الأمن العربي وتحديات التغيير

تغذية العنف

في عام 1898 نشر الرأسمالي البولندي جان بلوخ (1836-1902) مؤلفه الضخم، والمكون من ستة مجلدات بعنوان: “حرب المستقبل” (La Guerre Future)، والذي ترجم إلى الإنجليزية تحت عنوان: “هل الحرب مستحيلة الآن؟” (Is War Now Impossible)، وكانت فرضيته الأساسية هي أن التطورات التقنية ستجعل الحرب أكثر تدميراً إلى حد الانتحار.

ورأى بلوخ أن: “التطورات التقنية التي طرأت جعلت الحرب وسيلة غير عملية، فأبعاد الأسلحة الحديثة وتنظيم المجتمع جعلتا مواصلة الحرب أمراً مستحيلاً من الناحية الاقتصادية، ولو حاول أحد نفي الدقة عن هذا التوصيف بإجراء اختبار على نطاق واسع لوجد أن النتيجة الحتمية هي كارثة تدمير كل التنظيمات السياسية القائمة”.

وتوقع بلوخ أن تؤدي زيادة القدرة التدميرية للأسلحة الصغيرة والمدفعية إلى خلق مناطق عميقة من الأراضي المحترقة التي يستحيل على القوات عبورها دون التعرض لخسائر بشرية فادحة، ولذلك فستجد الجيوش صعوبة في اقتراب بضعها من بعض، وستكون نتيجة ذلك أن يتبخر أي أمل في إمكانية تحقيق انتصار سريع. وتوقع أن تتراجع العمليات العسكرية الكبرى، وأن تحل محلها حروب استنزاف طويلة، تتحكم فيها الحصون والملاذات الآمنة، وتهيمن القوة النارية: “حيث يُستخدم المحتضرون والموتى دروعاً لتعزيز تلك الحصون”.

ويُطلق على هذه الظاهرة اليوم مصطلح “الثورة العسكرية”، والتي تشير إلى ظهور تقنيات تدميرية تفرض نفسها على المفاهيم والقدرات العسكرية القائمة وتستلزم إعادة التفكير في: كيف؟ وبماذا؟ وعبر من؟ تشن الحرب، وخاصة فيما يتعلق اليوم بتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة، والمجسات، والتصنيع المتقدم، وعلوم ميكانيكا الكم، وغيرها من التقنيات التي غيرت مفهوم الحرب بشكل جذري.

وعلى الرغم من التقدم الذي شهدته السنوات الأخيرة في تكنولوجيا الحرب إلا أن طبيعة الحرب لم تتغير، إذ بقي العنف هو السمة الأبرز، ما دفع بالدول للعمل على تفادي مقتل أعداد كبيرة من قواتها، عبر اللجوء إلى الشركات الأمنية الخاصة، وتسليح الميلشيات، وشن حروب الاستنزاف، وتحريض مجموعات من السكان المحليين لشن المعارك نيابة عنها.

وتُعدّ ظاهرة تزويد الصراعات في الشرق الأوسط بترسانة “أسلحة المشاة” الخاصة بأوروبا الشرقية الظاهرة الأكبر في العقد الماضي، حيث كشفت مصادر عسكرية عن قيام بعض الدول بشراء كميات كبيرة من الأسلحة السوفيتية القديمة، مثل: البنادق الآلية من طراز (AK-47)، وقاذفات الصواريخ، والأسلحة المضادة للدبابات، والمدافع المضادة للطائرات، والدبابات القديمة من طراز (T-55) و(T-72)، وقذائف الهاون، والرشاشات المتوسطة، والمسدسات الأوتوماتيكية، وإرسالها إلى مناطق النزاع في العالم العربي.

وكشفت “شبكة البلقان للتحقيقات الإخبارية”، في تقرير مشترك مع مشروع “تقارير الجريمة المنظمة والفساد” (2016)، عن تحول دول شرق ووسط أوروبا إلى فاعلين مركزيين في سوق تصدير الأسلحة الصغيرة والمتوسطة وإرسالها إلى بؤر الصراعات الإقليمية، مشيرة إلى “طفرة غير مسبوقة” في تصدير الأسلحة من: البوسنة، وبلغاريا، وكرواتيا، والتشيك، وسلوفاكيا، وصربيا، ورومانيا، والجبل الأسود، عبر مسارات متعددة إلى مناطق الصراع في العالم العربي، حيث كشف رصد الذخائر والأسلحة المنتشرة في الصراع أن تلك الأسلحة استُسخدمت بكثافة من قبل الميلشيات المتصارعة في حروب سوريا والعراق واليمن.

وتصدرت كرواتيا الدول الأكثر تصديراً للسلاح إلى المنطقة، حيث قامت بتصدير أسلحة قيمتها حوالي 302 مليون دولار، تلتها في المرتبة الثانية جمهورية التشيك التي استوفت تعاقدات تسلح بحوالي 240 مليون دولار، فيما صدّرت صربيا أسلحة بحوالي 194 مليون دولار، وكان نصيب سلوفاكيا حوالي 192 مليون دولار، مقابل تصدير بلغاريا أسلحة بحوالي 122 مليون دولار، وحصلت رومانيا على تعاقدات تصدير بحوالي 81 مليون دولار، وحصلت البوسنة والهرسك على تعاقدات بحوالي 72 مليون دولار.

وأدت زيادة أرباح تصدير الأسلحة إلى تأسيس كيانات وسيطة في دول شرق أوروبا لتجميع الأسلحة سوفيتية الصنع، والتي انتشرت خلال الصراعات الأهلية الدامية بالبلقان مطلع التسعينيات، كما عادت مصانع السلاح، في هذه الدول، للعمل بقوة بعد فترة تعثر طويلة في مرحلة ما بعد انتهاء “الحرب الباردة”.

وأكد رئيس وزراء صربيا، ألكسندر فوتشيتش، أن مصانع السلاح في دولته زادت إنتاجها بحوالي خمسة أضعاف، ولا تزال غير قادرة على تلبية الطلب المتصاعد على الأسلحة والذخائر، وتسليم شحنات الأسلحة التي تم التعاقد عليها، وهو ذات الاتجاه الذي ينطبق على صناعة الأسلحة في البوسنة وكرواتيا.

ورصد التقرير تصدير 68 شحنة من الأسلحة إلى المنطقة العربية خلال عامي 2015 و2016، مُقدراً أن الشحنة الواحدة -على الأقل- تتضمن 16,000 بندقية آلية، وثلاثة ملايين طلقة، وأكد أن الجيش الأمريكي نقل حوالي 47 ألف طن من الأسلحة والذخائر من موانئ البحر الأسود إلى تركيا في ديسمبر 2015 لإعادة تصديرها إلى مناطق النزاع.

ووفقاً للتقرير فإن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت، بصورة مباشرة، عمليات تصدير الأسلحة من دول شرق أوروبا إلى المنطقة، حيث قامت “قيادة العمليات الخاصة” بوزارة الدفاع الأمريكية (SOCOM) بدور مركزي في عمليات شراء الأسلحة ونقلها إلى ساحات القتال.

وعلى الرغم من عدم إعلان الولايات المتحدة عن وجهة شحنات الأسلحة، إلا أن الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي كشفت عن وصول معظم تلك الأسلحة إلى الميلشيات الكردية في سوريا.

ويعتبر تزايد تدفق الأسلحة من دول شرق أوروبا إلى بؤر الصراع العربي أحد أهم مؤشرات ضعف نظام ضبط التسلح، حيث تذهب معظم تلك الأسلحة إلى الميلشيات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة، وجماعات التطرف والغلو.

فواعل ما دون الدولة

يتزامن ازدهار أسواق السلاح مع الجهود التي تبذلها بعض الدول الغربية لتمكين بعض الميلشيات الإثنية والطائفية، بعد رفعها من قوائم الإرهاب، بحيث أصبحت القوى الفاعلة خارج إطار الدول تُشكل مكوناً أساسياً في المعادلة العسكرية بالمنطقة العربية، ولم يعد من الممكن تحليل الأوضاع الأمنية بالتركيز على الدول وحدها.

وتُعرّف القوى الفاعلة خارج إطار الدول بأنها: “جماعات أو منظمات تتمتع بعدد من السمات وتتمثل في الاستقلال التام أو بدرجة كبيرة عن تمويل الحكومة المركزية التي تعمل على أرضها، وبامتلاك موارد خاصة بها، وبهوية متميزة، وبسياسة خارجية مستقلة عن سياسات الدولة التي تنتمي إليها”.

وبخلاف الجيل الأول من الفاعلين، الذين ظهروا ضمن حركات التحرر ضد الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ينتمي الجيل الثاني إلى إثنيات وطوائف، كالشيعة والأكراد في العراق، والدروز والعلويين والأكراد في سوريا، والحوثيين في اليمن، والجنجويد في السودان، والبربر والأمازيغ والطوارق في الجزائر والمغرب.

وتكمن الخطورة في إقامة تلك المجموعات أنماطاً من العلاقات شبه الرسمية دولياً رغم أجنداتها المتطرفة، كما هو الحال بالنسبة لميلشيا “حزب الله” اللبناني، و”وحدات حماية الشعب” الكردية في سوريا، والمنظمات التي تم رفعها من قوائم الإرهاب وضم عناصرها للجيش العراقي كالميلشيات التابعة لحزب “الدعوة” العراقي، وميلشيا الصدر، و”الحشد الشعبي”.

وتلقت تلك المجموعات دفعة كبيرة عقب الغزو الأمريكي للعراق (2003)، حيث تم اعتماد نظام سياسي يقوم على تقسيم الحكم بين الأكراد والشيعة والسنة، ومنذ ذلك الحين ارتبط المشروع الأمريكي في المنطقة بترجيح كفة الأقليات، وزيادة تمثيلها في أنظمة الإدارة والحكم، وذلك بعد أن قام الأمريكان بالدور الأكبر في تدمير القدرات العسكرية العراقية التي كانت أداة الردع الرئيسة في وجه التوسع الإيراني.

وفي المرحلة الممتدة ما بين عامي 2003 و2007 بدأت تظهر ملامح المشروع الأمريكي للشرق الأوسط من خلال برامج “دعم الديمقراطية” التي ارتبطت بفكرة “تمكين الأقليات”، حيث تحدث تقرير نشره معهد “غلوبال ريسيرتش” في شهر نوفمبر 2006؛ عن وجود تنسيق: أمريكي-بريطاني-إسرائيلي لتمكين الأقليات في المنطقة، وأكد سعي أجهزة الاستخباراتية الدولية إلى تشجيع الأقليات للمطالبة بكيانات سياسية مستقلة، ما يقدم حجة للتدخل الغربي تحت ذريعة حماية الأقليات فيها.

وسرعان ما تنامى نفوذ تلك الميلشيات، وخاصة في العراق حيث تشكلت قوات “الحشد الشعبي” من نحو 67 ميلشيا عام 2016، وبلغ تعدادها نحو 150 ألف عنصر، وأصبحت تتقاضى رواتب ومخصصات من الحكومة العراقية كقوة شبه عسكرية، علماً بأن “الحشد الشعبي” ينتمي إلى الجيل الثاني من الميلشيات التي تمت شرعنتها بعد رفعها من قوائم الإرهاب، أما الجيل الأول فيتمثل في قوات “البيشمركة”، التابعة للحزبين الكرديين الرئيسين: “الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”، وكذلك ميلشيات “فيلق بدر” التابعة لـ”لمجلس الأعلى الإسلامي العراقي” بزعامة عبد العزيز الحكيم، و”جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر.

ومنذ عام 2012؛ تنتشر في سوريا عشرات الميلشيات، أبرزها “الدفاع الوطني” التي تحصل على رواتبها من حكومة النظام، ويبلغ تعدادها نحو 100 ألف عنصر، يضاف إليها عدد كبير من عصابات “الشبيحة” والفرق المسلحة التابعة لأجهزة الأمن، والتي ينتمي عناصرها إلى الأقلية العلوية في البلاد، وعدد من الميلشيات الشيعية الأجنبية مثل “فاطميون” من الأفغان، وميلشيا “زينبيون” التي تم تشكيلها عام 2015 من الباكستانيين الشيعة.

وتتحدث المصادر عن انخراط نحو 50 ميلشيا خارجية؛ عراقية، ولبنانية، وإيرانية، وباكستانية، وأفغانية، موالية لإيران في القتال بسوريا، وتراوح تقدير مجموع عناصرها بين 70 ألف و100 ألف، يضاف إليهم عدد من قوات العشائر، والميلشيات الكردية، وعلى رأسها “وحدات حماية الشعب الكردية”، والتي تنضوي تحت ميلشيا “قوات سوريا الديمقراطية”.

في هذه الأثناء؛ يهيمن على المشهد السياسي اللبناني عدد من الحركات السياسية التي امتلكت (أولا تزال تمتلك) ميلشيات مسلحة، مثل “القوات اللبنانية”، و”جيش لبنان الجنوبي”، و”جيش لبنان الحر”، و”جيش لبنان العربي”، و”حراس الأرز”، و”حركة أمل”، و”نمور الأحرار”، و”الكتائب”، و”حزب الله”، و”الحزب التقدمي” و”عصبة الأنصار”.

وكذلك في اليمن حيث تنشط العديد من الميلشيات التي تتلقى دعماً خارجياً، كالحوثيين في صنعاء، وميلشيات: “الحراك الجنوبي”، و”المقاومة الشعبية”، و”اللجان الشعبية”، و”لواء الحزام”، و”لواء العمالقة”، و”قوات النخبة الحضرمية”، وغيرها.

وتشهد ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي، صراعاً مستمراً بين عدد من الميلشيات المسلحة التي تختلف توجهاتها وتتنوع ولاءاتها، ومن أبرزها: “قوة الردع الخاصة”، و”كتيبة النواصي”، وميلشيا “الأمن المركزي”، و”كتيبة ثوار طرابلس”، ولواء المحجوب”، و“كتيبة المرسى”، و”لواء الحلبوص”، و”الجماعة الليبية المقاتلة”، و”الحرس الوطني”، وغيرها من الميلشيات.

وعلى الرغم من الاندفاع الغربي لتسليح تلك الميلشيات، وتمكينها من السيطرة على بعض الأقاليم؛ إلا أن جميع تلك التجارب قد باءت بالفشل، وخاصة في تجربة فصل جنوب السودان عن شماله (2011)، حيث مثلت تجربة جنوب السودان أحد أفشل مشاريع التدخل الأمريكي، إذ صنفت الأمم المتحدة دولة جنوب السودان (2010) على أنها “دولة فاشلة”، مؤكدة أن اثنين من كل خمسة من مواطنيها يعانون من سوء التغذية، فيما فقد نحو 400 ألف جنوب سوداني حياتهم في الحرب الأهلية الجارية، وتصنف اليوم من بين أكثر بلدان العالم هشاشة وفساداً وتأثراً بالصراع.

ولم يكن المشروع الميلشياوي أوفر حظاً في العراق؛ ففي 2015؛ هاجم رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، تلك الميلشيات بسبب امتهانها السرقة والسطو المسلح والتضييق على حريات المواطنين الشخصية، فيما أكد عضو “التحالف الوطني” علي الربيعي، أن أعضاءها يتسلمون مرتباتهم الشهرية من الموازنة العامة للدولة، مشيراً إلى أنه: “من الخطأ اعتبار كل أعضاء الحشد الشعبي مجاهدين أو مقاتلين ضد داعش بل هناك فئة استغلّت الأوضاع لارتكاب جرائم قتل طائفية وسرقة وسطو مسلح وحتى اعتداءات أخرى، ويمكن ملاحظتهم بكل قوة عند المعارك الحامية يختفون وبعد انتهائها يظهرون للسرقة والاعتداء والتقاط الصور لتقديمها إلى مراجعهم العسكرية أو الدينية في العراق وبطبيعة الحال في إيران أيضاً”.

وتلقي تلك التصريحات الضوء على الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها، ولا تزال ترتكبها، الميلشيات المدعومة أمريكياً أو إيرانياً في المنطقة العربية، وتورطها في أعمال القتل والتعذيب والتهجير القسري وتجنيد الأطفال، وغيرها من الانتهاكات الموثقة، والتي تؤكد أن تلك الميلشيات لا تقل إجراماً عن خصومها، ولا تمثل بديلاً عن الدول الفاشلة التي تعمل فيها.

ويمثل الصراع الكردي-الكردي نموذجاً أكبر للفشل، حيث تدور خلافات طاحنة بين مختلف الفصائل الكردية، بالتزامن مع مواجهات مسلحة وحروب إعلامية بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”حزب العمال الكردستاني”، فضلاً عن خطوط الصدع الناشئة في المشهد السياسي الكردي داخل إقليم كردستان العراق، وعبر الحدود بين ميلشيات وأحزاب أكراد سوريا وأكراد تركيا، والذين تتباين اتجاهاتهم وولاءاتهم.

وكذلك الحال في لبنان، حيث تحول الخلاف بين الفصيلين الشيعيين “أمل” و”حزب الله” إلى مواجهات مفتوحة (1988)، استمرت ثلاث سنوات، وتسببت الخلافات المسيحية-المسيحية، وخاصة بين “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب” بمواجهات دامية بين الطرفين.

كما عانت الطائفة الدرزية من الصراع بين الزعامتين الجنبلاطية والأرسلانية، وأخذ الخلاف منحى عنيفاً في عدة مناسبات، خاصة بعد دخول رئيس “حزب التوحيد العربي”، وئام وهاب، على خط الصراع، فيما تخوض الميلشيات الدرزية في سوريا معارك فيما بينها حتى كتابة هذه السطور.

وتؤكد القائمة الطويلة من الصراعات الدامية داخل المكونات الطائفية أن ديناميكيات الصراع لا تتوقف عند حدود الإثنيات والطوائف، وأنه من السذاجة اعتقاد أن سياسات التجزئة والتقسيم ستحقق تجانساً مجتمعياً في المناطق التي يتم اقتطاعها لصالح ميلشيات أقلوية تدين بالولاء لقوى دولية متصارعة فيما بينها.

مخططات إعادة التقسيم

يُشير مصطلح “الدولة الفاشلة” إلى الدول التي تتولاها حكومات غير قادرة على القيام بالوظائف والمسؤوليات الأساسية لدولة ذات سيادة، كالدفاع عن وحدة أراضيها، أو إنفاذ القانون، أو العدالة، أو تقديم الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، أو عجزها عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي.

كما تعتبر الدولة “فاشلة” حين يتفشى في أراضيها وبين سكانها: العنف المدني، والفساد، والجريمة، والفقر، والأميّة، وتعجز الدولة عن توفير السلع والخدمات الأساسية، وتفشل في حماية سكانها، ما يؤدي إلى فقدانها الشرعيّة عند النخب والجماهير.

وفيما تستمر معظم الأدبيات الرسمية ووسائل الإعلام العربية في التغاضي عن المسببات الرئيسية للحالة التي وصلت إليها تلك الجمهوريات، تندفع مراكز الفكر الغربية لتقديم أطروحات راديكالية تتضمن إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية، وتدعو إلى إنشاء كيانات سياسية بديلة تراعي التقسيمات الإثنية والطائفية.

وظهرت بواكير الاهتمام الغربي بإعادة رسم الخارطة العربية عام 2001؛ حيث تناولت العديد من المصنفات ظاهرة تأثير الأزمات الداخلية في بلدان العالم العربي على الأمن الدولي، معتبرة أن هشاشة البنى التحتية للجمهوريات العربية تمثل نموذجاً لانعدام الاستقرار الإقليمي الذي يمكن أن يؤثر بدوره على الأمن الدولي.

وشهدت الفترة 2001-2006؛ ظهور دعوات غربية لتغيير البنية الجيو-سياسية للمنطقة العربية، أبرزها كتابات الضابط المتقاعد، رالف بيترز، الذي نشر دراسة ذكر فيها أن الحرب على الإرهاب ستبقى ناقصة ما لم تتم معالجة “قضايا الإرهاب الأصولي والتخريب والكراهية الصادرة من الدول المحافظة التي لعبت دوراً في تقويض الأنظمة العلمانية ونشر التطرف في العالم الإسلامي وإعادة حقوق الإنسان إلى الوراء”.

وفي ورقة مقدمة إلى وزارة الدفاع الأمريكية (يونيو 2002)، دعا الخبير الاستراتيجي بمؤسسة “راند”، لوران موريس، الإدارة الأمريكية إلى تبني حلول عسكرية متشددة في المنطقة العربية، وذلك بالتزامن مع مشاركة القيادي في أوساط المحافظين الجدد، وليام كريستول، في مؤتمر بإيطاليا، تحدث فيه عن وجود أجندة أمريكية ستبدأ بالحرب على العراق وتنتهي “بإسقاط الأنظمة الملكية في الخليج العربي”.

وتزامنت تلك الأطروحات المتطرفة مع نشر تقرير تقدم به مؤسس معهد “هدسون” للدراسات الإستراتيجية، ماكس سنجر، لوزارة الدفاع الأمريكية (أغسطس 2002)، يتلخص في الدعوة إلى إسقاط بعض الأنظمة العربية، وإنشاء جمهورية شيعية شرقي شبه الجزيرة العربية، وذكر المتحدث باسم البنتاغون اللفتنانت، مايكل هوم، أن سنجر اجتمع بأندرو مارشال، وهو أحد المقربين من وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ودار الحديث بينهما حول إمكانية إنشاء كيان شيعي جديد في الخليج العربي.

وفي الفترة التي ظهرت فيها التقارير الداعية إلى إعادة رسم الخريطة العربية عام 2002؛ كانت الإدارة الأمريكية منهمكة في إعداد خططها لغزو العراق، الذي تأسس فيه نظام سياسي يقوم على محاصصة إثنية-طائفية شبه رسمية عام 2003.

وفي مارس 2003 نشر الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ليسلي غليب، مقالاً بعنوان: “العراق.. حل الدول الثلاث”، دعا فيه إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي وطائفي، وتبنّت “لجنة بيكر” هذا المقترح الذي أيده أبرز أعضاء المجلس.

وفي شهر أبريل 2006، نشر معهد “غلوبال ريسيرتش” الكندي مقالاً، تحدث فيه الباحث، غاري هلبرت، عن وجود مخططات أمريكية لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس إثنية وطائفية، وأكد أن نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني ونائب وزير الدفاع الأسبق بول ولفويتز، كانا من أبرز المؤيدين لفكرة التقسيم.

وتزامن صدور ذلك المقال، مع نشر مركز “ستراتفور” للدراسات الجيوسياسية تقريراً، تناول خطط الإدارة الأمريكية لتقسيم العراق إلى ثلاث دول؛ بحيث يكون القسم الأول وسط العراق وعاصمته بغداد، والقسم الثاني هو إقليم “كردستان العراق” الذي يمكن أن يتحول إلى دولة تتمتع بحكم ذاتي، أما القسم الثالث فيقع جنوب العراق وعاصمته البصرة ويقوم على أسس طائفية بحتة، وورد الحديث عن إمكانية أن يضم القسم الثالث أجزاء من دول عربية مجاورة لتشكيل دولة شيعية كبرى، وأكد التقرير أن هذه المقترحات قد طرحت للنقاش في لندن مع بعض الساسة العراقيين في يوليو 2005.

وفي يوليو 2006؛ نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية دراسة للنائب الأسبق لرئيس هيئة الأركان الأمريكي، رالف بيترز، دعا فيها إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن هذه الخطة لم تعتمد من قبل الإدارة الأمريكية، إلا أنها عُرضت للنقاش في كلية حلف شمال الأطلسي، وتم تداولها في دوائر رسمية عدة بالولايات المتحدة الأمريكية، وأكد أحد الباحثين في معهد الدراسات الدولية وجود خرائط أخرى لا تقل أهمية عن خريطة بيترز، إلا أنها لم تتسرب إلى الصحافة، وأدى نشر هذه الخريطة ومناقشتها في أروقة الناتو إلى احتجاج رئيس هيئة الأركان التركي لدى نظيره الأمريكي على “التجاوز الخطير المتمثل في الدعوة إلى إنشاء دولة كردية على حساب تركيا”.

في هذه الأثناء واجهت مؤسسات “دعم الديمقراطية” الأمريكية تهماً رسمية بدعم الجماعات الراديكالية من خلال: إقامة ندوات حوارية، وعقد اجتماعات تنسيقية، وتنظيم برامج تدريبية، كبرنامج “قادة الديمقراطية” الذي رعته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2008 وشارك فيه عدد من قادة الجماعات المتطرفة التي لا تؤمن بالديمقراطية من حيث المبدأ.

ودأب عدد من المحللين الغربيين على دراسة مظاهر الدعم الأمريكي لهذه الجماعات المتطرفة وإبداء التفهم لمطالبها بالانفصال السياسي أو الحكم الذاتي، ومن أبرز هذه الدراسات: كتابات الباحث الأمريكي من أصل إيراني ولي نصر، الذي أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبنّت مبدأ “تمكين الأقليات” في العالم العربي منذ عام 2003، وقد فرض ذلك عليها وضع سياسة جديدة للتعامل مع الأقليات في المنطقة الممتدة ما بين لبنان وباكستان.

ورأى نصر أن مصالح الولايات المتحدة قد ارتبطت، منذ ذلك الحين، بجماعات إثنية وطائفية متحمسة لمشاريع دعم الديمقراطية الأمريكية، مؤكداً أن مفتاح التغيير في الشرق الأوسط ينبع من العراق التي تم تغيير موازين القوى فيها بصورة “أكثر واقعية”، حيث يضمحل دور الحركات العلمانية، وتندرس معالم الأيديولوجيا والفكر، في حين تفرز العمليات الانتخابية ممثلين عن الأعراق والطوائف بدلاً من منسوبي الأحزاب والحركات السياسية، ورأى أن هذه الجماعات هي التي ستهيمن على الساحة السياسية في الشرق الأوسط وستستحوذ على الموارد والثروات في مرحلة ما بعد الإطاحة بالدكتاتوريات.

وفي دراسة حول ارتباط المصالح الأمريكية بالأقليات؛ توقع الباحث الأمريكي، جيمس لي، زيادة تأثير الأقليات على الشؤون السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، خاصة أن إيران هي الدولة الأكبر في المنطقة، وأنها تمارس نفوذاً على عدد من الجماعات المرتبطة بها فكرياً وعقائدياً.

ومثلت حقبة “الربيع العربي” فرصة لتقدم مجموعة من الباحثين الغربيين بأطروحات أكثر جرأة فيما يتعلق بإعادة رسم خريطة المنطقة؛ ففي الوقت الذي ركزت فيه الحركات الشعبية في الجمهوريات العربية على تعزيز الحريات العامة وإصلاح أنظمة الإدارة والحكم؛ طرحت بعض مراكز الفكر الغربية مقترحات جديدة لإعادة ترسيم الحدود، وكان من أبرزها محاضرة هنري كيسنجر بمدرسة “جيرالد فورد للسياسة العامة”، والتي طرح فيها فكرة تقسيم سوريا، قائلاً: “هنالك ثلاثة نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض، وهذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق”.

ورأى الباحث في جامعة هارفرد، روجر أوين، أن التسوية الغربية للمنطقة العربية عقب الحرب العالمية الأولى أنتجت دولاً مصطنعة لا يزال تحقيق الاستقرار فيها متعذراً دون حكم عسكري استبدادي، ما يدفع بالمجتمع الدولي اليوم للبحث عن ترتيبات جديدة لتحقيق الاستقرار، عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق حدود جديدة تحظى باعتراف عالمي كما وقع في السودان، أو من خلال تطبيق مفهوم “التجزئة ضمن الحدود” كما هو الحال في العراق، معتبراً أن السيناريو الأخير هو الأفضل بالنسبة للحالة السورية، إذ إن البديل قد يتمثل في نشوء دولة فاشلة يمكن أن تؤثر سلباً على جيرانها.

وفي دراسة موازية أشار الكاتب في صحيفة “نيويورك بوست”، أرنولد ألرت، إلى ظهور عوامل التحلل على خريطة المنطقة العربية بعد مرور نحو قرن ساد فيه الحكم الاستعماري ودعا إلى تأسيس نظام “ترويكا” في سوريا، تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين.

وعلى نهج سابقيه؛ نشر الباحث بجامعة “جورج تاون”، غبريال شينمان، بحثاً أشار فيه إلى أن الشرق الأوسط يدفع ثمن أخطاء الدول الغربية عندما رُسمت خريطة المنطقة في مطلع القرن العشرين، مؤكداً أن مفتاح حل الأزمات السياسية في حقبة “الربيع العربي” يكمن في إعادة رسم خريطة المنطقة فيما يحقق طموح الأقليات، واستشهد بمبادئ ولسون الأربعة عشر التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.

جدير بالذكر أن مؤسسات الإعلام ومراكز البحث الإسرائيلية بادرت من جهتها إلى تبنّي مفهوم إعادة رسم خريطة المنطقة فيما يحقق مصالحها، إذ نشر رئيس تحرير صحيفة “هآرتز” العبرية، ألوف بن، مقالاً أكد فيه ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن صياغة خريطة سياسية جديدة تحترم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك عبر تأسيس كيانات سياسية جديدة، وهو الأمر الذي سيكسر عزلة إسرائيل، ويتيح لها مجال المناورة، ويعزز فرص تواصلها مع شعوب المنطقة.

واختتم بن مقالته بالقول: “لا نستطيع تجاهل أن إسرائيل هي لاعب أساسي في السعي نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وترسيم حدودها، وفي سياق متصل لن تكون إسرائيل بمنأى عن تأثيرات تفكك الدول المجاورة لها، لا سيما الأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية، حيث يمكن لإسرائيل أن تتبنّى سياسة ذكية تمكنها من تحديد الفرص الكامنة لانبثاق دول جديدة، وتساعدها على استغلال هذه الفرص، وتجعلها قادرة على احتواء عملية التحول الحتمي بهدف تعزيز قوتها ونفوذها في المنطقة”.

ومنذ نشر كتابه: “كيف تدير العالم” عام 2011؛ يعتبر الباحث في مؤسسة “أمريكا الجديدة”، باراج خانا، أحد أبرز المنادين بإعادة رسم خريطة المنطقة، حيث توقع أن يصل عدد الدول المستقلة في العالم خلال الفترة القادمة إلى 300 دولة بدلاً من 200 دولة اليوم، ودعا إلى التعامل مع الأزمات السياسية في المنطقة من خلال حلول جذرية تتلخص في تأسيس دول علوية وكردية، وأخرى قومية في آسيا الوسطى تحت مسمى “أذربيجان الكبرى”.

وفي مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي” بعنوان: “الانفصال قد يكون مفيداً”، رأى خانا أن ولادة دولة جنوب السودان مثلت بداية ولادة شرق أوسط جديد على أسس إثنية ومذهبية، واقترح حزمة من الآليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لضمان استمرارية هذه الدول، عبر المزج بين المرونة والقسوة في تحقيق طموحات شعوب المنطقة، إذ إن البديل الوحيد لحالة “الصراع الدائم” داخل هذه الدول يكمن في منح الشعوب حق تقرير المصير مهما كانت التكلفة. ودعا الدول الغربية إلى تقديم الدعم للهيئات الإقليمية والجماعات الانفصالية لتأهيلها حتى تكون قادرة على إنجاز عملية إعادة التقسيم.

وفي مقابل الزخم الغربي للتقدم بحلول جذرية للمعضلة الأمنية العربية؛ لا تزال النخب العربية عاجزة عن التقدم بأطروحات ناضجة للتعامل مع المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي، حيث تستمر المصنفات العربية في تكرار أطروحات حقبة التسعينيات، دون القدرة على نقض أطروحات التقسيم الغربية، أو التقدم بمشاريع لمعالجة المشاكل الأمنية المستحكمة في المنطقة.

التغيير والعنف المصاحب

بعد انقضاء أحد عشر عاماً على أحداث الحقبة التي اصطلح على تسميتها “الربيع العربي” (2011-2022)، تحدثت بعض التقديرات عن خسارة الجمهوريات العربية نحو ترليون دولار من الدمار، ونصف ترليون دولار من الخسائر في البنى التحتية، وخروج 25 مليون لاجئ عربي، وفقدان نحو 30 مليون عامل وظائفهم، وتراجع 70 مليون عربي تحت خط الفقر، وعدم قدرة 15 مليون طفل عربي على الالتحاق بالدراسة، فضلاً عن تفشي الكراهية والصراع المجتمعي، وتنامي عمليات “الإرهاب الدولي” التي يقع نحو 45 بالمئة منها في المنطقة العربية، رغم أن سكانها لا يمثلون سوى 5 بالمئة من سكان العالم.

وبعد مرور أقل من ستة عقود على نشوء الجمهوريات العربية؛ تصارع كل من مصر وتونس والجزائر لاستعادة الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي، فيما تفشل كل من: العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، والسودان، وليبيا، والصومال، في إدارة مؤسسات الحكم، وتعجز عن استعادة الدولة بالمعنى الصحيح.

والحقيقة هي أن التحولات التي شهدتها لمنطقة العربية لم تحدث بصورة مفاجئة عام 2011، بل وقعت بصورة تدريجية، نتيجة متغيرات سياسية واقتصادية وديمغرافية، ففي الوقت الذي كانت تشهد فيه القارة الأوروبية تراجعاً في عدد السكان؛ ارتفعت نسبة الخصوبة بصورة غير مسبوقة في العالم العربي، حيث ارتفع عدد سكان الوطن العربي من 76,7 مليون نسمة عام 1950، إلى 422,7 مليون نسمة عام 2018، أي إنه تضاعف نحو ستة أضعاف في أقل من سبعين عاماً.

وتزامنت تلك الزيادة المضطردة في السكان مع بروز ظواهر الهجرة من الريف إلى المدينة، وحركة الاغتراب الضخمة التي لم يشهد تاريخ الهجرات العربية لها مثيلاً في القرون الماضية، حيث يقدر عدد المهاجرين العرب اليوم بنحو 50 مليون نسمة، يقطنون في أمريكا اللاتينية وأوروبا وأمريكا الشمالية وجنوب آسيا وغرب أفريقيا، ودول مجلس التعاون، وغيرها من الأقاليم.

وأسهم التدهور الاقتصادي، في تأجيج مظاهر السخط الشعبي في العالم العربي، والذي تمثلت أهم ملامحه فيما يلي:

– تنامي مظاهر الفساد، حيث صُنفت العديد من الجمهوريات العربية في ذيل قائمة مكافحة الفساد في تقرير “منظمة الشفافية” السنوي لمؤشر مدركات الفساد (CPI) الرابع والعشرين لعام 2018، إذ حصلت 86% من 22 دولة عربية شملها المؤشر على درجة أقل من 50%، وكانت الصومال الأكثر فساداً محتلة المرتبة الأخيرة (180)، سبقتها سوريا واليمن اللتان تشاركتا المركز (178)، تبعتها دول عربية تحدث التقرير عن الأوضاع فيها مشيراً إلى: “خضوع سياساتها وميزانياتها ومصارف أموالها لنفوذ شخصيات تعمل لمصالحها الشخصية على حساب المواطنين”، ما يفسر غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد في القطاع العام، والعجز عن تحقيق الالتزامات الدولية حسب الاتفاقيات الأممية وعدم الوفاء بتعهدات التنمية المستدامة، وتقييد حق حرية الرأي والتعبير، ومنع استقلال القضاء لتفادي محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وأدى ذلك إلى ارتفاع الكلفة التقديرية للفساد في المنطقة العربية بنحو ترليون دولار ومئتي مليار دولار عام 2018.

– ومثلت البطالة سبباً أكبر في تأجيج السخط الشعبي، حيث صنفت إحصائيات “البنك الدولي” بالتعاون مع “منظمة العمل الدولية” (سبتمبر 2018) منطقة الوطن العربي بأنها أعلى منطقة جغرافية في العالم في نسب البطالة، إذ شكلت نسبة 9,81% من إجمالي سكان العالم العربي، وذلك مقارنة مع المعدل العالمي لنسبة البطالة الذي بلغ 5,38 بالمئة فقط.

– وأسهمت الأمية والفقر في مضاعفة حالة التردي العربي، حيث أصبح نحو 30 مليون عربي تحت خط الفقر عام 2019، وتفشت الأمية التي شملت نحو 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة وفق تقديرات نشرت عام 2017، فضلاً عن عدم التحاق أكثر من 15 مليون طفل عربي بالمدارس عامي 2017 و2018.

– وكان لحقبة “الربيع العربي” أكبر الأثر في زيادة مظاهر الترهل العربي، حيث بلغت القيمة التقديرية لإعادة إعمار البنى التحتية نحو 600 مليار دولار، فيما ارتفعت خسائر الناتج المحلي العربي إلى 300 مليار دولار، فضلاً عن سقوط ملايين القتلى والجرحى في الحروب الأهلية والمعارك المستمرة.

ونتج عن حالة الانفلات الأمني تصدع عدة وحدات إقليمية عربية، مع خلق بيئة منفلتة لم يعد من الممكن معها إيجاد ضابط إقليمي، أو حتى دولي، يمكن أن يضبط إيقاع صراعات الإقليم، بحيث لم تعد الدول هي الوحدة السياسية الفاعلة.

وفيما يتفاقم عجز حكومات الجمهوريات العربية عن صيانة أمن البلاد وسيادتها؛ تتنامى المهددات الأمنية الإقليمية العابرة للدول والحدود، بما في ذلك: الجريمة المنظمة، والعنف المجتمعي، والأزمات المالية والغذائية، والتغيرات المناخية، واستهداف أمن المعلومات، وجرائم الفضاء الإلكتروني، ومهددات أمن الطاقة وأمن الموارد المائية، وظهور أجيال جديدة من الفيروسات والأمراض السارية الخارجة عن السيطرة، والتهديد الناجم عن الاستحواذ غير المشروع على المواد النووية، وغيرها من المهددات التي تتطلب تعاوناً إقليمياً (ودولياً) لدرء مخاطرها.

وفي أتون تلك التحولات العنيفة؛ تعاني معظم الجمهوريات العربية من تردي مفاهيم “التعايش الاجتماعي” و”الاندماج”، فيما تتنامى مظاهر العنف القائم على: “الاستخدام غير المشروع للقوة المادية بأساليب متعددة لإلحاق الأذى بالأشخاص، والإضرار بالممتلكات، ومختلف أنواع العقاب والاغتصاب والتدخل في حريات الآخرين”.

ويكمن التحدي الأكبر في استعادة القدرة على وقف مظاهر العنف المجتمعي الذي قد لا يرقى إلى مستوى الحروب الشاملة، لكنه يمثل مخاطر أكبر من الحروب بين الدول، خاصة وأنه يأخذ جملة من الظواهر التي تسفر عن وقوع انتهاكات جسيمة، أبرزها:

 1

العنف ضد السلطة

2

العنف ضد الجماهير

3

الاغتيال السياسي

4

عنف الجماعات المسلحة

5

العنف المجتمعي

6

العنف عبر الإقليمي

7

العنف ضد المرأة والطفل

8

العنف اللفظي

9

العنف الهوياتي

10

العنف الانفصالي

11

عنف الانقلابات العسكرية

12

عنف القضايا

مظاهر العنف في المجتمعات العربية

1- العنف تجاه السلطة الحاكمة وقياداتها، عبر قيام فئات غاضبة بمهاجمة المسؤولين الحكوميين، أو الاعتداء على الشرطة وقوى الأمن باعتبارهاً رمزاً للسلطة.

2- العنف تجاه الجماهير: والمتمثل في لجوء السلطات الحاكمة والمؤسسات والجماعات التابعة لها إلى ممارسة العنف ضد المدنيين بشتى الأسلحة والوسائل المتاحة.

3- الاغتيال السياسي: وهي ظاهرة باتت شائعة في العديد من الجمهوريات العربية خلال العقد الماضي، وتمارس من قبل مختلف أطراف الصراع.

4- عنف الجماعات المسلحة: حيث تنتشر الميلشيات المسلحة خارج إطار السلطة بسبب ضعف الحكم، وتلجأ إلى ممارسة العنف لتحقيق أهدافها.

5- العنف المجتمعي: والمتمثل في قيام مجموعات سكانية باستغلال ضعف المؤسسات الأمنية وعجزها عن حفظ الأمن، للقيام بأعمال عنف ضد مجموعات مناوئة لها أو مختلفة عنها من حيث الانتماء الإثني أو المذهبي.

6- العنف عبر الإقليمي: المتمثل في قيام قوى فاعلة عابرة للدول بممارسة العنف ضد الدولة والمجتمع على حد سواء.

7- العنف ضد فئات من المجتمع وخاصة المرأة والطفل: حيث تعمد بعض السلطات السياسية والجماعات إلى ارتكاب انتهاكات ممنهجة كالتحرش أو الاعتقال أو الاغتصاب، ضد الفئات الأضعف في المجتمع.

8- العنف اللفظي: المتمثل باستخدام الكلمات النابية والأوصاف المهينة والألفاظ المسيئة التي تحمل عبارات السخرية والاستهزاء والشتم، والتي تلجأ إليها السلطة في الغالب للحط من قيمة معارضيها، أو من قبل فئات مجتمعية ضد مناوئيها عبر الإعلام الرسمي ووسائل التواصل الاجتماعي.

9- العنف الهوياتي: حيث يؤدي تقاطع الهويات وتناقض المصالح بينها، إلى ممارسة العنف، خاصة في حال عجز السلطة الحاكمة عن إدارة التنوع، أو لجوئها إلى تأجيج الصراعات المجتمعية تحت شعار “فرق تسد”.

10- العنف الانفصالي: المتمثل في رغبة فئات أو جماعات معينة بالانفصال أو الاستقلال عن السلطة الحاكمة، والانعزال بأنفسهم في كيان سياسي أو مجتمعي، وعدم القبول بالشراكة مع السكان المختلفين عنهم.

11- عنف الانقلابات: وهو العنف الذي تمارسه المؤسسات العسكرية عبر الانقلاب على السلطة الحاكمة، وتعتبر من أكثر أنماط العنف انتشاراً في العالم العربي، على الرغم مما تشكله من تهديد للأمن الإقليمي والدولي.

12- عنف القضايا: وهي أعمال العنف التي تندلع نتيجة قضية محددة، وتدفع ببعض الفئات للتعبير عن سخطها من خلال ممارسة العنف، والاعتداء على الأماكن العامة وتخريب الممتلكات.

تعزيز الاستقطاب

في ظل العجز العربي عن تشكيل نظام إقليمي متوازن؛ تعمد القوى الخارجية إلى تبني منظومات إقليمية من شأنها تقويض فرص قيام مشروع قومي، حيث يطرح الإستراتيجيون الغربيون عدداً من المشاريع التي تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجيو-سياسية للمنطقة العربية، مثل: “الشراكة الأورو-متوسطية”، و”الشرق الأوسط الجديد”، والمبادرة الأمريكية لإصلاح الديمقراطية في الدول العربية”، وغيرها من المبادرات التي تقوم على أساس فرض الوصاية وتعزيز علاقات “اللاتكافؤ”، وبالتالي إضعاف العلاقات العربية-العربية، وبناء منظومة علاقات تتخذ من هشاشة المشهد العربي أساساً للتغلغل والنفوذ.

ومن ضمن تلك المبادرات على سبيل المثال؛ المظلة الدفاعية الأمريكية التي اقترحها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (2006) لتأسيس آلية تعاون دفاعي بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، واقتراح وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون (2009) إنشاء مظلة جماعية لحماية دول المجلس ضد الهجمات الإيرانية المحتملة، عبر معاهدة دفاعية بين دول مجلس التعاون مع الولايات المتحدة على غرار حلف (الناتو)، والتي من شأنها توريط المنطقة في سباق تسلح، تدخل فيه كل من روسيا والصين والهند كأطراف متنافسة، خاصة وأن الولايات المتحدة ترغب في ربط ذلك مع مشروعها في المحيط الهادئ ضد بكين.

وتأتي تلك المقترحات ضمن توجه السياسة الغربية لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية والاقتصادية بالمنطقة، من خلال بلورة ثلاثة أنظمة فرعية عربية، هي:  

1- نظام للأمن والتعاون في منطقة الخليج العربي: يعتمد على تواجد بحري دائم وقواعد عسكرية ثابتة، ويستهدف السيطرة الأمريكية على مصادر الطاقة وحصار النفوذ الروسي والصيني داخل أراضيها، والدفع بإدماج إسرائيل في منظومة الأمن والتعاون الخليجي.

2- نظام للأمن والتعاون في القرن الأفريقي: يضم دول شرق أفريقيا، ويهدف إلى بسط النفوذ الأمريكي على منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر، والسيطرة على المعابر البحرية الدولية وموارد الطاقة، وتوفير قواعد لتنفيذ العمليات الوقائية في منطقة قوس الأزمات الممتد بين جنوب آسيا والمغرب العربي.

3- نظام للأمن والتعاون في المغرب العربي، عبر تفعيل مبادرة التعاون الاقتصادي الأمريكية (ايزنستات) بين دول المغرب العربي، والاتفاقيات الأمنية الثنائية-الجماعية بين دول الساحل الصحراوي الإفريقي مع الولايات المتحدة، وتوسيع اتفاقيات التعاون الجماعي بين دول الشمال الأفريقي، بهدف السيطرة على مضيق جبل طارق، والحوض الغربي للبحر المتوسط.

جدير بالذكر أن هذه التحالفات والمنظومات الأمنية لا يمكن تصنيفها ضمن دائرة التعاون الإقليمي، إذ إنها تشكل تهديداً لدول المنطقة من حيث تعزيز التدخل العسكري الخارجي في أراضيها من جهة، وتوريطها في تنافس القوى الكبرى دون أن يعود ذلك عليها بأية منافع أمنية من جهة ثانية.

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021