الأمن العربي والعودة إلى الأصول

بين "الأصولية" و"العودة إلى الأصول"

يمثل مصطلح “الأصولية” مفهوماً سلبياً عند الغرب، وذلك لارتباطه بالتزمت الديني، وما تركته حقبة الحروب الدينية في أوروبا من شروخ عميقة في الذاكرة الغربية، عززتها سياسات القمع والاضطهاد الذي مارسته الكنيسة في العصور الوسطى.

ونتج عن ذلك بروز تيارات غربية ضخمة تمجد العلمانية، وتربط النص الديني بالتطرف والإرهاب، وخاصة تلك التي ترتبط بالدين الإسلامي، نتيجة الصراعات التي اندلعت مع الغرب المسيحي عبر القرون، وذيوع بعض المفاهيم الليبرالية التي ادعت أن “الخطر الإسلامي” هو المهدد الأكبر للحضارة الغربية.

ويُعرّف الأصولي الإسلامي في المفاهيم الغربية اليوم بأنه: “مؤمن داخل الإسلام يطرح نقداً للدول العلمانية، ويسعى إلى تغيير سلوكيات الدول والأفراد لتتوافق مع قراءة متزمتة للنصوص الإسلامية”، لكن التعامل الغربي يتخطى ذلك التعريف، بحيث بات يمتد ليشمل الدين الإسلامي ككل.

ويمكن تتبع حالة التشنج إزاء الإسلام لدى العديد من الكتاب الغربيين، وعلى رأسهم هنتنغتون، الذي رأى أن الصراع القادم سيكون بين “العالم المسيحي” بقيمه العلمانية من جهة، و”العالم الإسلامي” من جهة أخرى، معتبراً أن الإسلام يعاني من: “حدود دموية في مناطقه الداخلية”، ومشيراً إلى صراعات المسلمين مع الأديان الأخرى.

ورأى هنتنغتون أن المشكلة الأساسية ليست في الأصولية الإسلامية، بل في الدين الإسلامي، واعتبر أن المشكلة الأساسية بالنسبة للدين الإسلامي تكمن في الغرب نفسه، ذو الحضارة المختلفة التي يقتنع أهلها بعالمية ثقافتهم، ووصف المسلمين بأنهم: “عنيفون بالفطرة… فحيثما نظر المرء على امتداد حدود الإسلام يجد أن المسلمين لديهم مشكلات في العيش بسلام مع جيرانهم، فقد نشبت حروب وصراعات بينهم وبين شعوب الحضارات الأخرى من الكاثوليك، والبروتستانت، والأرثوذوكس، والهندوس، والصينيين، والبوذيين، واليهود”.

 ولإثبات دعواه، استشهد هنتنغتون بدراسة إحصائية قام بها الباحث الأمريكي تيد غور، في تسعينيات القرن الماضي، واستنتج فيها أن المسلمين شاركوا في 26 صراعاً من أصل 50 نزاعاً عرقياً-سياسياً، ما يعني أن الصراعات التي انخرط فيها المسلون مع أطراف أخرى تشكل ثلاثة أضعاف ما وقع بين جميع الحضارات الأخرى غير الإسلامية.

وبناء على تلك المعطيات؛ دعا هنتنغتون الغرب إلى ممارسة الهيمنة العسكرية والاقتصادية، معتبراً أن القوة هي ما سيحدد شكل الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى مهما حاول الغرب أن يقول إن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والعلمانية والدستور هي قيم عالمية، ومؤكداً أن تلك القيم لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين، وستؤدي إلى ردود فعل سلبية لديهم، وتوقع أن يشهد المستقبل القريب اندلاع الصراع بين الغرب والدول ذات الأغلبية المسلمة.

ومثلت علاقة، فوكوياما، مع العالم العربي والإسلامي نمطاً أكثر جدلية من علاقة أستاذه هنتنغتون، حيث رأى فوكوياما أن الأصولية الإسلامية: “مدفوعة بحقد ثقافي أكثر من كونها نظاماً بديلاً”، واعتبر أنها “تحمل أوجه شبه سطحية مع الفاشية الأوروبية، من ناحية دعوتها للانقلاب على كل قيم التنوير والعقلانية”.

لكن الأستاذ وتلميذه التزما الصمت المطبق إزاء الحروب الكبرى التي شنها الغرب، وإزاء الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها الحضارة الغربية في أوج سطوتها، مقابل إحداث حالة من الصخب الإعلامي إزاء سلوك بعض الجماعات والدول المسلمة في الحقبة المعاصرة.

استعادة الرصيد التاريخي والفكري

وتكمن المفارقة في أن الإسلام مثل أسس النهوض الحضاري للعرب في ذات الحقبة التي عانت فيها أوروبا من التخلف نتيجة استبداد الكنيسة، خاصة وأن الإسلام قد احتوى على مفاهيم مهمة فيما يتعلق بتقدير العلم، وتعزيز الحريات العامة.

ففي العصر الذهبي للإسلام، والذي امتد خلال الفترة ما بين القرن الثامن والرابع عشر الميلادي، أسهم استتباب الأمن، وما نتج عنه من استقرار اقتصادي واجتماعي، في بناء حضارة واسعة النطاق، اتسمت بالنوع والثراء، وأتاحت للبشرية مجال الإسهام في حقول: الفن، والزراعة، والتجارة، والاقتصاد، والفكر، والأدب، والفلسفة، والعلوم، والطب، وغيرها من المجالات.

وشهدت العشرات من المدن والحواضر العربية حالة متقدمة من الرقي والازدهار، وخاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث كان للترجمة الدور الأكبر في نقل العلوم والمعرفة إلى أقاليم أخرى، وخاصة في أوروبا حيث أسهم دخول الفلسفة والعلوم الإسلامية إليها في تحريرها من الكهنوت المسيحي والانتقال إلى “عصر النهضة”.

علماً بأن البشرية شهدت في ذلك القرن حقبة طويلة من السلام الذي أفضى إلى ازدهار الحركة التجارية على ضفاف بحار العالم القديم، ما نقل الاقتصاد العالمي من الإقطاعية إلى الرأسمالية، ودفع بعجلة الإنتاج الاقتصادي، وشجع حركة التبادل التجاري والصناعة وقطاعات المواصلات والخدمات.

ولا شك في أن النزعة الليبرالية للحط من الدين الإسلامي قد أدت إلى خسارة رصيد نُظُمي كبير في قطاع الدراسات الأمنية، إذ إنها فوتت على الباحثين عشرة قرون من التجارب الرائدة في مجالي العلاقات الدولية، والممارسة الدبلوماسية، وخاصة منها التجربة العثمانية في الأقاليم العربية خلال القرن السادس عشر، حيث صاغ العثمانيون نسقاً متكاملاً من العلاقات الدولية التي أسهمت في إقامة نُظُم سياسية واقتصادية واجتماعية عابرة للقارات.

ولتأكيد تلك الحقائق؛ قام الباحثان، بيبا نوريس ورونالد إنغلهارت، بدراسة القيم السياسية والاجتماعية في المجتمعات الغربية والمسلمة، بالاستفادة من قاعدة بيانات “الدراسة الاستطلاعية للقيم العالمية”، ووجدا أن مُثُل الحرية والتحضر لدى المسلمين لم تكن أقل منها عند الغرب، وأن الغرب لا يمتاز عن الإسلام في تبني تلك المُثُل.

وإذا كانت أوروبا تعتبر تجربتها الأمنية، المتمثلة بمنع وقوع الحروب على أراضيها خلال العقود السبعة التي تلت الحرب العالمية الثانية (1945-2022)؛ إلا أن ذلك لا يعني أن العالم قد نعم بحالة من الأمن والاستقرار خلال الحقبة نفسها، بل كان أمن الغرب معتمداً بالدرجة الأولى على نقل المعارك من أوروبا إلى مناطق أخرى نائية في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق، وغيرها من الأقاليم التي نُكبت بالعمليات العسكرية الغربية، وأسفرت عن ملايين القتلى والجرحى والمشردين.

أما بالنسبة للمنطقة العربية في الحقبة المعاصرة؛ فإن تجربة الدولة-القومية بدأت متعثرة منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك نتيجة للتشوهات التي شابت عملية التأسيس، واستمر التردي منذ ذلك الحين، حتى بلغت أدنى دركاته في مطلع العقد الثالث من الألفية؛ حيث عانت المنطقة (ولا تزال تعاني) من ظروف سياسية واقتصادية مروعة، بالتزامن مع: استمرار الصراعات العنيفة، وسباقات تسلح، وتهديد أمن الطاقة، وعرقلة طرق المواصلات العالمية، وتفشي أفكار التطرف وانتشار الميلشيات المسلحة وجماعات الغلو، ولفظ الدول العربية النسبة الأكبر من اللاجئين والمهاجرين عبر العالم.

وللخروج من دوامة العنف والتردي الأمني العربي؛ حاولت هذه الدراسة نسج منظومة من المفاهيم والتطبيقات عبر الجمع بين: النظريات الفلسفية، والمدارس النقدية، والمناهج الاستقرائية، والتطبيقات المعاصرة، مع التأكيد على مراعاة الخصوصية الإقليمية للمنطقة.

وأكدت الدراسة في الوقت نفسه أن عملية التخارج من دوامة العنف تتطلب جهداً أكبر من محض الترجمة أو الاقتباس من تجارب الآخرين، إذ إنها تتطلب إنشاء “مجتمع أمني عربي” يقوم على مرجعية فكرية تنبع من الخصائص الجغرافية ومن الرصيد التاريخي الغني للمنطقة التي شهدت ظهور نماذج متعددة من نُظُم الإدارة والحكم.

وهنا تكمن مشكلة المهزومين قبل دخول المعترك، والذين يميلون إلى استبعاد الرصيد العربي الإسلامي الثري، مؤثرين النموذج الغربي المتمثل في “نهاية التاريخ”، ومعتقدين بالليبرالية-الديمقراطية مُخلّصاً، ومختزلين القرون العشرة من الدبلوماسية الإسلامية (700-1700) على أنها مجرد “حقبة استبداد”، ما يدعونا للتأكيد على ضرورة تبني مشروع علمي تأصيلي يتناول مختلف النظريات الأمنية وتطبيقاتها في العالم العربي والإسلامي خلال القرون الأربعة عشر الماضية.

وفيما تغص المصنفات العربية المعاصرة بالنقولات عن فلاسفة الغرب كأفلاطون، وهيغل، وكانت، وروسو، ومنتسكيو، ولوك، وهوبز، وحتى بأطروحات الراديكاليين مثل ماركس وميشيل فوكو؛ يمكن ملاحظة الإحجام عن الاستشهاد بنصوص الحقبة العربية-الإسلامية، والاستفادة من تجاربها، وهو أمر يصعب تبريره في ظل وجود مرجعة نظمية متكاملة سبقت الكثير من النظريات الحديثة بنحو 1400عام، ومن جملتها ما يلي:

م

المصطلح

القاعدة

النص القرآني

1

deterrence

الردع: سياسة الاحتفاظ بقوة عسكرية كبيرة وترسانة أسلحة لإحباط أي معتد محتمل من القيام بعدوان.

“وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم”

2

collective security

الأمن الجماعي: مفهوم أن العدوان ضد دولة ما يجب أن يهزم بطريقة جماعية لأن العدوان ضد دولة واحدة هو عدوان ضد الجميع.

“وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله”

3

Security complex

“المركب الأمني”: مجموعة من الدول ترتبط اهتماماتها الأمنية الأساسية بصورة وثيقة، بحيث أنه لا يمكن بحث أوضاعها الأمنية الوطنية بمعزل عن بعضها البعض.

“والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”

4

Economic Security

 الأمن الاقتصادي، وارتباطه بحركة التبادل التجاري.

“لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”

5

pre-emptive war

 

الحرب الاستباقية: التي تشنها قوة ما في محاولة منها لصد أو هزيمة هجوم وشيك أو منع غزو متوقع، أو لاكتساب ميزة إستراتيجية في حرب وشيكة لا مفر منها

“وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء”

6

Anarchy structure

يقوم النظام الدولي على الفوضى وتضارب المصالح، وليس على أساس الانسجام بين الدول التي تقوم العلاقات بينها على أساس صراع مستمر.

“ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”

7

belief system

منظومة المعتقدات: إدراكات منظمة ومتكاملة لدى الأفراد في مجتمع ما تشمل صانعي قرار السياسية الخارجية، والتي غالباً ما تستند إلى تاريخ الماضي الذي يرشدهم إلى تفضيل سياسات معينة عن غيرها.

“خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”

8

Epistemic communities

الجماعات المعرفية: جماعات عابرة للحدود الوطنية من الخبراء والمتخصصين الفنيين الذين يتشاركون في مجموعة من العقائد وفي طريقة مقاربات المشكلات.

“ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”

9

limited wars

الحرب المحدودة: نزاعات مسلحة عادة ما تكون بين الدول يعترف فيها المتحاربون بحدود في كل الموارد المستخدمة، وفي الأهداف السياسية، أي هدف ما أقل من الهزيمة الكاملة للخصم أو استسلامه اللامشروط.

“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”

10

Humanitarian intervention

التدخل الإنساني: أعمال توجب التدخل من خلال المنظمات الدولية أو الجماعة الدولية عموماً باستخدام القوة القسرية لتخفيف المعاناة الإنسانية

“أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير”

11

Total war

الحرب الشاملة: نزاعات مسلحة عادة بين دول قوية عديدة تتسبب في دمار واسع وفقدان كبير في الأروح، يستخدم المشاركون فيها القوة بلا حدود لتحقيق أهدافهم السياسية.

“فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم”

12

Just war tradition

الحرب العادلة: فكرة أن الحروب يجب أن يحكم عليها وفقاً لبندين في العدالة هما: عدالة الحرب ذاتها وعدالة سلوك كل طرف مشارك في الحرب.

“واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل”

13

Nation

الأمة: مجموعة من الناس تتشارك لغة مشتركة أو تاريخاً مشترك أو ثقافة مشتركة.

“كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”

14

peace building

بناء السلام: النشاطات السياسية والاقتصادية بعد النزاع، والتي تهدف إلى حفظ تسويات السلام وتقويتها، وتشمل الإدارة المدنية والانتخابات والتنمية الاقتصادية.

“يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة”

15

sanctions

العقوبات: اقتصادية ودبلوماسية وحتى عسكرية قسرية لتطبيق سياسة دولية أو سياسة ما.

“ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، وليخزي الفاسقين”.

مقارنة المصطلحات الحديثة بالنص القرآني في القضايا الأمنية

وبناء على ضرورات تنويع المصدرية في التنظيم الأمني؛ تدعو الدراسة إلى تبني مشروع أمن إقليمي يحقق الأمن الشامل للأمة العربية، ويصحح مسارها، ويعيد الاعتبار للإنسان باعتباره محور العملية الأمنية برمّتها، وذلك من خلال التأسيس لمرجعية فكرية تمزج الأصالة بالمعاصرة، وتتضمن المصادر التالية:

– النصوص الإسلامية

– التجارب التاريخية

– المناهج الكلاسيكية

– النظريات الحديثة

– المدارس النقدية

مع مراعاة الخصائص الجغرافية والثقافية للمنطقة، والانطلاق منها لتشكيل رؤية متكاملة تشمل إعادة تعريف المحاور التالية من منظور يراعي خصوصيات المنطقة ويستلهم رصيدها وثقافتها:

الأمن الإنساني

الدولة

أمن الدولة

الفرد

النظام السياسي

الأمن الوطني

المجتمع

السيادة

الأمن القومي/الإقليمي

الأمة

الشرعية

الأمن الدولي

الهوية

القوة

المعضلة الأمنية

المصلحة

الحرب

المركب الأمني

الأمن المجتمعي

الإرهاب

الأمن الجماعي

المحاور المفاهيمية للأمن

الرؤية

شباب سوري واعٍ، يشارك في صنع القرار السياسي، ويسهم في صياغة مستقبله، وينافس في شتى ميادين التنمية، لتحقيق ما يتطلع إليه لرفعة وطنه وازدهار مجتمعه

الرسالة

مركز فكر إلكتروني يعمل على إدماج الشباب السوري في مجالات صنع القرار، واحتضان طاقاتهم الكامنة وإبداعاتهم الفكرية والبحثية، وتمكينهم من المساهمة الفاعلة في التنمية وبناء المجتمع، عبر التأسيس لثقافة التميز، وتحفيز المسؤولية، وترسيخ روح المبادرة، لدفعع مسيرة التقدم والازدهار

المشرف العام: د. بشير زين العابدين

وسائل التواصل الاجتماعي

جميع الحقوق محفوظة – شارك شباب © 2021