الجديدة، حيث انطلق من اعتبار الدولة لاعباً أساسياً، ومن افتراض عقلانيتها، لكنه أضاف عناصر مهمة تتمثل في اعتبار أن بنية النظام الدولي تلعب دوراً رئيساً في تحديد القوة، وأن توزع القوة بين الدول يمثل العامل الأساسي للتحكم في النظام الدولي الذي يتحرك وفق سلسلة دورات تمر بها الدول عبر التاريخ، والتي تقوم بدورها على أساس القوة الاقتصادية، وميل الدول إلى الاستهلاك بدلاً من الاستثمار.

وبناء على تلك المعطيات رأى الواقعيون الجديد أن الفوضى في النظام الدولي ستدفع بالدول ذات القوة والسيادة للتعاون فيما بينها لتشكيل نظام دولي يمنع الحروب، ونظروا إلى تطور السياسة الدولية من مفهوم القطبية، حيث مر النظام الدولي بحقبة النظام متعدد الأقطاب في نهاية القرن التاسع عشر (بريطانيا العظمى، وروسيا، وبروسيا، وفرنسا، والنمسا)، أعقبه نظام القطبين بعد الحرب العالمية الثانية (الشيوعية والرأسمالية)، والذي سعت فيه الدول الفاعلة لتحقيق الأمن من خلال إبرام اتفاقيات وتحالفات متباينة، وتجنبت وقوع حروب كبرى، راضية بحروب صغرى، واعتبرت أن التفاوض هو أفضل من القتال، فيما استمرت في سعيها للحد من طموحات أية دولة للهيمنة وتوسيع النفوذ.

ثنائية "القوة" و"المصلحة"

مثلت “القوة” و”المصلحة” المكونين الرئيسين لسائر منظري الواقعية، على اعتبار أن الدولة هي نواة النظام الدولي، وأنها (مثل الفرد) تمتلك نزعة غريزية للحصول على المزيد من الموارد، وتسعى لفرض سيطرتها على الدول الأخرى وإخضاعها، وقد يتحقق التوازن بين القوى لفترة مؤقتة، إلا أن التوازن هو أمر مؤقت، بينما يشكل الصراع العنصر الدائم والحتمي والمستمر، وهنا يأتي دور السياسة الدولية للتوفيق بين مصالح الدول ومنع وقوع الحروب عبر الطرق الدبلوماسية.

مع ضرورة التأكيد على أن “القوة القومية” لا تقتصر على القوة العسكرية فحسب، بل تشمل: السكان، والموارد الطبيعية، والموقع الاستراتيجي، والتطور التكنولوجي، والإنتاج الصناعي والزراعي، ونظم الحكم ومؤسسات الدولة، ومستوى التسلح، والدعاية والرأي العام، وهي ليست هدفاً بحد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق أمن الدولة وممارسة السيطرة والنفوذ على الآخرين.

وتختلف أهداف الدول وفقاً للقوة المتاحة لديها، حيث تتمثل أهم أهداف استخدام القوة فيما يلي:

1- أهداف التوسع القومي، وتتشكل في عدة مظاهر، كالسعي للحصول على المزيد من القوة بهدف السيطرة على الآخرين، وأطماع التوسع الإقليمي، أو استرجاع أحد الأقاليم الذي فقدته الدولة في مرحلة ما، أو التحرر من السيطرة الأجنبية.

2- أهداف البقاء القومي، وتشمل: تأمين السلامة الإقليمية والاستقلال القومي، والاحتفاظ بنظام أمني يحمي الدولة من الخضوع لنفوذ الآخرين، والدفاع عن استثمارات الدولة في الخارج باعتبارها أحد مصادر القوة التي لا يمكن التخلي عنها.

3- أهداف الذات القومية: والمرتبطة بالمُثُل الأعلى مستوى من الدولة، مثل: السلام العالمي، والشرعية الدولية، والحرية، وغيرها من القيم العليا، والتي قد تدفع الدولة لتقديم بعض التنازلات، وفرض القيود الذاتية على نفسها لتحقيق مصالح قومية أكبر.

4- الحفاظ على الوضع القائم: حيث تسعى بعض الدول للمحافظة على التوزيع القائم للقوة منعاً من وقوع اختلال إذا توسعت إحدى الدول على حساب الآخرين، وغالباً ما يتم ذلك عبر المعاهدات والاتفاقيات.

5- التوسع الاستعماري: المتمثل في سعي بعض الدول إلى تغيير الوضع القائم وإحداث تبديل جوهري في العلاقات بين الدول عبر التوسع على حساب الآخرين، ظناً منها بإمكانية تحقيق انتصار سريع في معركة حاسمة، أو إمكانية استغلال ضعف دول مجاورة، وذلك من خلال الوسائل العسكرية والاقتصادية والفكرية على حد سواء، إذ إن الاقتصار على الحسم العسكري لا يضمن البقاء لفترة طويلة.

6- تعزيز مكانة الدولة وتقويتها: بالمزج بين الأدوات الدبلوماسية والقوة العسكرية لردع الآخرين من التعدي على أراضيها أو استهداف مصالحها.

إلا أن أطروحات الواقعية تعرضت لانتقادات بسبب إخفاقها في التمييز بين الصيغ المختلفة للقوة، وعجزها عن تعريف المصلحة، التي أصبحت في حقبة ما بعد الألفية أكثر تداخلاً وتعقيداً، بحيث لم تعد عملية حيازة القوة وحدها كفيلة بتحقيق المصلحة القومية.

وتمثّل الانتقاد الأكبر للواقعية في ضعف إدراكها لأهمية العوامل المحلية في الدولة، والتي لا يمكن قياسها وفق معياري “القوة” و”المصلحة”، ولا تخضع في الوقت نفسه لمفهوم “توازن القوى”، إذ إن أشرس الحروب العالمية وقعت نتيجة إنشاء موازين قوى ومن ثم اختلالها، وبالتالي فإن تحقيق التوازن ليس بالضرورة أن يكون كفيلاً بإحلال السلم أو تفادي وقوع الحروب.

وقد دفع ذلك الاختلال بمعظم الواقعيين إلى إغفال عنصر الأخلاقيات الدولية، وما يتعلق بها من سياسات: نزع السلاح، واحترام حقوق الإنسان، ومساعدة الدول الفقيرة، مقابل تأجيج حروب “هامشية” رأوا أنه يمكن للمجتمع الدولي أن يتعايش معها.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021