في خطوة باتجاه تقديم رؤية تطبيقية للأمن الإقليمي؛ حاول الباحثان؛ هرير دكمجيان وهوفان سيمونيان، الإجابة على جملة من التساؤلات المتعلقة بتقاطعات الأمن، من خلال اتخاذ الدول المطلة على بحر قزوين نموذجاً لتقصي تداخل الأمن الإقليمي مع الأمن الدولي، مؤكدين أن النظريات الأمنية الغربية لم تتمكن من استشراف ما آلت إليه الأوضاع في تلك المنطقة، وما نتج عنها من صراع بين القوى الفاعلة (أذربيجان، وتركمانستان، وإيران، وكازاخستان، وروسيا) عقب اكتشاف النفط، حيث ظهرت عوامل جديدة في الصراع الإقليمي لم تكن في الحسبان؛ ومن جملتها: ظهور لاعبين جدد خارج إطار الدول، كالمنظمات المالية الدولية، والمجموعات الدينية المسلحة، والحركات القومية، وغيرها من القوى التي انخرطت في الصراع، وأصبحت تقوم بأدوار أكبر مما يمكن أن تفعله بعض الدول، وما مثلته مظاهر العولمة الاقتصادية، والعولمة الثقافية، وعولمة الاتصالات، من فرص لتدخل القوى الكبرى في شؤون الإقليم.
ولمعالجة مشكلة قصور النظريات التقليدية عن فهم خصوصيات الأمن الإقليمي؛ اقترح الباحثان أربعة محاور للتحليل، هي:
- تحليل المجتمعات والمكونات السكانية داخل دول الإقليم على المستوى الأصغر (micro level)
- تحليل العلاقة بين الدول في الإقليم، على مستوى علاقة الدولة بالدولة (state to state level)
- تحليل العلاقة بين الدول المحورية والدول الهامشية في الإقليم، بناء على مستوى الموقع والأهمية والموارد، مقابل الدول الهامشية التي لا تمتلك تلك العناصر.
- تحليل علاقة دول الإقليم بالقوى العظمى الفاعلة، وتأثيراتها في المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية.
وأضافا بعد ذلك عنصراً خامساً، يتمثل في الدمج ما بين ثلاثة مكونات رئيسية، هي: العولمة، والجيوبولوتيك، والتاريخ.
وفي العام التالي (2004)؛ نشر مايكل كريغ دراسة بعنوان: “تقييم البدائل الأمنية للخليج العربي عبر إطار نظري”، حاول فيها تقديم نموذج تطبيقي ضمن نظريات العلاقات الدولية، حيث استعرض ثلاثة نماذج هي:
1- النموذج الواقعي المتمثل في إنشاء ميزان ديناميكي للقوى، تتغير فيه علاقات التحالف والصداقة والعداء وفقاً للتحولات.
2- النموذج القائم على قيام قوة مهيمنة (الولايات المتحدة الأمريكية) بإنشاء تحالف يضم دول المنطقة، ويعمل على توظيف الأدوات الاقتصادية والعسكرية للحد من سباق التسلح والحد من محاولات الدول المتمردة (إيران) لحيازة السلاح النووي.
3- النموذج الليبرالي القائم على مفهوم “الأمن التعاوني”، والذي يضم سائر الأطراف في منظومة تقوم على مفهوم المنافع المشتركة.
واعتبر كريغ أن تحقيق الأمن المستدام مرهون بقدرة دول المنطقة على النموذج الثالث، والمتمثل في إقامة علاقات مستقرة فيما بينها، وليس على نموذجي “الردع” أو “الهيمنة الخارجية”، ووضع ثمانية شروط لضمان نجاح نموذج الأمن التعاوني، هي:
1 | إنشاء منظومة توافقية لرسم السياسات الخارجية بصورة مشتركة بين الدول الأعضاء. |
2 | التوصل إلى ترتيبات “عادلة” و”شرعية” يمكن أن يقوم السلام والاستقرار على أساسها. |
3 | تحليل النظام الدولي بالقدرة على استيعاب سائر الدول والأطراف ما دون الدولة ضمن آلية تحظى بالاعتراف الدولي. |
4 | تأسيس نظام “ردع” يمنع سائر الأطراف من تبني سياسات عدائية شريطة أن تكون ضمن المنظومة الإقليمية بدلاً من أن تُفرض من قبل قوة خارجية مهيمنة. |
5 | توفير المؤسسات اللازمة لسن القوانين والتشريعات، ومراقبة التزام سائر الأطراف بها. |
6 | تبني ثقافة إقليمية ترفض اللجوء إلى العنف في معالجة النزاعات البينية. |
7 | تنفيذ برامج إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، تعود بالنفع على سائر الأطراف. |
8 | مواءمة المنظومة الإقليمية مع الإرث التاريخي للإقليم، وضمان معالجة النزاعات التاريخية بصورة جذرية لضمان عدم لجوء أي من الأطراف إلى العنف من جديد. |
شروط إنشاء نظام أمن إقليمي تعاوني
ومثّل نموذج كريغ محاولة جريئة للدمج بين بعض أطروحات المدارس التقليدية الثلاثة، مستعيراً مفاهيم “الردع” و”القوة المهيمنة”، و”توازن القوى”، و”نزع السلاح”، ومستوعباً الأبعاد المفاهيمية عبر الحث على برامج إصلاحية شاملة، وتبني ثقافة سلمية من قبل سائر الأطراف كما يرى البنائيون.
وفي تحليله للوضع القائم؛ رأى كريغ أنه لا يمكن تطبيق النموذج الأوروبي على الحالة العربية، لأن دول المنطقة لم تمر بالنمط التدريجي الذي شهدته مرحلة التشكل الأوروبي الشاق عبر ثلاثة قرون، واعتبر أن الانتقائية في التحالفات، ولجوء الدول إلى إبرام اتفاقيات جانبية، وعدم قدرتها على إدماج سائر الأطراف في توافقات مشتركة؛ حالت دون تحقيق الأمن والاستقرار، خاصة وأن بعض القوى (إيران) تتعرض للعقوبات، فيما تتشارك دول أخرى (دول مجلس التعاون) المنافع الاقتصادية المشتركة، ورأى أنه لا يمكن إنشاء حالة توازن إقليمي في ظل الفروق الكبيرة بين دول المنطقة، الأمر الذي يفرض تبني إصلاحات داخلية تهدف إلى إنشاء منظومة إقليمية تقوم على “توازن المصالح” بدلاً من “توازن القوى”.
وفي العام نفسه (2004)، نشر الباحث الإيطالي، فولفيو أتينا، دراسة استعرض فيها عدة نماذج يمكن تطبيقها لإنشاء منظومة أمن إقليمي في حوض البحر الأبيض المتوسط، وأتبعها بدراسة في العام التالي؛ رأى فيها أن التطبيقات الأمنية تتغير بتغير الزمان والظروف، وأن النماذج الواقعية القائمة على الهيمنة العسكرية وتوازن القوى لم تعد قابلة للتطبيق، وخاصة في آسيا وأفريقيا، حيث تتطلب صياغة النظام مراعاة الخصوصيات الإقليمية، وفهم أنماط الصراعات القائمة فيها، والانطلاق من ذلك لنسج منظومة تقوم على أدوات مغايرة تتضمن:
1- إبرام اتفاقيات أمنية.
2- إنشاء منظمات إقليمية.
3- اتخاذ إجراءات بناء ثقة.
4- تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري
5- إنشاء مؤسسات للحوار، بهدف التوصل إلى رؤى مشتركة حول سبل تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي.
ورأى أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال توصل الدول إلى رؤى مشتركة للاعتمادية وفض النزاعات بالطرق السلمية، شريطة عدم تدخل أية قوى خارجية، بهدف تفادي سياسات الاستقطاب ودرء التدخل الخارجي.
وبعد استيفاء تلك الإجراءات؛ يقوم نموذج فولفيو على أربعة عناصر رئيسة هي:
1- الشروط المسبقة: والتي تتضمن وعياً مشتركاً لدى دول الإقليم بمقتضيات الاعتمادية المتبادلة لتحقيق السلام، والإيمان بأنه لا يمكن لأية دولة بمفردها أن تحقق ذلك من خلال محاولات الهيمنة والنفوذ، وأن يكون الإقليم خالياً من الحروب والنزاعات وسباقات التسلح، و أن لا يكون منخرطاً في صراعات خارجية.
2- الشروط: يشترط في النموذج الأمني توافق جميع الأطراف الفاعلة على أن تحقيق الأمن المشترك يتم عبر التعاون فيما بينها، وخاصة فيما يتعلق بآليات الحد من العنف، وتحقيق الاستقرار الداخلي في الدول المعنية، وتبني برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي.
3- البنية والآليات: والتي تتضمن صياغة اتفاقيات شاملة توقعها جميع الأطراف، وإنشاء منظمات توفر المراقبة وتضمن الامتثال، وتتخذ حزمة من الإجراءات والآليات لمعالجة النزاعات بالطرق السلمية.
4- النتائج: ردم الهوة بين الدول الأعضاء، والناتجة عن اختلاف رؤاها للأمن وآليات تحقيق الأمن والاستقرار المستدام، والعمل على خلال إخراج الأمن من مفهومه الوطني الضيق إلى بعده الإقليمي، والتعاون بين الدول في معالجة المهددات العابرة للحدود.
م | الشرط | تقييم أداء جوار أوروبا الشرق أوسطي |
1 | الوعي بضرورة الاعتمادية ومقتضياتها | مرتفع |
2 | الاستخدام المحدود للعنف | متوسط |
3 | عدم وجود صراع قوى في المنطقة | هنالك صراع قوى |
4 | توفر الإجماع على الحد من العنف وتغليب السلم | متوسط/منخفض |
5 | التوافق على تحقيق الاستقرار الداخلي | متنوع |
6 | التوافق على تحقيق التنمية الاقتصادية | مرتفع |
7 | عدم الانضمام إلى أحلاف عسكرية متصارعة | هنالك تحالفات متعارضة |
8 | اتفاقيات أساسية مكتوبة | لا يوجد |
9 | الاتفاق على إجراءات عملياتية ومكاتب مشتركة | لا يوجد |
10 | إجراءات مشتركة لإدارة النزاعات ومعالجتها | غير واضح |
11 | عدم تدخل قوى من خارج الإقليم | هنالك تدخل خارجي |
12 | تقليص الاختلاف في الثقافة الأمنية | غير واضح |
13 | الاتفاق على نزع السياسات الدفاعية من إطارها الوطني | لا يوجد |
14 | العمل على إنشاء مجتمع أمني | غير واضح |
نموذج فولفيو لإنشاء منظومة شرق أوسطية تتكامل مع امتدادها الأوروبي، مع تقييم إمكانية تنفيذه
وفي عام 2005؛ نشر الباحث الدنماركي، بيورن ميولر، دراسة قدّم فيها توصيات للدول العربية حول تحقيق الأمن الإقليمي وفق رؤية “مدرسة كوبنهاغن”، حيث استعرض ملامح أولية لإنشاء نموذج أمني، وآليات تطبيقه، عبر منظومة تدمج بين مفاهيم: “توازن القوى”، و”الردع”، و”الحد من التسلح”، و”بناء الثقة”، و”السلام الديمقراطي”، و”الاندماج الإقليمي”، ورأى أن النموذج الأوروبي غير قابل للتطبيق في الحالة العربية نظراً للفوارق الكبيرة بين أوضاع الإقليمين.
وفي محاولة لتطبيق أطروحات بوزان؛ وضع بيورن ستة عناصر أساسية لإنشاء “مركب أمني إقليمي”، ثلاثة منها على مستوى الدول، هي: الدول الكبرى، والدول الصغيرة، والقوى الخارجية، وثلاثة أخرى على مستوى القوى ما دون الدولة هي: الجماعات الإثنية والمذهبية، والمنظمات الإقليمية، والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأوبك والبنك الدولي وغيرها من المنظمات.
ورأى ميولر أن التحدي الأكبر يكمن في القدرة على تحقيق التجانس بين هذه المكونات التي تتبنى في الوقت الحالي تصورات متباينة، وتقوم على أنظمة مختلفة، في بيئة تتسم بالندية والصراع.
واعتبر أن التباين في أحجام الدول، وفي تعداد سكانها، وفي مواردها ومستوى تسلح كل منها، يعرقل فرص إقامة نظام “توازن للقوى” في المنطقة، فضلاً عن انخراط تلك الدول في تحالفات ومنظمات مختلفة في توجهاتها، الأمر الذي يمنعها من تحقيق المواءمة الأمنية فيما بينها، خاصة وأنها كانت مسرحاً لحروب طاحنة كالحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وغزو الكويت (1991)، وغزو العراق (2003) الذي غيّر توازنات المنطقة لصالح إيران.
وبناء على هذه المعطيات؛ استبعد بيورن إمكانية إقامة نظام وفق مفهوم القوة أو وفق هيمنة طرف خارجي، واقترح بديلاً يتمثل في إيجاد آلية تجمع الحلفاء والخصوم في توافقات تتمتع بالشرعية الدولية، وتحظى بتعاون المنظمات الإقليمية والدولية الفاعلة.
وفي 2006؛ قدم مايكل نايتس نظرة أكثر شمولاً، تمثلت في اقتراحه استبدال السياسات التقليدية، القائمة على “العمودين المتساندين” (twin pillars) بمبدأ الارتكاز على: “مجموعة أعمدة” (multi pillars) تتوزع فيها المسؤوليات وتقل فيها نسب المخاطرة.
وظهرت عقب ذلك العديد من الدراسات الأمنية، إلا أن معظمها كان ينزع إلى التحليل السياسي وتقييم الأوضاع الأمنية وتحليل تبعاتها، دون أن يرقى أيٌ منها إلى مستوى تقديم نماذج أمنية شاملة، ولذلك فإن المباحث التالية ستحاول تقديم بعض التطبيقات، والمعايير التي يمكن الاستناد عليها لإنشاء نظام أمن إقليمي عربي.