يتزامن ازدهار أسواق السلاح مع الجهود التي تبذلها بعض الدول الغربية لتمكين بعض الميلشيات الإثنية والطائفية، بعد رفعها من قوائم الإرهاب، بحيث أصبحت القوى الفاعلة خارج إطار الدول تُشكل مكوناً أساسياً في المعادلة العسكرية بالمنطقة العربية، ولم يعد من الممكن تحليل الأوضاع الأمنية بالتركيز على الدول وحدها.
وتُعرّف القوى الفاعلة خارج إطار الدول بأنها: “جماعات أو منظمات تتمتع بعدد من السمات وتتمثل في الاستقلال التام أو بدرجة كبيرة عن تمويل الحكومة المركزية التي تعمل على أرضها، وبامتلاك موارد خاصة بها، وبهوية متميزة، وبسياسة خارجية مستقلة عن سياسات الدولة التي تنتمي إليها”.
وبخلاف الجيل الأول من الفاعلين، الذين ظهروا ضمن حركات التحرر ضد الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ينتمي الجيل الثاني إلى إثنيات وطوائف، كالشيعة والأكراد في العراق، والدروز والعلويين والأكراد في سوريا، والحوثيين في اليمن، والجنجويد في السودان، والبربر والأمازيغ والطوارق في الجزائر والمغرب.
وتكمن الخطورة في إقامة تلك المجموعات أنماطاً من العلاقات شبه الرسمية دولياً رغم أجنداتها المتطرفة، كما هو الحال بالنسبة لميلشيا “حزب الله” اللبناني، و”وحدات حماية الشعب” الكردية في سوريا، والمنظمات التي تم رفعها من قوائم الإرهاب وضم عناصرها للجيش العراقي كالميلشيات التابعة لحزب “الدعوة” العراقي، وميلشيا الصدر، و”الحشد الشعبي”.
وتلقت تلك المجموعات دفعة كبيرة عقب الغزو الأمريكي للعراق (2003)، حيث تم اعتماد نظام سياسي يقوم على تقسيم الحكم بين الأكراد والشيعة والسنة، ومنذ ذلك الحين ارتبط المشروع الأمريكي في المنطقة بترجيح كفة الأقليات، وزيادة تمثيلها في أنظمة الإدارة والحكم، وذلك بعد أن قام الأمريكان بالدور الأكبر في تدمير القدرات العسكرية العراقية التي كانت أداة الردع الرئيسة في وجه التوسع الإيراني.
وفي المرحلة الممتدة ما بين عامي 2003 و2007 بدأت تظهر ملامح المشروع الأمريكي للشرق الأوسط من خلال برامج “دعم الديمقراطية” التي ارتبطت بفكرة “تمكين الأقليات”، حيث تحدث تقرير نشره معهد “غلوبال ريسيرتش” في شهر نوفمبر 2006؛ عن وجود تنسيق: أمريكي-بريطاني-إسرائيلي لتمكين الأقليات في المنطقة، وأكد سعي أجهزة الاستخباراتية الدولية إلى تشجيع الأقليات للمطالبة بكيانات سياسية مستقلة، ما يقدم حجة للتدخل الغربي تحت ذريعة حماية الأقليات فيها.
وسرعان ما تنامى نفوذ تلك الميلشيات، وخاصة في العراق حيث تشكلت قوات “الحشد الشعبي” من نحو 67 ميلشيا عام 2016، وبلغ تعدادها نحو 150 ألف عنصر، وأصبحت تتقاضى رواتب ومخصصات من الحكومة العراقية كقوة شبه عسكرية، علماً بأن “الحشد الشعبي” ينتمي إلى الجيل الثاني من الميلشيات التي تمت شرعنتها بعد رفعها من قوائم الإرهاب، أما الجيل الأول فيتمثل في قوات “البيشمركة”، التابعة للحزبين الكرديين الرئيسين: “الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”، وكذلك ميلشيات “فيلق بدر” التابعة لـ”لمجلس الأعلى الإسلامي العراقي” بزعامة عبد العزيز الحكيم، و”جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر.
ومنذ عام 2012؛ تنتشر في سوريا عشرات الميلشيات، أبرزها “الدفاع الوطني” التي تحصل على رواتبها من حكومة النظام، ويبلغ تعدادها نحو 100 ألف عنصر، يضاف إليها عدد كبير من عصابات “الشبيحة” والفرق المسلحة التابعة لأجهزة الأمن، والتي ينتمي عناصرها إلى الأقلية العلوية في البلاد، وعدد من الميلشيات الشيعية الأجنبية مثل “فاطميون” من الأفغان، وميلشيا “زينبيون” التي تم تشكيلها عام 2015 من الباكستانيين الشيعة.
وتتحدث المصادر عن انخراط نحو 50 ميلشيا خارجية؛ عراقية، ولبنانية، وإيرانية، وباكستانية، وأفغانية، موالية لإيران في القتال بسوريا، وتراوح تقدير مجموع عناصرها بين 70 ألف و100 ألف، يضاف إليهم عدد من قوات العشائر، والميلشيات الكردية، وعلى رأسها “وحدات حماية الشعب الكردية”، والتي تنضوي تحت ميلشيا “قوات سوريا الديمقراطية”.
في هذه الأثناء؛ يهيمن على المشهد السياسي اللبناني عدد من الحركات السياسية التي امتلكت (أولا تزال تمتلك) ميلشيات مسلحة، مثل “القوات اللبنانية”، و”جيش لبنان الجنوبي”، و”جيش لبنان الحر”، و”جيش لبنان العربي”، و”حراس الأرز”، و”حركة أمل”، و”نمور الأحرار”، و”الكتائب”، و”حزب الله”، و”الحزب التقدمي” و”عصبة الأنصار”.
وكذلك في اليمن حيث تنشط العديد من الميلشيات التي تتلقى دعماً خارجياً، كالحوثيين في صنعاء، وميلشيات: “الحراك الجنوبي”، و”المقاومة الشعبية”، و”اللجان الشعبية”، و”لواء الحزام”، و”لواء العمالقة”، و”قوات النخبة الحضرمية”، وغيرها.
وتشهد ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي، صراعاً مستمراً بين عدد من الميلشيات المسلحة التي تختلف توجهاتها وتتنوع ولاءاتها، ومن أبرزها: “قوة الردع الخاصة”، و”كتيبة النواصي”، وميلشيا “الأمن المركزي”، و”كتيبة ثوار طرابلس”، ولواء المحجوب”، و“كتيبة المرسى”، و”لواء الحلبوص”، و”الجماعة الليبية المقاتلة”، و”الحرس الوطني”، وغيرها من الميلشيات.
وعلى الرغم من الاندفاع الغربي لتسليح تلك الميلشيات، وتمكينها من السيطرة على بعض الأقاليم؛ إلا أن جميع تلك التجارب قد باءت بالفشل، وخاصة في تجربة فصل جنوب السودان عن شماله (2011)، حيث مثلت تجربة جنوب السودان أحد أفشل مشاريع التدخل الأمريكي، إذ صنفت الأمم المتحدة دولة جنوب السودان (2010) على أنها “دولة فاشلة”، مؤكدة أن اثنين من كل خمسة من مواطنيها يعانون من سوء التغذية، فيما فقد نحو 400 ألف جنوب سوداني حياتهم في الحرب الأهلية الجارية، وتصنف اليوم من بين أكثر بلدان العالم هشاشة وفساداً وتأثراً بالصراع.
ولم يكن المشروع الميلشياوي أوفر حظاً في العراق؛ ففي 2015؛ هاجم رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، تلك الميلشيات بسبب امتهانها السرقة والسطو المسلح والتضييق على حريات المواطنين الشخصية، فيما أكد عضو “التحالف الوطني” علي الربيعي، أن أعضاءها يتسلمون مرتباتهم الشهرية من الموازنة العامة للدولة، مشيراً إلى أنه: “من الخطأ اعتبار كل أعضاء الحشد الشعبي مجاهدين أو مقاتلين ضد داعش بل هناك فئة استغلّت الأوضاع لارتكاب جرائم قتل طائفية وسرقة وسطو مسلح وحتى اعتداءات أخرى، ويمكن ملاحظتهم بكل قوة عند المعارك الحامية يختفون وبعد انتهائها يظهرون للسرقة والاعتداء والتقاط الصور لتقديمها إلى مراجعهم العسكرية أو الدينية في العراق وبطبيعة الحال في إيران أيضاً”.
وتلقي تلك التصريحات الضوء على الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها، ولا تزال ترتكبها، الميلشيات المدعومة أمريكياً أو إيرانياً في المنطقة العربية، وتورطها في أعمال القتل والتعذيب والتهجير القسري وتجنيد الأطفال، وغيرها من الانتهاكات الموثقة، والتي تؤكد أن تلك الميلشيات لا تقل إجراماً عن خصومها، ولا تمثل بديلاً عن الدول الفاشلة التي تعمل فيها.
ويمثل الصراع الكردي-الكردي نموذجاً أكبر للفشل، حيث تدور خلافات طاحنة بين مختلف الفصائل الكردية، بالتزامن مع مواجهات مسلحة وحروب إعلامية بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”حزب العمال الكردستاني”، فضلاً عن خطوط الصدع الناشئة في المشهد السياسي الكردي داخل إقليم كردستان العراق، وعبر الحدود بين ميلشيات وأحزاب أكراد سوريا وأكراد تركيا، والذين تتباين اتجاهاتهم وولاءاتهم.
وكذلك الحال في لبنان، حيث تحول الخلاف بين الفصيلين الشيعيين “أمل” و”حزب الله” إلى مواجهات مفتوحة (1988)، استمرت ثلاث سنوات، وتسببت الخلافات المسيحية-المسيحية، وخاصة بين “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب” بمواجهات دامية بين الطرفين.
كما عانت الطائفة الدرزية من الصراع بين الزعامتين الجنبلاطية والأرسلانية، وأخذ الخلاف منحى عنيفاً في عدة مناسبات، خاصة بعد دخول رئيس “حزب التوحيد العربي”، وئام وهاب، على خط الصراع، فيما تخوض الميلشيات الدرزية في سوريا معارك فيما بينها حتى كتابة هذه السطور.
وتؤكد القائمة الطويلة من الصراعات الدامية داخل المكونات الطائفية أن ديناميكيات الصراع لا تتوقف عند حدود الإثنيات والطوائف، وأنه من السذاجة اعتقاد أن سياسات التجزئة والتقسيم ستحقق تجانساً مجتمعياً في المناطق التي يتم اقتطاعها لصالح ميلشيات أقلوية تدين بالولاء لقوى دولية متصارعة فيما بينها.
مخططات إعادة التقسيم
يُشير مصطلح “الدولة الفاشلة” إلى الدول التي تتولاها حكومات غير قادرة على القيام بالوظائف والمسؤوليات الأساسية لدولة ذات سيادة، كالدفاع عن وحدة أراضيها، أو إنفاذ القانون، أو العدالة، أو تقديم الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، أو عجزها عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
كما تعتبر الدولة “فاشلة” حين يتفشى في أراضيها وبين سكانها: العنف المدني، والفساد، والجريمة، والفقر، والأميّة، وتعجز الدولة عن توفير السلع والخدمات الأساسية، وتفشل في حماية سكانها، ما يؤدي إلى فقدانها الشرعيّة عند النخب والجماهير.
وفيما تستمر معظم الأدبيات الرسمية ووسائل الإعلام العربية في التغاضي عن المسببات الرئيسية للحالة التي وصلت إليها تلك الجمهوريات، تندفع مراكز الفكر الغربية لتقديم أطروحات راديكالية تتضمن إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية، وتدعو إلى إنشاء كيانات سياسية بديلة تراعي التقسيمات الإثنية والطائفية.
وظهرت بواكير الاهتمام الغربي بإعادة رسم الخارطة العربية عام 2001؛ حيث تناولت العديد من المصنفات ظاهرة تأثير الأزمات الداخلية في بلدان العالم العربي على الأمن الدولي، معتبرة أن هشاشة البنى التحتية للجمهوريات العربية تمثل نموذجاً لانعدام الاستقرار الإقليمي الذي يمكن أن يؤثر بدوره على الأمن الدولي.
وشهدت الفترة 2001-2006؛ ظهور دعوات غربية لتغيير البنية الجيو-سياسية للمنطقة العربية، أبرزها كتابات الضابط المتقاعد، رالف بيترز، الذي نشر دراسة ذكر فيها أن الحرب على الإرهاب ستبقى ناقصة ما لم تتم معالجة “قضايا الإرهاب الأصولي والتخريب والكراهية الصادرة من الدول المحافظة التي لعبت دوراً في تقويض الأنظمة العلمانية ونشر التطرف في العالم الإسلامي وإعادة حقوق الإنسان إلى الوراء”.
وفي ورقة مقدمة إلى وزارة الدفاع الأمريكية (يونيو 2002)، دعا الخبير الاستراتيجي بمؤسسة “راند”، لوران موريس، الإدارة الأمريكية إلى تبني حلول عسكرية متشددة في المنطقة العربية، وذلك بالتزامن مع مشاركة القيادي في أوساط المحافظين الجدد، وليام كريستول، في مؤتمر بإيطاليا، تحدث فيه عن وجود أجندة أمريكية ستبدأ بالحرب على العراق وتنتهي “بإسقاط الأنظمة الملكية في الخليج العربي”.
وتزامنت تلك الأطروحات المتطرفة مع نشر تقرير تقدم به مؤسس معهد “هدسون” للدراسات الإستراتيجية، ماكس سنجر، لوزارة الدفاع الأمريكية (أغسطس 2002)، يتلخص في الدعوة إلى إسقاط بعض الأنظمة العربية، وإنشاء جمهورية شيعية شرقي شبه الجزيرة العربية، وذكر المتحدث باسم البنتاغون اللفتنانت، مايكل هوم، أن سنجر اجتمع بأندرو مارشال، وهو أحد المقربين من وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ودار الحديث بينهما حول إمكانية إنشاء كيان شيعي جديد في الخليج العربي.
وفي الفترة التي ظهرت فيها التقارير الداعية إلى إعادة رسم الخريطة العربية عام 2002؛ كانت الإدارة الأمريكية منهمكة في إعداد خططها لغزو العراق، الذي تأسس فيه نظام سياسي يقوم على محاصصة إثنية-طائفية شبه رسمية عام 2003.
وفي مارس 2003 نشر الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ليسلي غليب، مقالاً بعنوان: “العراق.. حل الدول الثلاث”، دعا فيه إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي وطائفي، وتبنّت “لجنة بيكر” هذا المقترح الذي أيده أبرز أعضاء المجلس.
وفي شهر أبريل 2006، نشر معهد “غلوبال ريسيرتش” الكندي مقالاً، تحدث فيه الباحث، غاري هلبرت، عن وجود مخططات أمريكية لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس إثنية وطائفية، وأكد أن نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني ونائب وزير الدفاع الأسبق بول ولفويتز، كانا من أبرز المؤيدين لفكرة التقسيم.
وتزامن صدور ذلك المقال، مع نشر مركز “ستراتفور” للدراسات الجيوسياسية تقريراً، تناول خطط الإدارة الأمريكية لتقسيم العراق إلى ثلاث دول؛ بحيث يكون القسم الأول وسط العراق وعاصمته بغداد، والقسم الثاني هو إقليم “كردستان العراق” الذي يمكن أن يتحول إلى دولة تتمتع بحكم ذاتي، أما القسم الثالث فيقع جنوب العراق وعاصمته البصرة ويقوم على أسس طائفية بحتة، وورد الحديث عن إمكانية أن يضم القسم الثالث أجزاء من دول عربية مجاورة لتشكيل دولة شيعية كبرى، وأكد التقرير أن هذه المقترحات قد طرحت للنقاش في لندن مع بعض الساسة العراقيين في يوليو 2005.
وفي يوليو 2006؛ نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية دراسة للنائب الأسبق لرئيس هيئة الأركان الأمريكي، رالف بيترز، دعا فيها إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن هذه الخطة لم تعتمد من قبل الإدارة الأمريكية، إلا أنها عُرضت للنقاش في كلية حلف شمال الأطلسي، وتم تداولها في دوائر رسمية عدة بالولايات المتحدة الأمريكية، وأكد أحد الباحثين في معهد الدراسات الدولية وجود خرائط أخرى لا تقل أهمية عن خريطة بيترز، إلا أنها لم تتسرب إلى الصحافة، وأدى نشر هذه الخريطة ومناقشتها في أروقة الناتو إلى احتجاج رئيس هيئة الأركان التركي لدى نظيره الأمريكي على “التجاوز الخطير المتمثل في الدعوة إلى إنشاء دولة كردية على حساب تركيا”.
في هذه الأثناء واجهت مؤسسات “دعم الديمقراطية” الأمريكية تهماً رسمية بدعم الجماعات الراديكالية من خلال: إقامة ندوات حوارية، وعقد اجتماعات تنسيقية، وتنظيم برامج تدريبية، كبرنامج “قادة الديمقراطية” الذي رعته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2008 وشارك فيه عدد من قادة الجماعات المتطرفة التي لا تؤمن بالديمقراطية من حيث المبدأ.
ودأب عدد من المحللين الغربيين على دراسة مظاهر الدعم الأمريكي لهذه الجماعات المتطرفة وإبداء التفهم لمطالبها بالانفصال السياسي أو الحكم الذاتي، ومن أبرز هذه الدراسات: كتابات الباحث الأمريكي من أصل إيراني ولي نصر، الذي أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبنّت مبدأ “تمكين الأقليات” في العالم العربي منذ عام 2003، وقد فرض ذلك عليها وضع سياسة جديدة للتعامل مع الأقليات في المنطقة الممتدة ما بين لبنان وباكستان.
ورأى نصر أن مصالح الولايات المتحدة قد ارتبطت، منذ ذلك الحين، بجماعات إثنية وطائفية متحمسة لمشاريع دعم الديمقراطية الأمريكية، مؤكداً أن مفتاح التغيير في الشرق الأوسط ينبع من العراق التي تم تغيير موازين القوى فيها بصورة “أكثر واقعية”، حيث يضمحل دور الحركات العلمانية، وتندرس معالم الأيديولوجيا والفكر، في حين تفرز العمليات الانتخابية ممثلين عن الأعراق والطوائف بدلاً من منسوبي الأحزاب والحركات السياسية، ورأى أن هذه الجماعات هي التي ستهيمن على الساحة السياسية في الشرق الأوسط وستستحوذ على الموارد والثروات في مرحلة ما بعد الإطاحة بالدكتاتوريات.
وفي دراسة حول ارتباط المصالح الأمريكية بالأقليات؛ توقع الباحث الأمريكي، جيمس لي، زيادة تأثير الأقليات على الشؤون السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، خاصة أن إيران هي الدولة الأكبر في المنطقة، وأنها تمارس نفوذاً على عدد من الجماعات المرتبطة بها فكرياً وعقائدياً.
ومثلت حقبة “الربيع العربي” فرصة لتقدم مجموعة من الباحثين الغربيين بأطروحات أكثر جرأة فيما يتعلق بإعادة رسم خريطة المنطقة؛ ففي الوقت الذي ركزت فيه الحركات الشعبية في الجمهوريات العربية على تعزيز الحريات العامة وإصلاح أنظمة الإدارة والحكم؛ طرحت بعض مراكز الفكر الغربية مقترحات جديدة لإعادة ترسيم الحدود، وكان من أبرزها محاضرة هنري كيسنجر بمدرسة “جيرالد فورد للسياسة العامة”، والتي طرح فيها فكرة تقسيم سوريا، قائلاً: “هنالك ثلاثة نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض، وهذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق”.
ورأى الباحث في جامعة هارفرد، روجر أوين، أن التسوية الغربية للمنطقة العربية عقب الحرب العالمية الأولى أنتجت دولاً مصطنعة لا يزال تحقيق الاستقرار فيها متعذراً دون حكم عسكري استبدادي، ما يدفع بالمجتمع الدولي اليوم للبحث عن ترتيبات جديدة لتحقيق الاستقرار، عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق حدود جديدة تحظى باعتراف عالمي كما وقع في السودان، أو من خلال تطبيق مفهوم “التجزئة ضمن الحدود” كما هو الحال في العراق، معتبراً أن السيناريو الأخير هو الأفضل بالنسبة للحالة السورية، إذ إن البديل قد يتمثل في نشوء دولة فاشلة يمكن أن تؤثر سلباً على جيرانها.
وفي دراسة موازية أشار الكاتب في صحيفة “نيويورك بوست”، أرنولد ألرت، إلى ظهور عوامل التحلل على خريطة المنطقة العربية بعد مرور نحو قرن ساد فيه الحكم الاستعماري ودعا إلى تأسيس نظام “ترويكا” في سوريا، تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين.
وعلى نهج سابقيه؛ نشر الباحث بجامعة “جورج تاون”، غبريال شينمان، بحثاً أشار فيه إلى أن الشرق الأوسط يدفع ثمن أخطاء الدول الغربية عندما رُسمت خريطة المنطقة في مطلع القرن العشرين، مؤكداً أن مفتاح حل الأزمات السياسية في حقبة “الربيع العربي” يكمن في إعادة رسم خريطة المنطقة فيما يحقق طموح الأقليات، واستشهد بمبادئ ولسون الأربعة عشر التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
جدير بالذكر أن مؤسسات الإعلام ومراكز البحث الإسرائيلية بادرت من جهتها إلى تبنّي مفهوم إعادة رسم خريطة المنطقة فيما يحقق مصالحها، إذ نشر رئيس تحرير صحيفة “هآرتز” العبرية، ألوف بن، مقالاً أكد فيه ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن صياغة خريطة سياسية جديدة تحترم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك عبر تأسيس كيانات سياسية جديدة، وهو الأمر الذي سيكسر عزلة إسرائيل، ويتيح لها مجال المناورة، ويعزز فرص تواصلها مع شعوب المنطقة.
واختتم بن مقالته بالقول: “لا نستطيع تجاهل أن إسرائيل هي لاعب أساسي في السعي نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وترسيم حدودها، وفي سياق متصل لن تكون إسرائيل بمنأى عن تأثيرات تفكك الدول المجاورة لها، لا سيما الأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية، حيث يمكن لإسرائيل أن تتبنّى سياسة ذكية تمكنها من تحديد الفرص الكامنة لانبثاق دول جديدة، وتساعدها على استغلال هذه الفرص، وتجعلها قادرة على احتواء عملية التحول الحتمي بهدف تعزيز قوتها ونفوذها في المنطقة”.
ومنذ نشر كتابه: “كيف تدير العالم” عام 2011؛ يعتبر الباحث في مؤسسة “أمريكا الجديدة”، باراج خانا، أحد أبرز المنادين بإعادة رسم خريطة المنطقة، حيث توقع أن يصل عدد الدول المستقلة في العالم خلال الفترة القادمة إلى 300 دولة بدلاً من 200 دولة اليوم، ودعا إلى التعامل مع الأزمات السياسية في المنطقة من خلال حلول جذرية تتلخص في تأسيس دول علوية وكردية، وأخرى قومية في آسيا الوسطى تحت مسمى “أذربيجان الكبرى”.
وفي مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي” بعنوان: “الانفصال قد يكون مفيداً”، رأى خانا أن ولادة دولة جنوب السودان مثلت بداية ولادة شرق أوسط جديد على أسس إثنية ومذهبية، واقترح حزمة من الآليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لضمان استمرارية هذه الدول، عبر المزج بين المرونة والقسوة في تحقيق طموحات شعوب المنطقة، إذ إن البديل الوحيد لحالة “الصراع الدائم” داخل هذه الدول يكمن في منح الشعوب حق تقرير المصير مهما كانت التكلفة. ودعا الدول الغربية إلى تقديم الدعم للهيئات الإقليمية والجماعات الانفصالية لتأهيلها حتى تكون قادرة على إنجاز عملية إعادة التقسيم.
وفي مقابل الزخم الغربي للتقدم بحلول جذرية للمعضلة الأمنية العربية؛ لا تزال النخب العربية عاجزة عن التقدم بأطروحات ناضجة للتعامل مع المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي، حيث تستمر المصنفات العربية في تكرار أطروحات حقبة التسعينيات، دون القدرة على نقض أطروحات التقسيم الغربية، أو التقدم بمشاريع لمعالجة المشاكل الأمنية المستحكمة في المنطقة.