في سبعينيات القرن العشرين ظهرت “الليبرالية الجديدة” (neo-liberalism) كتعريف لمجموعة من الجدليات الاقتصادية، لكنها تطورت مع مرور الوقت إلى نظرية في الأمن، مستدركة على الليبرالية الكلاسيكية عدة نقاط، أبرزها التأكيد على أن الحرية الشخصية للفرد لا يمكن تحقيقها إلا من خلال توفير ظروف اجتماعية واقتصادية ملائمة، وتقديم رؤية جديدة للتعاون بين الدول، باعتباره نتاج مجموعة مصالح ذاتية تدفع الدول للتعاون مع نظرائها في المجتمع الدولي، وذلك من قناعة تلك الدول بإمكانية تحقيق إنجازات أكبر من خلال التعاون المؤسسي بدلاً من التفاعل الفردي غير المنظم، معتبرين أن المؤسسات الدولية العابرة للحدود هي أمر ضروري لتسهيل التعاون بين الدول بناء على مصالح مشتركة، ما يؤدي إلى زيادة فرص تحديد مكاسب أكبر لجميع الأطراف من خلال إقامة علاقة تعاونية.
ورأى الليبراليون الجدد أن الأمن الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الشراكة مع المحيط الإقليمي والدولي، وعبر توظيف أكبر قدر من العناصر المشتركة بين الأطراف الفاعلة بما في ذلك؛ التجارة، والتكنولوجيا، والخدمات والاتصالات، وذلك لتعزيز التواصل والتقارب بين الدول بالإضافة إلى تفعيل أدوات التواصل والاحتواء لمنع وقوع الصراعات أو احتوائها إذا وقعت.
1 | التحالف مع القوى الخارجية لمواجهة المخاطر المشتركة |
2 | تبني سياسات الاحتواء المشترك |
3 | إنشاء نظم تقوم على مفهوم الأمن الشامل |
4 | اللجوء إلى التحكيم والقانون الدولي لفض النزاعات الدولية |
أبرز أطروحات الليبرالية الجديدة بالنسبة للأمن الدولي
وشكل البعد المؤسسي الركن الأساس لدى الليبراليين الجدد في تحقيق الأمن، على اعتبار أن المؤسسات توفر إطاراً مضموناً للتفاعل بين الدول، ولمعالجة مختلف المهددات المشتركة مثل: انتهاك حقوق الإنسان، وتدهور البيئة، والهجرة، والتدهور الاقتصادي، حيث رأى المفكر الأمريكي، جون مولر، أن المؤسسات الدولية تساعد في إقامة علاقات تعاونية بين الدول، وأنها كفيلة بتحقيق الصالح العام، وبمحاربة الظواهر السلبية.
اللاعبون الرئيسيون | الدول، المجموعات غير الحكومية، المنظمات الدولية |
الفرد | جيد في الأساس، قابل للتعاون |
الدولة | ليست لاعباً مستقلاً، لديها مصالح متقاطعة |
النظام الدولي | يميل إلى الفوضوية، متبادل الاعتماد بين مختلف الفاعلين في “المجتمع الدولي” |
التغيير | التغيير يقع دائماً وهو أمر مرغوب |
أبرز المفكرين | روبيرت كيوهان، جون مولر |
أبرز مبادئ الليبرالية الجديدة
وحققت الليبرالية الجديدة مكاسب كبيرة في حقبة التسعينيات نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تم التأسيس لنظرية “السلام الديمقراطي”، (democratic peace theory) التي افترضت أن الدول الديمقراطية تنزع إلى عدم الاقتتال فيما بينها، حيث ظهرت العديد من الدراسات التي رأت أن انتشار الديمقراطية يسبب السلام بين الدول، ويقلل العنف والحروب الأهلية داخل تلك الدول، وذلك في مقابل نزوع الأنظمة الاستبدادية لشن صراعات ضد الديمقراطيات بشكل متكرر أكثر مما تفعله الديمقراطيات ضد الأنظمة الاستبدادية.
واعتبر منظور “السلام الديمقراطي” أن الأعراف الديمقراطية المتمثلة في: تبني سياسات التفاوض والتسوية، والنزوع إلى الدبلوماسية لحل النزاعات، وإشراك الأفراد في التصويت على القرارات المتعلقة بالحرب والسلم، وتعزيز الحريات وسيادة القانون، وتبني مفاهيم العولمة والسوق المشتركة، وغيرها من القِيَم، تُسهم مجتمعة في تعزيز السلام بين الدول.
وقاد فرنسيس فوكوياما التيار الذي رأى أن عولمة الليبرالية-الديمقراطية كشكل نهائي للحكم الإنساني هو الحل الأمثل للحد من الحروب، معتبراً أن إحداث ثورة ليبرالية عالمية سيفضي إلى إلغاء الصراع بين الدول، وأنه كلما زاد عدد الدول الليبرالية زاد الاعتراف بشرعية الدول الأخرى المماثلة في مبادئها، وتراجعت حوافز شن الحروب.
وفي كتابه “الثقة”؛ دعا فوكوياما إلى عولمة الليبرالية عبر تبني مفهوم “كونية الليبرالية”، شريطة أن تتبنى ثقافات العالم المختلفة 80 بالمئة من الحداثة الليبرالية، وأن تحافظ على 20 بالمئة من خصوصيتها الثقافية، وشجع على استخدام القوة لنزع سيادة الدول الضعيفة والفاشلة مثل الصومال وأفغانستان وصربيا والعراق بهدف نشر الديمقراطية فيها، كما برر شن الحروب “الاستباقية” و”الوقائية” ضد الدول أو الجماعات التي تحاول حيازة أسلحة الدمار الشامل.
وللتعامل مع الدول التي يتم غزوها، استحدث فوكوياما مفهوم انتداب المجتمع الدولي على الدول الفاشلة والضعيفة والمضطربة، ومساعدتها في عمليات “بناء الدولة” بمساعدة المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والدول المانحة.
أما الدول غير الليبرالية، التي ترغب في الانضمام إلى المنظومة الليبرالية، فيتعين عليها أن تثبت أهليتها، حيث تمثل العملية “الاشتراطية” الوسيلة الأنجع لدفع الدول النامية إلى تبني الليبرالية-الديمقراطية، والحصول مقابل ذلك على مزايا اقتصادية كالقروض، والهبات، والاستثمارات، واتفاقيات التجارة الحرة.
وأسهم مفهوم عولمة الليبرالية في تعزيز جدليات “الليبرالية الاجتماعية” (sociological liberalism) التي نظرت إلى العلاقات الدولية من منظور العلاقات بين الناس والجماعات والمنظمات في مختلف البلدان، واعتبر منظروها أن زيادة العلاقات عبر الوطنية يمكن أن يساعد في خلق أشكال جديدة من المجتمع البشري.
ومثلت تلك المفاهيم بدورها دفعة قوية لاستعادة العديد من المنطلقات الكلاسيكية، وخاصة منها “الليبرالية الجمهورية” (Republican liberalism) التي ارتكزت على أطروحات “كانت”، والتي اعتبر فيها أن تحقيق السلام الدولي مرهون بتحقيق الديمقراطية في الأنظمة الداخلية للدول، وأن وجود ثقافات سياسية محلية مماثلة، وقيم أخلاقية مشتركة، وعلاقات تكافل وتعاون اقتصادي بين مختلف الدول سيقلص فرص وقوع الحروب، ويؤدي بدوره إلى تحقيق السلام الدولي.
واعتمدت تلك النظرية بصورة أساسية على ثلاث مقالات كتبها كانت لتحقيق السلام الدائم، هي: “يجب أن يكون الدستور المدني لكل دولة جمهورياً”، “يجب أن يؤسس قانون الأمم على اتحاد ولايات حرة”، “يجب أن يقتصر قانون المواطنة العالمية على شروط الضيافة الشاملة”، والتي يقصد بها حق الغريب في أن يعامل بكرم عندما يدخل إلى أراض أخرى إذا كان مسالماً، وهو المبدأ الذي قام على أساسه مفهومي: حق الدولة في حماية نفسها من اعتداء أي شخص أو أية جهة، وتعزيز التجارة الدولية كوسيلة لبناء السلام، لأنها تعزز فرص التعاون وتسهم في تحقيق الرفاهية وفي تقليل الصراعات.
ومثلت أفكار فوكوياما المبرر الأخلاقي لحروب الولايات المتحدة في مطلع الألفية الثالثة، وخاصة منها غزو أفغانستان (2002)، والعراق (2003)، حيث تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن (26 فبراير 2003) عن تحويل العراق إلى دولة ديموقراطية، الأمر الذي شكل تحولاً عن السياسة الأمريكية السابقة القائمة على مفاهيم “الاحتواء” و”الردع”، والتأسيس لنظام دولي جديد، يبرر تجاوز السيادة الوطنية للدول تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان، ويمنح الدول الليبرالية-الديمقراطية الحق الكامل، وواجب الاستيلاء على الدول الفاشلة، أو المتعارضة مع قيمها ومصالحها، لأسباب “إنسانية” تتعلق بمحاربة الاستبداد، ومكافحة انتهاكات لحقوق الإنسان.