وتقدم الأنشطة الشبكية للمنظومات الأمنية الدولية صورة مغايرة لما تقدمه النظريات التقليدية التي تُغرق في مسائل التنظير، وتخوض غمار عدد من التخصصات البعيدة عن الممارسات الأمنية كل البعد.
ونظراً إلى تنامي الحاجة إلى ردم الفجوة القائمة بين الممارسة والتنظير؛ برزت “المدرسة النقدية للأمن” (critical security studies theory)، والتي عمد أقطابها إلى نقد النظريات التقليدية، وإلى إضافة عناصر جديدة ترفد المؤسسات الأمنية وتعزز مفاهيم الممارسة والاحتراف، وضمت ثلاثة تيارات، هي:
1- “مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية”: والتي استقطبت جيلاً من الباحثين الغربيين الـذين غطـت أعمالهم طيفاً واسعاً من القضايا الأمنية، هدفت في مجملها إلى فك الارتباط بين مفهومي “الأمن” و”الأمن الدولي”، حيث تم استحداث مفهوم “الأمن المجتمعي”، و”الفعل التواصلي للأمن”، أو ما أصبح يطلق عليه “نظرية الأمننة” (Securitization Theory).
2- “مدرسة أبرستويث للدراسات الأمنية النقدية”: والتي أصبحت مـع بداية التسعينيات معقل المقاربة النقدية للأمن، وسعت إلى تقديم تـصور إيجـابي لمفهوم الأمن على أساس انعتاق الأفراد (Emancipation)، والدعوة إلى تعزيز الإنسانية في الدراسات الأمنية، وتشكيل وعي ذاتي لمحاربة مهددات الأمن المجتمعي.
3- “مدرسة باريس للدراسات الأمنية”، والتي ظهرت في مطلع التسعينيات، وتميزت بدعوتها إلى تعزيز برامج العمل الاحترافي في مجال الأمن (Professionals Security)، وإلى إدماج الجهات المعنية في قطاعات الأمــن كالعسكريين، والخبراء، والتجار، والمحللين النفسيين، وخبراء علم النفس الاجتماعي، وعمدت إلى إعمال نظرية المباريات في التحليل الأمني، بدلاً من حصره في إطاره الفلسفي النظري.
وتمثلت أبرز إسهامات هذه المدارس في النقاط التالية:
1- التركيز على الفرد كموضوع مرجعي لدراسة الأمن: على اعتبار أن حماية الإنسان هي الهدف الأساس من العملية الأمنية برمتها، وأن الوحدة التحليلية الرئيسية لموضوع الأمن هي تحرير الإنسان من مصادر التهديد محلياً ودولياً، وأن الفاعل الأساسي هو الإنسان، وتأتي الدولة بعده، وبذلك فإنه لا يمكن امتهان كرامة الإنسان من أجل بقاء الدولة التي وجدت من أجل حمايته.
2- تغليب البعد الاجتماعي: نظراً لأن الأمن هو بناء اجتماعي، يتغير بتغير وجهات الفاعلين ويتأثر بتحولات المشهد الدولي، إذ إن النظام الدولي مبني اجتماعياً وليس مادياً، فيما تتحدد سلوكيات الدول بناء على التحولات التي تطرأ على بنيته.
3- تقديم بديل للتعامل النظري التقليدي، الذي يغلب “الفوضى” في العلاقات الدولية، من خلال استحداث مفهوم: “الجماعة الأمنية”، والتي تشير إلى أنماط من التعاون لتحقيق سياسات “الطمأنة” وتحقيق قدر أكبر من السلام.
4- تقديم الأمن باعتباره حالة من “الانعتاق”: وهو المجال الذي تميزت فيه مدرسة أبرستويث، معتبرة أن تحرير الأفراد والجماعات هو الأساس المعياري للأمن، بالإضافة إلى تحديد المخاطر الناجمة عن نشاطات وسياسات بعض الجماعات البشرية التي يمكن أن تهدد السلام العالمي، والدعوة إلى تحرير الإنسان من سائر مظاهر التمييز، وتأمين البشر من المهددات التي تمس حرياتهم وحقوقهم الأساسية.
5- توسيع مفهوم الأمن ليشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وربط القضايا الأمنية بعقلانية السلوك الأمني باعتباره مسعى لتقديم خيارات وبدائل لصناع القرار أكثر من كونه سعياً لبلورة أطروحات ذات طابع نظري-فلسفي.
6- الاهتمام بكيفية تحقيق الأمن، وخاصة مدرسة باريس التي انتقدت اقتصار النظريات على تعريف الأمن، ففي حين انطلق الواقعيون من أسئلة “لماذا؟”، بحثاً عن الدوافع المحركة للسياسات الأمنية، ومحاولة الإجابة على تساؤلات محورية مثل: “لماذا تقوم الحروب؟”، على سبيل المثال؛ فإنّ أقطاب المدرسة الباريسية بذلوا جهداً أكبر في نقل تلك التساؤلات إلى الجانب العملي عبر تقديم أسئلة “كيف؟”، على نسق: “كيف يمكن منع وقوع الحروب؟”، على سبيل المثال لا الحصر.
وبناء على ذلك فقد استبعدت “المدرسة النقدية” فكرة أولوية الدولة، واتخذت من الفرد وحدة أساسية للتحليل، وتميزت ببذل جهد أكبر في تحديد الأدوات والوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق أمن البشر كأشخاص مستقلين (أفراد)، وكمواطنين في الدولة التي يجب أن تحمي أمن أفرادها، وكأعضاء في مجتمع إنساني يتعين حمايته من المخاطر المشتركة كالتدهور البيئي والاقتصادي، والحروب النووية وأسلحة الدمار الشامل، وغيرها من المخاطر التي تهدد الوجود الإنساني.
| مدرسة كوبنهاغن | مدرسة أبرستويث | مدرسة باريس |
مرجعية مفهوم الأمن | الأمن كفعل كلام | الأمن كانعتاق | الأمن كتقنية حكومية |
موضوع التهديد | المجتمع | الفرد | الجماعية السياسية |
القيم المهددة | الهوية المجتمعية | حق الأمن للأفراد | النظم المجتمعية |
من يقوم بتوفير الأمن | النخبة السياسية | المحلل الأمني | شبكات مهنيي الأمن |
كيف يتحقق الأمن | نزع الأمننة | التحرر من التفكير والعمل تحت الظروف الأمنية | تكثيف تقنيات المراقبة وإدارة المخاطر |
مقارنة مفهوم الأمن لدى تيارات المدرسة النقدية