ترى العديد من الدراسات المعاصرة استحالة إنشاء نظام إقليمي مستقر في المنطقة العربية لأنها تحولت إلى “بيئة حرب” (war zone) نتيجة ما أفرزته حقبة الثورات الشعبية (2011-2022) وما تسببت به من فوضى عارمة، ولذلك فإنه من غير الممكن إنشاء نظام إقليمي وفق المواصفات التي تم طرحها في الفصول الماضية، بل يجب أن تكون الأولوية لبرامج تحقيق السلم الأهلي، وتوفير الظروف المواتية لاستعادة الأمن.
وللفصل بين مختلف الآراء المتضاربة حول طبيعة المرحلة التي تمر بها المنطقة العربية، يتعين تحليل المرحلة التي وصل إليها الصراع، من خلال آلية القياس التالية:
1- مرحلة نزاع المجتمع مع الدولة (statism)، والتي أنهت احتكار السلطة للقوة، وحدّت من قدرتها على تسوية النزاعات بالقسر، حيث باتت العديد من المجموعات السكانية مسلحة، وقادرة على تحدي الدولة. 2- مرحلة الصراع المجتمعي (populism) والتي تراجع فيها دور الدولة، مقابل احتدام الصراع بين مختلف الفئات المجتمعية التي تناقضت مصالحها وتعارضت رؤاها.
3- مرحلة تعدد أطراف الصراع (pluralism) والتي اتسمت بتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين، والقوى العابرة للحدود، وما في حكمها من إثنيات وطوائف شكلت ميلشيات مسلحة وأسهمت في تأجيج الصراع.
4- مرحلة الأزمة الدولية (international crisis) المتمثلة في التدخلات الخارجية التي أخرجت الصراع من إطاره المحلي، ونقلته إلى مستوى العالمية.
كما يمكن استخدام حزمة معايير أخرى لتحديد الأطوار التي مرت بها صراعات المنطقة، ومعرفة إذا ما كانت قد نضجت بالقدر الملائم لمعالجتها، ومن ضمن تلك التصنيفات، ما يلي:
1- صراع عنيف: تورطت فيه النُظُم الاستبدادية بارتكاب أفعال سببت الإيذاء الجسدي والنفسي والاجتماعي والبيئي للشعوب، وأججت الأزمة عبر احتكار العنف المسلح واستخدامه ضد الجماهير.
2- صراع مسلح: نتج عن تسليح بعض الدول الخارجية عدداً من المجموعات المحلية، ولجوء سائر أطراف الصراع إلى استخدام القوة المسلحة، وفق قواعد الاشتباك المتعارف عليها في المعارك بين الدول.
3- صراع دولي: تمثل في تدخل عدد من الدول الخارجية، والأطراف الفاعلة دون الدول، بحيث تحولت الثورات الشعبية إلى صراع دولي تتنازع فيه أطراف خارجية على المصالح ومناطق النفوذ.
وفي هذا النمط من الصراع المركب يتعين تبني إستراتيجيات مغايرة، تتضمن تحليل الصراع، الذي يقوم في الحالة العربية على الأضلاع الثلاثة التالية:
1- اتجاهات الصراع: والتي تتضمن استقراء رؤية مختلف الأطراف لأدوارهم الخاصة، ونظرتهم لمآلات الصراع، والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها.
2- سلوك الأطراف المتصارعة: بما في ذلك الممارسات العنيفة، والأدوات الاقتصادية، والحملات الإعلامية، واستشراف المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأطراف في سلوكها.
3- السياق: الذي يتطلب وضع نمط هيكلي يتضمن مسببات الصراع، والاستقطابات الفكرية والمذهبية، وتحولات منظومات القيم والمفاهيم الحقوقية، وغيرها من السياقات المترادفة التي تسهم في تحديد وتيرة الصراع.
مع التأكيد على أن حالة الصراع مستدامة في سائر النظريات، وهي ظاهرة شاملة زماناً ومكاناً، إذ إنه من غير الممكن إنهاؤها بصورة مطلقة، وبالتالي فإن المعالجة الأنسب في مثل هذه الحالة تتمثل في إعمال أدوات فض النزاع، والحد من آثاره السلبية، وإدارته عبر التوفيق بين المصالح المشتركة، والحد من الاشتباكات المسلحة عبر اللجوء إلى التفاوض والدبلوماسية.