الأمن في منظور المدرسة الليبرالية

الباحث الليبرالي وأستاذه الواقعي

نشرت مجلة “ناشيونال إنترست” (1989) ورقة للباحث الأمريكي، فرنسيس فوكوياما، بعنوان: “نهاية التاريخ”، رأى فيها أن الليبرالية-الديمقراطية تُشكل مرحلة نهاية التطور الإيديولوجي للإنسان، وبالتالي عولمة الديمقراطية باعتبارها صيغة نهائية للحكومة البشرية، وافترض إجماع معظم الناس على صلاحية وشرعية الليبرالية-الديمقراطية، ما يعني انتصارها على صعيد الأفكار والمبادئ، لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل.

ثم طور فوكوياما الدراسة إلى كتاب بعنوان: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” (1992)، استعرض فيه التطور السياسي لمختلف الإيديولوجيات والقوى العالمية، واستنتج أن الليبرالية، وإن لم تهيمن على جميع دول العالم من حيث الممارسة، إلا أنها انتصرت كفكرة، إذ لا توجد إيديولوجية تستطيع تقديم بدائل أفضل من مبادئ الديمقراطية-الليبرالية، ولا توجد شرعية متعارف عليها عالمياً أفضل من سيادة الشعب، ودعا إلى تعزيز التحول الديمقراطي للقادة وللشعوب على حد سواء.

وأثارت أفكار الكتاب ضجة كبيرة، ليس لصداها العلمي فحسب، بل لأن فوكوياما كان يحمل منصب “نائب مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية”، كما كان يشغل منصب المستشار السياسي للرئيس الأمريكي السابق، رونالد ريجان، أثناء الحرب الباردة على الاتحاد السوفيتي، وانتقل بعد ذلك إلى مؤسسة “راند”، ما يعني أن أفكار فوكوياما لم تتوقف عند إطارها الفلسفي، بل تحولت إلى الجانب العملي، إذ إنه عبر عن سعادته للانتقال من الأفكار المجردة الأدبية إلى عالم السياسة، قائلاً: “لقد كان مريحاً الانتقال من عالم التجريد والأكاديميا إلى صنع السياسات لحل المشاكل في سياسة الشرق الأوسط، وصنع السياسات للجيش”، حيث وقف بحماس خلف التدخل العسكري الأمريكي الأول في العراق، ووصف الدول العربية الأخرى بأنها: “دكتاتوريات أقلوية مكروهة من قطاعات واسعة من الشعب”.

ونظراً لتأثير أفكار فوكوياما على صناع القرار في الولايات المتحدة؛ بادر عدد من الباحثين للرد على أطروحاته، وكان من بينهم أستاذه صمويل هنتنغتون، الذي اعتبرها: “أكثر تجليات النهائية تطرفاً”، ورد على أطروحة “تغلب الديمقراطية” عبر تطوير نظرية بديلة بسطها في كتابه: “صراع الحضارات” (1996)، والذي أثار بدوره ضجة في أوساط مفكري السياسة الدولية، خاصة وأنه توقع أن يهيمن النزاع بين تسع حضارات، هي: الحضارة الغربية، واللاتينية، واليابانية، والصينية، والهندية، والإسلامية، والأرثوذوكسية، والإفريقية والبوذية، مستبعداً أن تكون الدولة القومية أو الإيديولوجيات هي العناصر الرئيسة في ذلك الصراع.

وفي تفسيره للتدخلات العسكرية الغربية في الخارج؛ رأى هنتنغتون أنها تتمثل في مزيج من: القوة العسكرية، والمؤسسات الدولية، والترويج لقيم الليبرالية-الديمقراطية بهدف حماية مصالحها وضمان هيمنتها على إدارة العالم، لكن تلك السياسات لا تحقق النتائج المرجوة منها، بل تستفز الثقافات الأخرى لرفض فكرة وجود قوة مهيمنة.

واعتبر هنتنغتون أن السعي لحيازة القوة العسكرية والاقتصادية هو الذي سيحدد شكل الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى مهما حاول الغرب أن يقول إن قيم الديمقراطية والليبرالية هي قِيَم عالمية تستفيد منها البشرية جمعاء، وحذر من أن محاولات الغرب نشر الديمقراطية ستدفع بالثقافات الأخرى لعملية “تأصيل” المجتمعات وعودتها إلى “جذورها”، إذ إن “الضمير الحضاري” هو أمر واقعي وحقيقي ومتزايد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

ورأى أن الصراع القادم سيكون بين “الغرب والآخرين”، ورجح أن يكون ذلك الصراع مع الدول ذات الأغلبية المسلمة، ما دفعه للدعوة إلى تقوية جبهة الغرب الداخلية بزيادة التحالف والتعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومحاولة ضم أمريكا اللاتينية واليابان.

وعلى الرغم من الفروق بين جدليتي فوكوياما وهنتنغتون؛ إلا إنهما ينطلقان من جذر واحد، يرتكز على مفهوم “هيمنة الغرب”، إما من خلال فرض تفوقه الثقافي عند فوكوياما، أو من خلال إبقاء هيمنته عبر تعزيز أدوات الصراع كما يرى هنتنغتون، ما دفع بالمحافظين لالتقاط أفكارهما بهدف التأكيد على أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يحق لها تحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية المطلقة، متخذين من فرضيات الأستاذ وتلميذه مبررات لتوجيه ضربات استباقية ضد خصومهم، وتغيير الأنظمة الحاكمة في عدة دول، وخاصة في أفغانستان (2001) والعراق (2003).

وبالإضافة إلى توظيف مفهومي “الهيمنة” و”حتمية الصراع”؛ انطلق الأستاذ وتلميذه من رؤى شمولية تبسيطية تصنف الحضارات بأنها كتل جيوسياسية مستقلة بذاتها، وهي مغالطات كبيرة ثبت خطأها في ظل التراجع الثقافي والاقتصادي للديمقراطية-الليبرالية، حيث مثلت حالة الفوضى التي شابت استكمال الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان (2021)، واقتحام الآلاف من مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب مبنى الكابيتول، لعرقلة انتقال السلطة لرئيس جديد في العام نفسه؛ نقضاً عملياً لنظريتي كل من فوكوياما، وأستاذه هنتنغتون، وفقدان البريق الذي رسمه المنظران الأمريكيان الجامحان.

مات هنتنتغون عام 2008، وهو يرثي الهوية الأمريكية التي تشوهت نتيجة الهجرات المتتالية للولايات المتحدة، وأقرّ تلميذه فوكوياما (بصوت خافت) أن الاستقطاب الأميركي الداخلي حول قضايا السياسة التقليدية مثل الضرائب والإجهاض، ومعركة الهوية الثقافية، ومعنى أن تكون أمريكياً، هو التهديد الحقيقي للريادة الأميركية ولنموذجها-الليبرالي الديمقراطي، ودفع ذلك الخفوت بالعديد من الباحثين لاعتبار أن أطروحات الأستاذ وتلميذه هما وجهان لعملة واحدة تتمثل في ليبرالية متوحشة تحركها دوافع اقتصادية براغماتية بعيدة كل البعد عن الأطر الأخلاقية والمبادئ المثالية التي وضعت أصولها في القرن السابع عشر.

الليبرالية باعتبارها "رائدة التنوير"

كانت الليبرالية قد ظهرت خلال “عصر التنوير” في أوروبا، على صورة تيار فكري يدعو إلى الحرية والمساواة، وإلى احترام المجال الخاص للفرد ليتمتع باستقلاله وحريته دون تدخل. كما دعت إلى الاعتراف بحقوق الفرد الأساسية التي لا يجوز المساس بها أو التعدي عليها، معتبرة أن الفرد هو المعبر الحقيقي عن الإنسان، والذي تدور حوله فلسفة الحياة برمتها، ومنه تنبع القيم التي تُحدد الفكر والسلوك معاً.

وسرعان ما أصبحت مبادئ الليبرالية شائعة بين الفلاسفة وعلماء الاقتصاد في أوروبا، وعلى رأسهم جون لوك، الذي رأى أن كل إنسان يجب أن يتمتع بحقه الطبيعي في الحياة والحرية والتملك، وأن الحكومات يجب ألّا تنتهك هذه الحقوق، ووضع أسس نظرية “العقد الاجتماعي” التي افترضت وجود عقد بين الحاكم والمحكوم، وأن رضا المحكوم هو مبرر سلطة الحاكم.

ومثّلت كتابات الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، في القرن الثامن عشر، أولى بواكير الفكر الليبرالي في تفسير الظواهر السياسية، والتي اعتبر فيها أن الحرب هي نتاج تصرفات خاطئة من قبل المجتمع، وليست صفة متجذرة في الأفراد، وأن الطريقة الأمثل للتغلب عليها هو تعليم الفرد وتوعيته بهدف إصلاح المجتمع ومساعدته على إصلاح عيوبه.

وجاء بعدهما إيمانويل كانت، ليضفي المزيد من المفاهيم للعلاقات الدولية، حيث اعتبر أن تخطي الفوضوية الدولية يكمن في العمل الجماعي الهادف إلى تشكيل اتحاد دول ذات سيادة، وأن البشر سوف يتعلمون طرق تجنب الحروب من خلال العولمة، الأمر الذي عزز مفهوم “عقلانية التنوير” لدى ليبراليي القرن التاسع عشر، وأعاد صياغتها بإضافة تفضيل الحكم الديمقراطي على الحكم الأرستقراطي، وتفضيل التجارة الحرة على الكفاية الاقتصادية الوطنية، وأن الإنسانية قادرة على تلبية احتياجاتها ورغباتها بطرق عقلانية.

وفي عام 1918؛ قدم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون دفعة لمبادئ الفكر الليبرالي، عبر إسهامه في صياغة ميثاق عصبة الأمم، والتي انبثقت عنها فكرة “الليبرالية المؤسسية” كتيار يهدف إلى منع الحروب وتحقيق الأمن الجماعي عبر المؤسسات الدولية التي يمكن العمل من خلالها على معالجة مهددات الأمن المشترك.

إلا أن الليبرالية تلقت ضربة قوية في فترة ما بين الحربين العالميتين، نتيجة ارتكازها على مبدأ أن السلام هو أصل العلاقة بين الشعوب، ومراهنتها على “عصبة الأمم” التي تهاوت على وقع احتلال اليابان لمنشوريا (1931)، والغزو الإيطالي للحبشة (1935)، وضم ألمانيا النمسا وهجومها على بولندا (1939)، واندلاع الحرب العالمية الثانية في العام نفسه.

وسرعان ما شهدت الليبرالية انتعاشاً في النصف الثاني من القرن العشرين، نتيجة انتصار الدول ذات التوجه الليبرالي-الديمقراطي في الحرب العالمية الثانية، والتي تمكنت من فرض مفاهيمها على الأمم المتحدة عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).

ومنذ ذلك الحين؛ ارتبطت الليبرالية بالديمقراطية القائمة على سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام كوسيلة أساسية للتعبير عن إرادة الشعب، وعلى احترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وخضوع هذه السلطات للقانون من أجل ضمان الحريات الفردية، ورفض أية ممارسة للسيادة خارج المؤسسات التي يجب أن تكون معبّرة عن إرادة الشعب بأكمله.

النظرية الليبرالية

تُعرّف الليبرالية بأنها: “منظور فكري يقوم على فرضية وجود الخير الفطري في الفرد، وأن قيمة المؤسسات السياسية تكمن في تشجيع التقدم الاجتماعي”.

ومن خلال هذا التعريف، انطلقت الليبرالية الحديثة في القرن العشرين لتطوير نظريتها في الأمن، بالاعتماد على جملة من التخصصات المساعدة مثل: علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع السياسي، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وقياس اتجاهات الرأي العام، وتحليل نفسية الجماهير، وغيرها من وسائل تحديد الشخصية بالنسبة للأفراد والدول، حيث اعتمد الليبراليون على نظرية “النُظُم” التي تبحث في نماذج العلاقات الدولية عن مظاهر الانتظام، ثم تقسمها إلى أربعة أقسام رئيسة، هي:

– نظام توازن القوى، الذي هيمن في أوروبا خلال القرن التاسع عشر.

– نظام تعدد مراكز اتخاذ القرار والقطبية الثنائية، الذي هيمن بعد الحرب العالمية الثانية.

– نظام القطب الأوحد الذي برز عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.

– النظم الفرعية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، وحلف وارسو، ودول الكومونويلث، وغيرها من المنظمات الإقليمية.

أما فيما يتعلق بالدولة؛ فقد رأى الليبراليون أنها تتمتع بالسيادة، إلا إنها لا ترتقي إلى مستوى التصنيف كقوة لاعبة مستقلة، معتبرين أن النظام الدولي هو العملية الرئيسة التي يحدث عبرها التفاعل بين القوى اللاعبة، فيما تمثل الدول وحدات سياسية ذات طابع اجتماعي-اقتصادي، تتمثل وظيفتها الرئيسة في تمثيل المصالح الحكومية والمجتمعية على حد سواء.

ويختلف الليبراليون فيما بينهم حول ما إذا كان السلام هو هدف السياسة العالمية، كما يختلفون أيضاً حول كيفية إقامته، لكنهم يتفقون على أن النظام الطبيعي قد أفسدته سياسات نظام توازن القوى، وعلى رفض “همجية” العلاقات الدولية التي فرضتها النظريات الإمبريالية والنازية والفاشية، معتبرين أن الطريقة الأمثل لمعالجة تلك التشوهات هي إنشاء آليات للتعاون بين الدول، وتشبيك المصالح فيما بينها للتقليل من أسباب الصراع، ومن ثم تسليم القياد للمنظمات الدولية التي يمكن أن تقوم بإبرام عقد فيدرالي بين الدول لإلغاء الحروب.

ولتحقيق ذلك؛ وقف الليبراليون بقوة خلف إنشاء منظمة الأمم المتحدة بديلاً عن عصبة الأمم كمؤسسة دولية تتولى صيانة السلم والأمن الدوليين، وتوافقت الدول العظمى على إقرار إجراء تنفيذي، من خلال نظام النقض (حق الفيتو) وهو ما شكل أنموذجاً جديداً للأمن الجماعي، لكن الحرب الباردة تسببت في تراجع مفهوم “الأمن الجماعي” بسبب الاستخدام المتبادل لحق النقض، ما دفع بالمنظرين الليبراليين لإجراء مراجعات واسعة في منطلقاتهم الفكرية.

الليبرالية الجديدة

في سبعينيات القرن العشرين ظهرت “الليبرالية الجديدة” (neo-liberalism) كتعريف لمجموعة من الجدليات الاقتصادية، لكنها تطورت مع مرور الوقت إلى نظرية في الأمن، مستدركة على الليبرالية الكلاسيكية عدة نقاط، أبرزها التأكيد على أن الحرية الشخصية للفرد لا يمكن تحقيقها إلا من خلال توفير ظروف اجتماعية واقتصادية ملائمة، وتقديم رؤية جديدة للتعاون بين الدول، باعتباره نتاج مجموعة مصالح ذاتية تدفع الدول للتعاون مع نظرائها في المجتمع الدولي، وذلك من قناعة تلك الدول بإمكانية تحقيق إنجازات أكبر من خلال التعاون المؤسسي بدلاً من التفاعل الفردي غير المنظم، معتبرين أن المؤسسات الدولية العابرة للحدود هي أمر ضروري لتسهيل التعاون بين الدول بناء على مصالح مشتركة، ما يؤدي إلى زيادة فرص تحديد مكاسب أكبر لجميع الأطراف من خلال إقامة علاقة تعاونية.

ورأى الليبراليون الجدد أن الأمن الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الشراكة مع المحيط الإقليمي والدولي، وعبر توظيف أكبر قدر من العناصر المشتركة بين الأطراف الفاعلة بما في ذلك؛ التجارة، والتكنولوجيا، والخدمات والاتصالات، وذلك لتعزيز التواصل والتقارب بين الدول بالإضافة إلى تفعيل أدوات التواصل والاحتواء لمنع وقوع الصراعات أو احتوائها إذا وقعت.

1

التحالف مع القوى الخارجية لمواجهة المخاطر المشتركة

2

تبني سياسات الاحتواء المشترك

3

إنشاء نظم تقوم على مفهوم الأمن الشامل

4

اللجوء إلى التحكيم والقانون الدولي لفض النزاعات الدولية

أبرز أطروحات الليبرالية الجديدة بالنسبة للأمن الدولي

وشكل البعد المؤسسي الركن الأساس لدى الليبراليين الجدد في تحقيق الأمن، على اعتبار أن المؤسسات توفر إطاراً مضموناً للتفاعل بين الدول، ولمعالجة مختلف المهددات المشتركة مثل: انتهاك حقوق الإنسان، وتدهور البيئة، والهجرة، والتدهور الاقتصادي، حيث رأى المفكر الأمريكي، جون مولر، أن المؤسسات الدولية تساعد في إقامة علاقات تعاونية بين الدول، وأنها كفيلة بتحقيق الصالح العام، وبمحاربة الظواهر السلبية.

اللاعبون الرئيسيون

الدول، المجموعات غير الحكومية، المنظمات الدولية

الفرد

جيد في الأساس، قابل للتعاون

الدولة

ليست لاعباً مستقلاً، لديها مصالح متقاطعة

النظام الدولي

يميل إلى الفوضوية، متبادل الاعتماد بين مختلف الفاعلين في “المجتمع الدولي”

التغيير

التغيير يقع دائماً وهو أمر مرغوب

أبرز المفكرين

روبيرت كيوهان، جون مولر

أبرز مبادئ الليبرالية الجديدة

وحققت الليبرالية الجديدة مكاسب كبيرة في حقبة التسعينيات نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تم التأسيس لنظرية “السلام الديمقراطي”، (democratic peace theory) التي افترضت أن الدول الديمقراطية تنزع إلى عدم الاقتتال فيما بينها، حيث ظهرت العديد من الدراسات التي رأت أن انتشار الديمقراطية يسبب السلام بين الدول، ويقلل العنف والحروب الأهلية داخل تلك الدول، وذلك في مقابل نزوع الأنظمة الاستبدادية لشن صراعات ضد الديمقراطيات بشكل متكرر أكثر مما تفعله الديمقراطيات ضد الأنظمة الاستبدادية.

واعتبر منظور “السلام الديمقراطي” أن الأعراف الديمقراطية المتمثلة في: تبني سياسات التفاوض والتسوية، والنزوع إلى الدبلوماسية لحل النزاعات، وإشراك الأفراد في التصويت على القرارات المتعلقة بالحرب والسلم، وتعزيز الحريات وسيادة القانون، وتبني مفاهيم العولمة والسوق المشتركة، وغيرها من القِيَم، تُسهم مجتمعة في تعزيز السلام بين الدول.

وقاد فرنسيس فوكوياما التيار الذي رأى أن عولمة الليبرالية-الديمقراطية كشكل نهائي للحكم الإنساني هو الحل الأمثل للحد من الحروب، معتبراً أن إحداث ثورة ليبرالية عالمية سيفضي إلى إلغاء الصراع بين الدول، وأنه كلما زاد عدد الدول الليبرالية زاد الاعتراف بشرعية الدول الأخرى المماثلة في مبادئها، وتراجعت حوافز شن الحروب.

وفي كتابه “الثقة”؛ دعا فوكوياما إلى عولمة الليبرالية عبر تبني مفهوم “كونية الليبرالية”، شريطة أن تتبنى ثقافات العالم المختلفة 80 بالمئة من الحداثة الليبرالية، وأن تحافظ على 20 بالمئة من خصوصيتها الثقافية، وشجع على استخدام القوة لنزع سيادة الدول الضعيفة والفاشلة مثل الصومال وأفغانستان وصربيا والعراق بهدف نشر الديمقراطية فيها، كما برر شن الحروب “الاستباقية” و”الوقائية” ضد الدول أو الجماعات التي تحاول حيازة أسلحة الدمار الشامل.

وللتعامل مع الدول التي يتم غزوها، استحدث فوكوياما مفهوم انتداب المجتمع الدولي على الدول الفاشلة والضعيفة والمضطربة، ومساعدتها في عمليات “بناء الدولة” بمساعدة المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والدول المانحة.

أما الدول غير الليبرالية، التي ترغب في الانضمام إلى المنظومة الليبرالية، فيتعين عليها أن تثبت أهليتها، حيث تمثل العملية “الاشتراطية” الوسيلة الأنجع لدفع الدول النامية إلى تبني الليبرالية-الديمقراطية، والحصول مقابل ذلك على مزايا اقتصادية كالقروض، والهبات، والاستثمارات، واتفاقيات التجارة الحرة.

وأسهم مفهوم عولمة الليبرالية في تعزيز جدليات “الليبرالية الاجتماعية” (sociological liberalism) التي نظرت إلى العلاقات الدولية من منظور العلاقات بين الناس والجماعات والمنظمات في مختلف البلدان، واعتبر منظروها أن زيادة العلاقات عبر الوطنية يمكن أن يساعد في خلق أشكال جديدة من المجتمع البشري.

ومثلت تلك المفاهيم بدورها دفعة قوية لاستعادة العديد من المنطلقات الكلاسيكية، وخاصة منها “الليبرالية الجمهورية” (Republican liberalism) التي ارتكزت على أطروحات “كانت”، والتي اعتبر فيها أن تحقيق السلام الدولي مرهون بتحقيق الديمقراطية في الأنظمة الداخلية للدول، وأن وجود ثقافات سياسية محلية مماثلة، وقيم أخلاقية مشتركة، وعلاقات تكافل وتعاون اقتصادي بين مختلف الدول سيقلص فرص وقوع الحروب، ويؤدي بدوره إلى تحقيق السلام الدولي.

واعتمدت تلك النظرية بصورة أساسية على ثلاث مقالات كتبها كانت لتحقيق السلام الدائم، هي: “يجب أن يكون الدستور المدني لكل دولة جمهورياً”، “يجب أن يؤسس قانون الأمم على اتحاد ولايات حرة”، “يجب أن يقتصر قانون المواطنة العالمية على شروط الضيافة الشاملة”، والتي يقصد بها حق الغريب في أن يعامل بكرم عندما يدخل إلى أراض أخرى إذا كان مسالماً، وهو المبدأ الذي قام على أساسه مفهومي: حق الدولة في حماية نفسها من اعتداء أي شخص أو أية جهة، وتعزيز التجارة الدولية كوسيلة لبناء السلام، لأنها تعزز فرص التعاون وتسهم في تحقيق الرفاهية وفي تقليل الصراعات.

ومثلت أفكار فوكوياما المبرر الأخلاقي لحروب الولايات المتحدة في مطلع الألفية الثالثة، وخاصة منها غزو أفغانستان (2002)، والعراق (2003)، حيث تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن (26 فبراير 2003) عن تحويل العراق إلى دولة ديموقراطية، الأمر الذي شكل تحولاً عن السياسة الأمريكية السابقة القائمة على مفاهيم “الاحتواء” و”الردع”، والتأسيس لنظام دولي جديد، يبرر تجاوز السيادة الوطنية للدول تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان، ويمنح الدول الليبرالية-الديمقراطية الحق الكامل، وواجب الاستيلاء على الدول الفاشلة، أو المتعارضة مع قيمها ومصالحها، لأسباب “إنسانية” تتعلق بمحاربة الاستبداد، ومكافحة انتهاكات لحقوق الإنسان.

تطور مفهومي "المؤسسية" و"الاعتمادية" لدى الليبراليين

أولت الليبرالية اهتماماً كبيراً بدور المؤسسات الدولية كمنظم ومشرف على السياسات الدولية، ونتج عن ذلك ظهور مذهب: “الليبرالية الجديدة المؤسسية” (neo-liberal Institutionalism)، والذي رأى منظروه أن النظام الدولي ليس فوضوياً (كما يرى الواقعيون)، بل إن العلاقة بين الدول تقوم على التعاون، وذلك لأن مصالح كل منها تفرض عليها إنشاء إطار تعاوني فيما بينها.

واعتبروا أن الهدف الرئيس للسياسة الدولية هو تقصي النماذج المتكررة التي يمكن من خلالها تحديد مظاهر الانتظام، ومعرفة عوامل التوازن والاختلال التي تحكم تطور الأقطاب العالمية (تعدد الأقطاب، والقطبية الثنائية، والقطب الأوحد)، والنظم الدولية (عصبة الأمم والأمم المتحدة) والنظم الفرعية (الكومونويلث البريطاني، والمنظمة الفرنكفونية، والجامعة العربية، وغيرها من النظم ذات الطابع الإقليمي أو شبه الإقليمي) وانتقالها من شكل لآخر.

وتنظر الليبرالية المؤسسية إلى “النظام” باعتباره وحدة عضوية حية ومتحركة وقابلة للتطوير والتغير المستمر، وأنه يشمل سائر الملامح العامة للنظام بما في ذلك: هيكله التنظيمي، ومضامينه كالقواعد والإجرائيات والسلوكيات والأفكار والمفاهيم، شريطة أن يكون محكوماً بدرجة عالية من التماسك، وإذا لم يتمكن النظام من تحقيق المرونة الكافية للتأقلم مع المستجدات، فإنه سيكون محكوماً بالجمود ومن ثم بالانهيار.

ولكي يعمل بكفاءة؛ يتعين تعزيز النظام بشبكة واسعة من الاتصالات التي تقوم بإيصال المعلومات وتحليلها والتعامل معها، والتنسيق بين مختلف الأطراف للتوصل إلى موقف محدد، واتخاذ القرارات التي تسهم في الاستجابة لضغوط البيئة، والتأقلم مع الظروف.

وبناء على تلك المعطيات؛ رأت “الليبرالية الجديدة المؤسسية” أن النظام الدولي لا يشكل بنية مستقلة بنفسه، بل هو مجرد أداة توافقية لتنظيم العلاقات الدولية، تتم عبرها التفاعلات، وتندرج ضمنها المنظمات الأممية، والمنظمات الإقليمية، والمنظمات غير الحكومية، والشركات متعددة الجنسيات، والقوى اللاعبة داخل الدول كالبرلمانات والحكومات.

ويرتبط الأمن في هذه النظرية بمفهوم: “الاعتماد المتبادل” بين القوى اللاعبة والمجتمع الدولي، معتبرة أن التفاعل بين الدول يأتي بنتائج إيجابية، وأن المؤسسات تشكل إطاراً للتفاعل الإيجابي.

وأسفرت تلك المعطيات عن ظهور مفهوم “الليبرالية الاعتمادية” (interdependence liberalism) التي رأت أن زيادة الاعتماد المتبادل بين البلدان يقلل من فرصة انخراطها في النزاعات، وأن تحقيق السلام يقوم بالدرجة الرئيسية على زيادة مستويات ونطاق الترابط بين الدول، بحيث يهيمن التعاون وتفقد القوة العسكرية دورها كعنصر أساسي في حل النزاعات.

الانتقادات الموجهة لمفهوم "التحول الليبرالي"

على الرغم من الجرأة التي امتلكها الليبراليون الجدد في فرض سياسات التحول الليبرالي بقوة السلاح؛ إلا أن تجاربهم فشلت في التعامل مع الأزمات الدولية، ولم تمنع وقوع الحروب، بل زادت من وتيرتها، فيما انسحبت القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان دون تحقيق الأهداف التي رفعها أنصار “نهاية التاريخ”.

وظهرت مشكلة أكبر في فشل محاولات نظم العلاقة بين المؤسسات الدولية، والتي وقفت عاجزة أمام تنامي الحروب والصراعات الدولية، ورفض الدول الأعضاء التعاون مع تلك المؤسسات، ونزوع الدول الليبرالية إلى شن حروبها الخاصة خارج إطار المنظومة الدولية، وقيامها بتشويه الحقائق وتقديم معلومات مغلوطة لتبرير سياساتها العدائية، ففي حالة غزو العراق (2003) تبين أن نظام صدام حسين لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، وأن الشعوب الغربية وقعت ضحية تضليل كبير مارسته بعض الأجهزة الأمنية لتبرير الحرب التي عادت بعواقب وخيمة على النظام الدولي وعلى الشعب العراقي بصورة خاصة.

كما رأى نقاد الفكر الليبرالي أن محاولة وضع تحالفات الدول وتفسير سلوكياتها ضمن إطار مؤسسي محدد وثابت هو أمر خاطئ، إذ إن سياسات الدول تتباين وفق مستويات “القدرة” و”الرغبة”، ولا تقوم على قوانين ثابتة، في حين لا تملك المنظمات الأممية أدوات إلزامية في القانون الدولي المعاصر.

وفي ظل تفشي وباء كورونا (2020-2022)، وتأثيراته الاقتصادية الفادحة؛ تبينت صعوبة التنبؤ بالأحداث وفق النسق الليبرالي، حيث تسببت عوامل البيئة والديمغرافية والمناخ بتحولات لم يكن من الممكن استشرافها، وكان لها تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي وعلى النظام الدولي القائم، وخاصة في مجال تشبيك المصالح وتحقيق الاعتماد المتبادل بين الدول.

وتكمن المشكلة الأبرز لدى الليبرالية-الديمقراطية في تبني أطروحة “السلام الديمقراطي”، الذي يحصر السلام والأمن على الدول الليبرالية، ويرى أنها هي الوحيدة القادرة على تحقيق الأمن فيما بينها، وبصورة منفصلة عن “السلام العالمي”، كون الدول الليبرالية-الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض، وتؤمن بمبادئ مشتركة تتمثل في تبني الديمقراطية كنظام للحكم، وتلتزم إيديولوجياً بمفاهيم مشتركة حول حقوق الإنسان، حيث نبذت الدول الديمقراطية مبدأ حل المشاكل مع الدول الأخرى عبر الوسائل السلمية، واندفعت لشن حروب فتاكة ضد الدول غير الديمقراطية، خارج مظلة الأمم المتحدة، بحيث تحولت الليبرالية إلى مذهب لا يؤمن بالتعددية ولا يتقبل المناهج الأخرى، ويبرر الانتهاكات المروعة تحت ذريعة نشر قيمه ومبادئه، ويرى منظروه الجدد أن من واجبهم إجبار سائر دول العالم على تبني مذهبهم كوسيلة وحيدة لتحقيق السلام الدولي.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021